من المعروف أن الحياة الاجتماعية لا يستقيم أمرها إلا بوجود قيادة قادرة على تنظيم العلاقة بين الأفراد والجماعات، وكل جماعة إنسانية تحتاج إلى قائد يوجهها نحو تحقيق أهداف معينة. والقائد في أي موقع كان لا يستطيع أن يوجه الجماعة التي يقودها ما لم يكن قادراً على توجيه جماعته توجيهاً سليماً، بحيث يجعل من يتولى قيادتهم يبذلون قصارى جهودهم لتحقيق الأهداف المتفق عليها، وما لم يكن قادراً على معالجة القضايا المعروضة عليه بحكمة وترو، مستنيراً بآراء المختصين وذوي الخبرات ممن يعملون معه. وفي صدر الإسلام أرسى النبي محمد صلى الله عليه وسلم قاعدة لنظام إداري إسلامي يتسم بالبساطة، حيث كان تعيين القادة الإداريين في عهده يتم على أساس الثقة والمقدرة والنزاهة والاستقامة، بالإضافة إلى التمتع بالخلق القويم، وسعة العلم، والجدارة في تحمل المسؤولية. فقد كان يختار عماله في الأقاليم من صالحي الصحابة، ممن يحسنون العمل ويخلصون له، وكان يتابع بنفسه حسن تنفيذهم لأعمالهم، ويسمع ما ينقل إليه من شكاوى الناس، ويعزل من يشكو الناس منه، فقد عزل العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين، بعدما جاءه وفد من عبد القيس، يشكو من قسوة عامله في البحرين، ويخبره عن تذمر الناس من سوء معاملة العلاء بن الحضرمي لهم، فعزله وولى بدلاً عنه أبان بن سعد، ثم أوصاه قائلاً:" استوص بعبد القيس خيراً، وأكرم سراتهم" أي ذوي المكانة الرفيعة فيهم. وكان عليه الصلاة والسلام يحث أولي الأمر على أن يولوا على أعمال المسلمين أصلح الناس، ويختاروا من يجدونه كفؤاً لأداء المهام الموكلة إليه، ومما يؤثر عنه أنه قال:" من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً، وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". واختيار الأصلح معناه اختيار الأكفأ والأمثل والأقدر على القيام بالمهام الموكلة إليه، ليؤديها بأمانة وإخلاص ونزاهة. وكان صلى الله عليه وسلم يحث العاملين على حسن الأداء وإتقان العمل، وجاء في الحديث الشريف:" إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن" وفي رواية "إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه". وكان النظام الإداري في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطبق مبدأ الأجر على قدر العمل، بموجب أحكام الآية الكريمة "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون" (الأحقاف، 19). وقد عرفت الإدارة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تقسيم العمل، فقد جعل كتاباً للعهود والمواثيق، وكتاباً للوحي، وكتاباً لأموال الزكاة والصدقات، وكتاباً للمعاملات والمداينات..إلخ. وفي عهد عمر بن الخطاب أخذ النظام الإداري بالأسلوب الديمقراطي لشغل الوظائف القيادية، فقد كان عمر يشاور أفاضل الناس في تعيين كبار الموظفين، فقال لهم يوماً:" دلوني على رجل أستعمله في أمر دهمني، فقولوا ما عندكم، فإنني أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم هو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا: نرى لهذه الصفة الربيع بن زياد الحارثي، فاحضره وولاه، فوفق في عمله، وقام بواجبه خير قيام. وعندما أثيرت مسألة تعيين جباة الضرائب في بعض الأقاليم بعث إلى مواطني الأقاليم وطالبهم بأن يختاروا من بينهم الأشخاص الذين يرونهم أهلاً لهذه المسؤولية، ممن يثقون بهم وبنزاهتهم وأمانتهم. وكان يشترط فيمن يتقلد الوظائف الإدارية أن تتوافر فيه السمات الإنسانية كالرحمة والعطف، فقد نزع الثقة عن عامل من عماله لأنه لا يرحم أولاده، ذلك أنه بينما كان على وشك أن يوقع أمراً بتعيين أحد الولاة، أقبل صبي صغير فجلس في حجره، وبقي عمر يلاطفه ويقبله، فقال الرجل المرشح للولاية: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟ إن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم، ولا دنا أحدهم مني، فقال عمر: ما ذنبي إذا كان الله عز وجل قد نزع الرحمة من قلبك، إنما يرحم الله من عباده الرحماء، ثم أمر الكاتب أن يمزق أمر التكليف، وهو يقول : إذ كان هذا لم يرحم أولاده فكيف سيرحم الرعية. وكان عمر يحث ولاته على السلوك الإداري الحسن، ويطالبهم بالترفع عما يسيء إلى سمعتهم، كأخذ الهدايا أو الرشوة، فقد كتب إليهم قائلاً:" أما بعد، فإياكم والهدايا فإنها من الرشا". وكان يطلب إليهم أن يكونوا مثالاً للرعية، وأن يسارعوا في حل مشكلات الناس، فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري يقول له: "افتح للرعية بابك، وباشر أمرهم بنفسك، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته". وكان يوجه ولاته ويرشدهم باتباع الأسلوب القيادي السليم القائم على العدل والحق، فقال في إحدى رسائله لأحد ولاته: " وليس شدة السلطان قتلاً بالسيف، ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق، وأخذاً بالعدل". وطبق مبدأ التظلم الإداري، فأتاح للموظفين والعاملين فرصة التظلم من قادتهم، فكان يستمع إلى شكاواهم وينصفهم ومن أقواله المأثورة:" من ظلمه عامله بمظلمة فلا أذن له عليَ إلا أن يرفعها إلي حتى أقصه منه". وكان يقسم الأعمال ويوزعها بين الموظفين على حسب الكفاءة والتخصص، فقال في إحدى خطبه: " أيها الناس، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فلياتني، فإن الله قد جعلني له خازناً وقاسماً". خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان