ها قد أفسَدَتكَ القناديل ولم تعد نقياً وناصعاً كما كنت قبل مجيء التكنولوجيا .. ربما أنك أردت مواكبة العصر فقمت بخلع عباءتك المطرزة بالنجوم بعد أن كانت مصدر إلهام الشعراء.. لقد امتزجت بالكهرباء غير مأسوفٍ عليك.. فلم يعد الصباح ينسلخ منك لأنك أصبحت في نظره غراباً يحاول أن يتنصل من سواده بطلاء ريشه ،فلا استطاع العودة إلى ما كان عليه ولا الطيران لالتصاق أجنحته بذلك الطلاء فصار مثاراً للسخرية.. اقترب مني أيها الليل.. إنك لن تخيفني حتى لو كنت ك(عروس من الزنج)!! انظر إلى هذا الفيلسوف كيف رآك رغم فقد بصره كعروس زنجية عليها قلائد من جمان .. أما زائرة المتنبي فقدت حياءها وأمست تزور عُشاقها على أضواء القناديل، ولم يَعُد الصباح يقوى على طردها، فقد أصبحت هي التي تطفئ القناديل عند انتهاء موعد زيارتها وتذهب معززة مكرَّمة.. أين أنت أيها الليل ؟ لماذا تخجل من لونك الأسود وهو أصل الأشياء!! أو ليس النهار جنيناً يتكوَّن في ملكوتك .؟ أولست مقدماً عليه في كل موضع ذكرتما فيه في الكتاب المكنون ،وما هذا التقديم إلا لأهمية لا يعلمها إلا هو. أوليس سواد العين أفضل من بياضها، وكذلك المسك. ألم تستمع إلى عنترة وهو يفتخر بلونه الدامس؟ ولا أظن أن ثمة من يتأفف منك سوى الأمهات اللائي لم يعدن يستطعن تأجيل مهمة البحث عن القمل في رؤوس أولادهن إلى الصباح.. أما الأطفال الذين يخافون منك فإنهم سينتظرونك بعد أن يتوحدوا مع ذواتهم.. أين أنت أيها الليل .. إنك تحرك النفوس الصافية الرقراقة ، أما الكهرباء فلا تحرك سوى الأجهزة الجامدة ،وقد تغدر بها في لحظة انقطاع .. إن أنفاسها تتقطع بين الحين والحين .. لعدم مجيئها من المنبع الذي يضمن لها ديمومتك . ولن تخشى على نفسك من الخلل الفني الذي يزهق آلاف الأرواح في غمضة عين .. إلى قصيدةٍ ما. ها أنذا وحيد إلا منكِ، ويتيم إلا إليك، إني أخاطب الشمعة فأراها تهمُّ بالانطفاء. لم أصدقها وصممت على الحديث معها .. لكنها انطفأت خشية أن تذوب دفعة واحدة . ليتني أمتلك لساناً يُقاس بي لئلا أبتلعه عند رؤيتك ولكي أتمكن من الحديث معك لساعات أطول.. أما لساني - ذلك الذي استهلكته الثرثرة - فإنه لا يكفي للتحدث بكل ما أريد قوله . كنت أعتقد أن رشفةً من لماكِ كفيلة بإطفائي لكني بعدها أصبحت مشتعلاً كنار المجوس.. ليتهم يدركون الحقيقة ، حينها لن يكون المطر كافياً. أعترف لك أني غرٌّ لم يسبق لي أن قرأت شعراً متناسقاً كهذا له قدرة عجيبة على الإمساك بدمي.. فليس في محفوظاتي غير قصيدة أصابني الملل لتكرارها . حنانيك أيتها القارورة التي يفقد الخمر مفعوله فيها. لخطاك تفعيلتان..واحدة مُشاعة وأخرى لا يسمعها سواي، محاطة بكوكبة من الترانيم التي تحقن جسدي بمصل الرعشة فتنتفخ مساماتي وكأنها تهمُّ بالبكاء، فماذا عساه بيتهوفن أن يقول؟ ليتني - قبل أن ألتقي بالقشعريرة - سكبت دمي في قارورة حتى أعود .. فربما كان ذلك أسلم. أيتها الساحرة التي قالت لي « كُنْ « فَمَسَخَتْني جرحاً يزيده النزف طراوة لا تجف حتى تأمره أن « يكون»: ليتكِ مسختني ورقة تنامين عليها أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار. أتذكر جيداً يوم اقتربتِ مني لمصافحتي .. كنت أخشى إذا ما صافحتك أن أصير كتمثال شمع. إن مصافحتك تجعلني أتنصَّل من نفسي وأرحل إلى مدينة الكناية للبحث عن جسد مستعار. لقد أحسستُ وأنا أصافحكِ بأني أقتلع شيئاًَ احتفظت به بين جوانحي منذ معرفتي به ،وعدت بعد أن فقدتُ ما يصعب عليَّ وعليك إرجاعه.. فكيف أشتكي ألم الفراق وطيفك يلازمني.. وقلبي بين يديك .