يعيش عدد من فصائل الحراك الجنوبي حالة من الإرباك الشديد بسبب تخليها عن المفهوم الصحيح للقضية الجنوبية. الجنوب هو المشروع السياسي وليس الجغرافيا، ومن يريد أن يتخلى عن المشروع السياسي يكون قد تخلى عن القضية الجنوبية نفسها، أو منحها بعدا مخالفا لذاكرة وتاريخ "اليمن الديمقراطي"، وبالتالي ذاكرة اليمنيين الجنوبيين. مطلوب من عديد من فصائل الحراك الجنوبي أن تثق بنفسها وبقضيتها، وأن تتصالح مع ذاكرتها الوطنية، لأن هذا وحده هو مصدر تفوقها وسبب صحة وعدالة قضيتها، وبدون ذلك تظل مربكة وممزقة، ولا تستطيع الوقوف على بر. كيف يمكن لي - مثلا- أن أتحدث عن تاريخ وذاكرة الجنوب المحتل من قبل القوى الشمالية وحلفائها من القوى الرجعية في الجنوب، وأنا ألغي ذاكرة الجنوبيين أنفسهم، وأمجد القوى الرجعية والسلاطينية التي قام الكيان الجنوبي على أنقاضها، لا، بل وأعمل قطيعة وخصومة مع كل القوى التي كونت الجنوب اليمني ككيان سياسي وقانوني توحد مع الكيان الشمالي في 22 مايو 1990؟ يمكن للجنوب أن يعيد إعلان الانفصال، ليست هذه هي المشكلة، ولكن لا يمكن للحراك الجنوبي أن يلغي ذاكرة الجنوبيين من كونهم يمنيين، ومن كونهم كانوا يمتلكون مشروعا سياسيا متقدما على مشروع الشمال، وهو ما تم ضربه وإلغاؤه في الحرب القذرة والاحتلالية التي شنتها قوى الشمال الرجعي في 27 أبريل 1994. لم تخلق القضية الجنوبية إلا بإخراج الحزب الاشتراكي اليمني كممثل لشراكة الجنوب اليمني في السلطة الموحدة، وبدون مصالحة الحراك مع الحزب، وبدون جعله رافعة القضية الجنوبية، وأحد أهم فصائل الحراك الجنوبي نفسه، تكون بعض فصائل الحراك كمن يحرث في البحر، ويهيئ بزعيقه الفارغ الجنوب لقوى أخرى لاحتلاله من جديد، بعد سقوط أو هزيمة وانقسام تحالف نظام 1994. ولعل القاعدة والجماعات الدينية المسلحة والموجودة على الأرض فعلا، هي المهيأة للاحتلال الجديد، وليس حكم أي من فصائل الحراك للجنوب.