عليك أن تكون مستعداً منتبهاً و أنت تحلق في عالم انتصار السري اخترت قصة ( المحرقة) ليس لكونها تحمل أسم المجموعة القصصية المنشورة * و الحائزة على جائزة المقالح، وجدت ثمة رجفة و ليس مجرد ارتعاش ثمة رفض لواقع ربما لاحظته القاصة بمجتمعها اليمني الذي تغلب فيه قوة الرجل، تكون المرأة بالظل بل خلف الظل و غياهب الظلام فالسطوة والحضور و السلطة كلها تجتمع بيد الرجل، على المرأة الصمت الطاعة الفخر و الاعتزاز لو كان لها زوج أو أخ أو أب أما هي قد تكون لا شيء، إن لم يكن هناك سند، هناك ظهر رجل لا حق لها في البكاء أو الصراخ لا مكان للاعتراض هذا الواقع بالتأكيد تحسه القاصة و بكل الطرق صورته لنا، لكن هنا ليس مجرد تصوير لواقع فقط، نحن نلمس رغبة بالصراخ بل بالفعل الأكثر عنفاً و هو الحرق هذا الفعل سيتكرر أكثر من مرة خلال هذه القصة، ستقف معه القاصة تصوره بدقة، تصور تأثير هذا الفعل نحن أمام لوحات صورية ديناميكية تحوي فعلاً خارجياً و عالماً داخلياً يحترق أيضاً، أنا كسينمائي أحس بالنص مادة غنية تصلح أن تكون فيلماً سينمائياً قصيراً تذكرني بقصيدة شعرية للدكتورة سعاد الصباح لا أتذكر العنوان تقريبا كان عنوانها «فتافيت امرأة» اشتغلت على هذه القصيدة بعد تخرجي من كلية الفنون الجميلة ببغداد و إخراجي لفيلم (الكتابة بدم المقالح) عن قصيدة محاولة الكتابة بدم الخوارج للشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح 1987 و كنت أتمنى الاشتغال على قصيدة الشاعرة الصباح، لكن لم أجد طريقة للتواصل معها، ما يهمنا هنا أن هذه الأجواء الشاعرية وجدتها في (محرقة انتصار السري) لعل أهم العناصر الموجودة هنا هو المكان المغلق مناخ القصة هنا مكان مغلق، غرفة الشخصية الخاصة عالمها الخاص، تكون البداية قوية دون الإسراف بتفاصيل ثانوية: «أشعلت نارا في المحرقة إلى أن صار لونها أحمر قانياً» نفهم من ذلك أننا لا نأتي في بداية الحدث، يمكنكم الرجوع واستحضار ما فاتكم، تدعوكم القاصة للدخول لاسترجاع عملية فلاش باك، المحرقة تكون للساحرة الشريرة، المحرقة تكون للأشياء السيئة الشوك مثلاً، نحن أمام طقس غير عادي لسنا أمام مجرد حدث جاء فجأة أو فعل عابر. ثم تقودنا إلى لقطة قريبة إلى أصابعها، بالذات إصبع البنصر المقيد بشيء نفهمه هو خاتم لكنها عبرت عنه بعبارة « قيد زواجي» لم تتأملها كان الفعل الأول هو النزع تحرير نفسها ليس فقط البنصر بل كل جسدها، تصفه لنا وصفاً دقيقاً هو( باهت لا لون لا لمعان لا حياة) تحاول إحياءه لكن كما تعبر «لا جدوى منه» تذهب أبعد من ذلك «لا نبض فيه «هنا النبض للشيء الحي استخدمته القاصة للدلالة على جمود موت بل و وحشة هذا الشيء، عندما تخلصت منه عادت لها الحياة، عاد لها نبض خفقان قلبها، هنا الصحوة اكتشاف الحياة نظرة أخرى لها هي، ليس لشخص آخر، لذلك تتوجه لتبحث عن ذاتها من تكون؟ هل من أدلة أو أشياء محسوسة تجدها لإثبات كينونتها؟ ما تجده عندما تبحث في إدراجها أوراق، تدقق فيها ورقة ورقة، تجد شهادة ميلادها تصفها بأنها «شهادات رحيل سنوات عمري» هذه الأوراق كانت في خزنة محبوسة بدرج، هي أيضاً لا تختلف كثيراً مخنوقة بهذا المكان، مشدودة بقيد أو مجموعة من القيود الاجتماعية كالزواج مثلاً، هي تبحث تبعثر تجد ألاوراق ثم الصور، هنا النار مستعدة تريد المزيد يتغير لونها تبتلع بشراهة كل شيء. لكننا هنا أمام لقطة معبرة شاعرية، عندما تجد الشخصية ألبوم الصور تكون حالة الصور سيئة عليها الغبار و الأتربة، إذن هي الساعة مناسبة لنفض هذا التراب للخروج من القبو أو القبر، هنا كمارد قوي تنهض ذكريات الطفولة شذرات ثم ترى صوراً بها حيوية و جمال الشباب، لكن بسبب عوامل التعرية تشوهت معالم بعض الصور، هذا الوصف ليس فقط على الصورة .. ليس فقط على الشيء الصغير، هو تعبير غير مباشر على حالها هي، لعل الجسد أصابه الوهن و التعب و الإرهاق، ربما أكثر من ذلك، تعرض لفعل عنيف.. لقسوة، لم يأتي الشرح مباشر لحالها، استخدمت هذه الأدوات الصغيرة لتجعلنا نحس بها، هي كأنثى ماذا وجدت أيضاً؟ صورة أخرى عبرت عنها بشكل فني مدهش ( رسم بسمة لعروس في ليلة عمرها) إن كنت سينمائي تود معالجة و تصوير هذا الحدث ربما القاصة سهلت كل شيء، عليك مثلاً استخدام مؤثر صوتي لحفل العرس بيدها الصورة، لقطة متوسطة قريبة لليد تمسك الصورة ..لقطة قريبة للصورة مع مؤثر صوتي يكون ذلك كافياً بإحداث رجفة، ترتعش اليد ترتجف هكذا أحسها، هنا نحس بتعابير الوجه الألم الداخلي الغضب.. السخط ..الثورة، المحرقة تشتهي أكثر ماذا يوجد من طعام؟ من قربان لهذه المحرقة؟ نحن نعيش حدثا ديناميكياً لطقوس اكتشاف الذات الداخلية لاِمرأة تم تقييدها، سجنها، جعلها تتعرض لعوامل التعرية! من شاهد فيلم «ميديا» للمخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني، يمكنه أن يُحّس ماذا يمكن أن تعمله امرأة عندما تشعر بالغضب ؟ نحن في أجواء عالم « ميدا» بقصة انتصار السري، لا أظن أن انتصار شاهدت الفيلم لا اعتقد ذلك، لا اعتقد أن كتابتها لهذه القصة جاء كتأثر بهذا الفيلم، مثلاً ميديا عندما أحبت جازون فعلت كل شيء من أجله، تركت أرضها قتلت شقيقها و قطعته قطعاً صغيرة رمتها بالطريق كي ينشغل والدها بالتقاطه، أخذت المقدس أخيراً بعد وصولها لارض غريبة لا تعرفها و أنجبت .. يأتي جازون يريد الزواج عليها.. كي تنتقم منه تحرق البيت و الأولاد، لكن قبل ذلك تقوم بغسلهم هي أم حنونة تداعب أطفالها برقة، ثم تشعل النار تحرق كل شيء. نحن هنا أمام مشهد مشابه! هذه الشخصية تنتفض.. تتخلص من القيد.. تشعر بالنبض.. تراجع مسار حياتها، لكنها تقيم طقوساً خاصة تشعل محرقة كبيرة، تتخلص من الخاتم القيد، من الذكريات، من الصور المشوهة، من كل شيء، ثم ترى ماذا ؟ زجاجة العطر هنا أحسها تريد القول الرغبة، عطر الماضي يهز الشخصية، تتوقف عنده القاصة تعطيه الكثير من الأهمية، مع ملامسة هذا العطر يهتز قلبها.. ترقص الذاكرة.. تنسكب الدموع، إذن هناك حكاية، كان هناك عطراً في الماضي تطبع عليه قبلة! ثم تلقي به إلى المحرقة ، القصة لم تحكي كل شيء هناك الكثير من العناصر كقارئ يمكنك أن تعيد رسمها بخيالك، هناك مساحة لتشارك بشكل إيجابي، لسنا هنا أمام تقرير صحفي دقيق، أو وصف كامل، الحذف لبعض الأحداث للكثير من التفاصيل يقف في صف القصة ليزيدها جمالاً، هذه المساحات الكثيرة المحذوفة يمكنك البحث عنها. القاصة «محرقتي» إذن الشخصية لديها وعي كامل بالفعل، نحس بأن حدثاً أكبر سيحدث مع كلمة «محرقتي» المحرقة محرقتها تلتهم الثياب و العطور و المجوهرات هذه العناصر العزيزة الخاصة بالأنثى من الصعب التخلي عنها بسهولة إلا لحدث عظيم. هل نحن أمام ميلاد جديد بعد هذه الثورة؟ نحن أمام طقوس ميلاد أم العكس؟ بعد أن تخلصت الشخصية من كل هذا، تسكن بداخلها تحدث متغيرات، تتعرى تماماً قليلة جداً النصوص التي تحمل هذا الوصف، التعري هنا معنوي و لماذا لا يكون مادياً؟ النص يحتمل فهم هذا أيضاً، الجسد الأنثوي العاري له دلالته و قداسته الخاصة، نحن نعيش أجواء مشحونة بالثورة بالتطهر ذات ملامح أسطورية عنيفة، هذا الجسد العاري يتحول لورقة تتشقق أطرافها لعلها مصابة بالضمور أي الجسد الشخصية، تتأمل تحس بجسدها، تثور من أجله و له و عليه، الورقة تلتهمها المحرقة تختم القاصة قصتها بعلامتي» تعجب تترك لنا أن نحس.. نتخيل ما حدث بالضبط، لعلنا نشعر بهذا الألم المرعب. « المحرقة » منشورات إبداعات يمانية صنعاء 2013 *