لم يعد غير صوت الرصاص وحده من يعكر سكون المدينة، وتضج به سماؤها الهادئة، ويرسم ملامح المستقبل المرعب الذي قد يعانيه سكانها، فثمة مؤشرات وشواهد خطيرة باتت تهدد الآن حياة مدينة عدن وسكانها البسطاء، من خلال تفشي أعمال الفوضى وانتشار ظاهرة حمل السلاح في شوارع ومناطق سكنية باتت مدججة بالسلاح وتعج بالمسلحين. والوقائع تتحدث عن وجود من يسعى إلى جعل مدينة عدن منصة واسعة لصراعات سياسية قادمة، وساحة مفتوحة لاحتضان أعمال مسلحة وعنيفة، بعد أن سعت كل جهة لها مصالح أو خصومات مع أطراف مناوئة إلى تسليح عناصرها وأنصارها، لأجل فرض سيطرتها ووصايتها على سكان المدينة، وإثبات تواجدها على نحو تستمرئ فيه الغاية النرجسية دون وضع حسبان لعواقب الانفجار الذي يترقبه سكان المدينة وما يحاك ضدهم من مؤامرات دنيئة، تستهدف في المقام الأول شبابها الذين سيكونون وحدهم في صدارة الموت بعد أن رهنوا أنفسهم ضحايا لغيرهم، وحملوا السلاح تنفيذاً لأجندة ومشاريع تنسجم مع أهداف ومصالح أولئك الداعمون لأعمال التسليح، والهادفين إلى إغراق سكان المدينة في لجة بحراً من الاقتتال فيما بينهم. جهات تقف وراء أعمال التسليح هناك جهات وشخصيات بعينها تدرك جيداً أهدافها وتحسب بدقة لحساباتها، هي من وقفت وراء استقطاب شرائح من الشباب من فئات المراهقين والمهمشين والعاطلين عن العمل في مدينة عدن، الذين انجروا بدافع الحصول على المال أو التصديق لوعود توظيف وهمية روجت إبان ذروة الأزمة السياسية والثورة الشعبية المطالبة بالتغيير وإسقاط النظام، وتولت تلكم الجهات بنفسها الإشراف على عملية تسليحهم وتجنيدهم ضمن تجمعات مسلحة ونشرها في نطاق الأحياء السكانية الهامة. وبحسب ما كشفته مصادر أمنية وحقوقية، أن ما يقارب 4000 قطعة سلاح تم نشرها في متناول الشباب بمحافظة عدن خلال 3 أشهر فقط من عمر الأزمة، وهناك من قام بتسليم السلاح لشباب كانوا يعملون في الأمن أثناء فعاليات خليجي 20 قبل الاستغناء عنهم وأطلق عليهم لاحقاً تسمية "طيور الجنة"، بهدف إحداث صراعات داخلية وإثارة البلبلة والفوضى وإرباك مصالح مناوئها، والمتهم فيها شخصيات محسوبة على النظام السابق وأخرى على أحزاب المعارضة، بالإضافة إلى حركات غير رسمية سعت من جانبها إلى تسليح الشباب ووضعهم ضمن قواعد لعبة تغذيها شعارات محورها ديني بإقامة خلافة إسلامية، والأخرى وطني وهدفها الاستقلال والتحرير. والوارد من الاتهامات المتبادلة بين مختلف الأطراف المتصارعة، أن سباق التسلح والسماح بولوج هذه الأسلحة وبكميات واسعة ومختلفة في نطاق محافظة عدن، تنحصر قرائنها بين فلول النظام السابق وبين بعض أحزاب المعارضة، والجميع فيهم يحاولون إحكام سيطرتهم الميدانية وإظهار مراكز قوتهم السياسية في الساحة العدنية، بالتناوب مع وجود شطحات لتكتلات سياسية تطالب بتفجير مواقف عسكرية في المدينة بغية خلط الأوراق السياسية وتغليب موازين القوة والسيطرة لصالحها، كل ذلك يحدث دون الاكتراث بالنتائج الكارثية التي تتحملها مختلف الأطراف المعنية والتي تحاول لعب أدوارها والحفاظ على مصالحها، وإبقاء سكان المدينة وحدهم في خطر دائم يهدد أرواحهم. والمؤسف أن ظاهرة حمل السلاح في شوارع عدن، باتت حالياً ظاهرة غير محظورة بعكس ما كنات عليه في السابق، وهي ظاهرة أصبحت لا تحتاج إلى تراخيص رسمية، بعد أن أعطت كل جهة سياسية وشخصيات نافذة الحق لنفسها بتوزيع السلاح بدوافع الحماية الشخصية وتحصين مقرات أنشطتها، بما فيها مؤسسات وشركات تجارية سعت هي أيضاً إلى توزيع السلاح في متناول موظفيها لحماية مبانيها وممتلكاتها الخاصة. تزايد جرائم القتل والسطو المسلح خلال عام واحد أضعاف ما كان عليه في السنوات السابقة لو أردنا الحصول على أرقام ومعلومات بشأن أعمال القتل وجرائم التقطع والسطو المسلح التي وقعت في محافظة عدن خلال السنة الأخيرة الماضية، سواء أعمال القتل المرتبطة برجال الأمن أو بأشخاص مجهولين قاموا بتصفية خصومهم وسرقة ضحاياهم بعيداً عن طائلة القانون، سنجد بأنها تفوق أضعاف حجم المعدلات التي سجلتها المحافظة خلال السنوات السابقة. ونورد من سجلات جرائم القتل وأعمال التقطع والسطو المسلح التي حدثت في مدينة عدن خلال شهر واحد فقط، على سبيل الاستدلال لا الحصر، مقتل مواطن يعمل في مجال المقاولة يدعى "أمين عبده قائد" جرى تصفيته من قبل مسلحين أطلقوا عليه النار في الشارع العام بمديرية "المنصورة" أمام مرأى المواطنين، وقيام مجموعة مسلحة من 9 أشخاص، بتنفيذ عملية سطو مسلح لمبنى مكتب البريد في منطقة البساتين ب "دار سعد"، وإشهار أسلحتهم بوجه المواطنين واستلاب مقتنياتهم الخاصة من مبالغ وهواتف نقالة وانتزاع قلائد ذهب من عنقي فتاتين، إلى جانب قيام مجموعة مسلحة من الشباب يضعون الوشاح الأسود على وجوههم باختطاف طاقم طبي وسرقة أغراض أعضائه الشخصية، أعقبه قيام مجموعة مسلحة بمحاولة سرقة مكتب صندوق النظافة في مديرية "دار سعد"، وقيام مسلحين آخرين بتنفيذ عملية سطو مسلح على محل لبيع الذهب والمجوهرات في مديرية "الشيخ عثمان" ونهب كمية كبيرة من الذهب بعد قتل صاحب المحل بالرصاص الحي، أمام ذهول أعين من المواطنين، كما تعرض مواطن يملك سيارة (تاكسي) في مديرية "المنصورة" يدعى "فتحي أحمد" لعملية تقطع مسلح من قبل 4 مسلحين، أطلقوا الرصاص على إطارات عربته وقاموا بسرقة 800 ألف ريال من مرافقه، بالإضافة إلى مقتل مواطن يدعى "مسعد معكر" وإصابة ابن عمه على أرضية تم البسط عليها في مديرية "المنصورة" وتطور النزاع إلى استخدام السلاح الحي بين المتخاصمين، تلاها مصرع تاجر خضروات وإصابة 3 مواطنين بجروح خطيرة، بعد أن تم اعتراضهم من قبل مسلحين في مديرية "دارسعد" قاموا بنهب سيارتهم أثناء قيامهم بنقل الخضروات إلى سوق المدينة، وأخيراً قيام مجموعة مسلحة من الشباب باقتحام مصنع "الغزل والنسيج" في منطقة "القاهرة" وقتل حارس المصنع ويدعى "صديق" بأربعين طلقة في جسده، وسرقة معدات المصنع، ناهيك عن بعض الجرائم والتقطعات الخطيرة التي لم يجر تسجيلها في البلاغات الرسمية. كل ذلك حدث في نطاق محافظة عدن التي مازالت تعيش في ظل حالة انفلات أمني خطير سمح بتزايد أعمال القتل وجرائم السطو المسلح، بعد أن أسهم ذلك الانفلات في انتشار السلاح بين أيدي الشباب العاطلين عن العمل، في ظاهرة لم تكن مألوفة في المحافظة، من حيث مستوى الجرأة والقدرة والتنظيم في استخدام أدوات تنفيذها، دون أن يكون للأجهزة الأمنية دور بارز في حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم الخاصة. جهود أمنية ضعيفة في مكافحة ظاهرة حمل السلاح بعدن حتى الآن عجزت الدوائر الرسمية والفعاليات السياسية والمدنية عن تشكيل مجالس تنسيق وتفاهم فيما بينها، لمكافحة ظاهرة حمل السلاح في شوارع مدينة عدن، وكذا فشلها في مواجهة التحديات المعيشية والأمنية والاجتماعية، وهو أمر يثير الاستغراب والريبة، خصوصاً وأن ظاهرة انتشار السلاح والعبث به بين يدي الشباب والمراهقين، أضحت من الصور المألوفة التي لم تحرك إزاءها الأجهزة الأمنية ساكناً في التصدي لوقف التصرفات الطائشة التي يعمد إليها المسلحون ومنها إطلاق الأعيرة النارية وسط الأحياء والحارات السكنية، وبمزاجية سمجة تهدف إلى ترويع الأسر الآمنة في منازلها، وإقلاق سكينة المجتمع الآمن والمستقر في عدن، على الرغم من الخطة الأمنية التي وضعها أعضاء السلطة المحلية والمكاتب التنفيذية والأمنية بالمحافظة، مع مختلف الفعاليات السياسية والأعضاء المنتمين لمختلف الأحزاب والتكتلات السياسية بهدف تخفيف حدة الاحتقان السائد بينها، وأخذ الوعود بشأن عدم تلويح الأخر بندقيته تجاه الأخر، تمهيداً لإنهاء ظاهرة انتشار السلاح في شوارع المدينة، ومعالجة قضايا الأمن والإشكاليات الاجتماعية. غير أن جهود السلطة المحلية والأجهزة الأمنية لم تفلح في تنفيذ خطتها، تاركة علامة سؤال كبيرة في أذهان عامة المواطنين، عن عدم تفاعل الأجهزة الأمنية في ملاحقة المسلحين ومصادرة أسلحتهم، والعمل على ترسيخ القانون والنظام وترجمة رؤية المحافظة في تفعيل جهود جميع المؤسسات والمرافق والمجالس الأهلية، ودفعها باتجاه إعادة أوضاع المحافظة إلى ما كانت عليه في سابق عهدها، ودون الاستجابة إلى أعمال الابتزاز أو الرضوخ لوسائل العنف والقوة من قبل أطراف أو أشخاص مارقين يحاولون إثبات كيانهم عبر اللجوء إلى السلاح. لهذا فإن إشكالية اقتناء السلاح في عدن، ومشاهدة المجاميع الشابة وهي تتجول مسلحة في أسواق وشوارع ظلت لسنوات طويلة تتمتع بخصائص ونموذج المجتمع المدني المتحضر، ستظل واحدة من القضايا المعيقة لتحقيق وعود بناء الدولة المدنية الحديثة التي ثار لأجلها الشباب في الساحات، ودفعوا أرواحهم زهيدة في سبيل غايتها. وهي إشكالية ستزيد أيضاً من مستوى تعقيدات الوضع الأمني، والذي بغيابه سيجعل من مظاهر حمل السلاح وتفشيه في شوارع المدينة مقدمة لسيناريو محتمل من صدام وصراع دموي قادم بين الأطراف المتنازعة، تستشري معه مظاهر العنف والفوضى والتقطع والسطو المسلح إلى مستوى يصعب السيطرة عليه. أسواق سوداء في "عدن" ازدهرت فيها تجارة السلاح أسهمت المعارك التي دارت في محافظة أبين بين القوات الحكومية ومقاتلي "القاعدة" إلى حد واسع وملحوظ في ازدهار السوق السوداء في محافظة عدن، التي كانت تقتصر أنشطة العاملين فيها على بيع المعدات والأجهزة والمقتنيات المنزلية المستهلكة، وتوسعت دوائر أنشطتها مع زيادة المعدات والأجهزة والمعادن المنهوبة من مقار ومنازل المواطنين في محافظة أبين، والاتجار بالمؤن والمخصصات المتعلقة بالنازحين الفارين وبيعها بأسعار تعادل نصف أسعارها الحقيقية. بيد أن المسألة تطورت خلال ألازمة السياسية وانفلات الأوضاع الأمنية في عدن، إلى مستوى قيام بعض العاملين في الأسواق السوداء برفع حجم تجارتهم المتواضعة إلى بيع بعض أنواع الأسلحة المهربة من أبين، وبصورة غير مباشرة عبر وسطاء محليين، ومن أبرز الأسواق في محافظة عدن التي ازدهرت فيها خلسة تجارة بيع الأسلحة ومتعلقاتها من الذخائر الحية، سوق "الشيخ عثمان" لبيع السلع والمعدات المستهلكة والقديمة، الذي كانت تتم فيه صفقات مستمرة لبيع قطع أسلحة فردية مختلفة المنشأ وبقايا من مواد متفجرة، منها أسلحة وآليات رشاشة ومسدسات صغيرة أمريكية وروسية الصنع، وتتم عملية التسليم في زوايا الشوارع والأزقة العامة في وضح النهار لروادها من المشترين من فئات المشائخ ورجال قبائل والشخصيات التجارية. ويبلغ معدل سعر قطعة السلاح من نوع (تاتا) من 60 إلى 70 ألف ريال، وسعر السلاح الآلي ما بين 150 إلى 200 ألف ريال، الرصاصة الواحدة كانت تباع بسعر زهيد 50 ريالاً، والقنبلة اليدوية الواحدة ما بين 3000 إلى 5000 ألف ريال، دون أن تكون هناك رقابة أو مساءلة أمنية أو تنظيم حملات تفتيش ومداهمة لنقاط البيع التي كانت تتم فيها عملية الترويج لتلكم الأسلحة أمام مرأى ومسمع رواد السوق. تقاليد حمل السلاح في اليمن من المعوقات التي تعيق بناء الدولة المدنية تشير الإحصائيات التقديرية بحسب المصادر المستقلة، إلى ارتفاع نسبة انتشار السلاح في اليمن مع اندلاع الثورة الشبابية في مطلع فبراير العام الماضي، وبروز الأزمة السياسية بين رموز السلطة والمعارضة في صنعاء من نحو 60 مليوناً قطعة سلاح إلى 68 مليون قطعة سلاح، منها 11 مليوناً في متناول المواطنين ورجال القبائل الذين يعتبرونها أسلحة شخصية في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 21 مليون نسمة، ويشهد اضطرابات وصراعات داخلية مختلفة، ومؤشرات مضطردة من الأمية والفاقة والبطالة، وغيرها من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وترجع أسباب ارتفاع معدل ولوج السلاح إلى اليمن بوسائل قانونية وأخرى غير قانونية بواسطة التهريب الذي توسعت دائرته خلال السنوات الخمس الأخيرة عبر المنافذ والحدود البرية والبحرية بسبب غياب أنظمة رقابية شديدة، وذلك للاتجار بها في أسواق محلية تتواجد في الكثير من المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة نفوذ رجال القبائل الذين يعتبرون وحمل السلاح موروثاً اجتماعياً وجزءاً من التقاليد والوجاهة القبلية، حيث يباع ويشترى فيها السلاح جهراً تحت علم ودراية الدولة المركزية، ولا تقتصر تلكم الأسواق على بيع الأسلحة التقليدية البسيطة، ولكنها تعدت إلى بيع أنواع مختلفة من الأسلحة المتوسطة، وغيرها من القنابل والألغام والمتفجرات وسلاح ال RBG والأطقم العسكرية كما حدث سابقاً في حروب صعدة ولاحقاً في محافظة أبين. والحديث عن الجهات التي تتولى عملية تهريب السلاح والاتجار به داخل الأراضي اليمنية، يعد من المسائل المحظورة في عملية البحث والتدقيق بسبب ارتباط تجارها مباشرة بمراكز القوى السياسية وعلاقتهم بنفوذ المشائخ القبليين الذين يهيمنون على زمام مناطقهم وتجمعاتهم التي يغيب عنها نفوذ وسيطرة مؤسسات الدولة المركزية، لاسيما عند تلكم القبائل التي تكن الولاء للسلطة الحاكمة أو للنخب المؤثرة على صناعة القرار السياسي، وتحتفظ بمخزون كبير من الأسلحة البسيطة والمتوسطة، وأسهم استشراء السلاح في بلد نام كاليمن تنعدم فيه قوانين تحظر حمل السلاح فيه، في تأجيج الكثير من الأزمات والصراعات القبلية والمناطقية والاجتماعية. ولاشك إن إشكالية تواجد السلاح وانتشاره على نحو كثيف في القرى والمناطق العشائرية التي أوصلته إلى مرحلة التجول والتظاهر به داخل المدن الرئيسية، واحدة من المعضلات الحقيقية التي ستعيق مسألة بناء الدولة المدنية الحديثة في مجتمع لازالت تركيبته وطبقاته تتألف من قبائل وعشائر ارتبطت ثقافتها بأن اقتناء السلاح والتباهي به في الأعراس والمباهج السياسية والاجتماعية جزء من الأعراف والتراث الشعبي المتوارث، وفي ظل هيمنة معظم مشائخ القبائل على مقررات مجلس النواب الذي فشل حتى اللحظة في إقرار قانون حظر حمل السلاح والولوج والاستعلاء به في حدود ومساحات العواصم والمدن الرئيسية.