صارت ميادين موسكو وجامعاتها اليوم عصية على خيالات الطلاب اليمنيين.. صارت مجرد ذكرى لطلاب سابقين، لم يكونوا ضليعين في اللغة الروسية، أو أنهم كانوا طيلة سنوات ابتعاثهم للدراسة مشغولين بأمور أخرى أهم وأخطر من إجادة اللغة، أمور لا يمكن الخوض فيها هي التي أعاقتهم، لذلك لم يعد من الممكن التعويل الآن على أحدهم للقيام بمهمة ترجمة رواية أو مقالة تتحدث مثلاً عن الآثار الاجتماعية المترتبة على انتقال روسيا من الاشتراكية إلى الرأسمالية. تفكُّك الاتحاد السوفيتي أدى في المقابل إلى تفكيك الروافع الايديولوجية التي كانت تجعل المسافة إلى عاصمة الكرملين، آنذاك، تبدو أقصر من المسافة بين عدن والرياض.. هكذا استعادت المسافة الجغرافية والثقافية بين موسكو والعالم العربي مداها الطبيعي، ولم يعد بوسع روسيا اليوم فتح ذراعيها لاستقبال الطلاب من اليمن أو أثيوبيا، حتى لو عاد الرفيقان عبدالفتاح اسماعيل ومنجستو هيلا مريم إلى الحياة لمواصلة تنفيذ الخطط الخمسية وتأميم بيوت البورجوازيين لصالح الطبقة العاملة. كما أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تبدو راضخة وباطمئنان للواقع الرأسمالي الجديد، ما دامت قد أعادت كتابة لائحة أسعارها ووضعت أرقاماً جديدة يقال إنها لم تعد تحتمل، وأنه لم يعد بوسع طالب يمني غير مدعوم أن يعيش في موسكو أو حتى في كييف التي باتت عاصمة لجمهورية أخرى مستقلة هي أوكرانيا. لم تعد المدن الروسية الكبيرة أو الهامشية مستعدة لاستضافة أحد بالمجان في السكن الداخلي للجامعة، حتى لو كان يحفظ تراث ماركس ولينين ومقولات ستالين، فهذا شأن قد يجلب عليه السخرية من الممسكين بالفواتير التي تنتظر السداد. لم تكن روسيا الأممية تفرق آنذاك بين اليمن الجنوبي الاشتراكي واليمن الشمالي الذي ظل معادياً للماركسية وعاجزاً في الوقت ذاته عن خلق مؤسسات الدولة الرأسمالية الواضحة المعالم.. فكان الطلاب اليمنيون في روسيا يتوافدون من الشطرين اللدودين، وبحسب أحد المحظوظين بالمنح الدراسية، كان الفارق الحضاري بين الطلاب القادمين من جهات اليمن الأربع يتحدد وفقاً لإجادة تعلم الرقص مع الفتيات في وقت قياسي، والأهم في هذه المسألة هو أن تكون من أولئك الذين ينجحون في مقاومة رغبة أعضائهم في الانتصاب، في أول رقصة مع رفيقة روسية لا تمانع في تعزيز الصداقة بين الشعوب. كان ثمة فرق آخر بين الطلاب اليمنيين، فالقادمون من الجنوب كانوا أكثر عدداً وأقل مؤونة.. أما القادمون من الشمال البرجوازي الذي كانت عملته لا تزال شامخة أمام الدولار فكانت مصروفات أحدهم تكفي لشراء محتويات متجر كامل من القفازات والقبَّعات الصوفية. غير أن جلَّ ما يتذكره اليوم طالب قديم درس في روسيا لا يتعدى بضع كلمات روسية، مجرد كلمات لا تؤهل أحدهم لقراءة العناوين في صحيفة روسية تبث عبر شبكة الانترنت، بمعنى أنك لن تجد من يخبرك بثقة أنه لا يزال يعود - على سبيل المثال - لقراءة الطبعة الروسية من رواية "الحرب والسلام"، ومع ذلك يمكنهم الآن الحديث بحسرة عن زمن الاتحاد السوفيتي، وبنفس لكنة الأسى التي يتحدث بها قادة ومشائخ بعثيون عن عراق صدام حسين وعن كرم وحفاوة عراق ما قبل الحصار. الأرجح أن اليمنيين الذين ذهبوا إلى موسكو لم يفلحوا سوى في الاعتياد على مكافحة برد الشتاءات الطويلة بالمشروبات الشعبية التي اشتهر بها الروس.. أما الآن فقد صارت موسكو بعيدة المنال ولم تعد قوائم الأسعار فيها تسعف حتى الروس أنفسهم لشراء ما يلزم لتوليد البهجة والدفء واستعادة ماضي البروليتاريا. المحظوظون الذين نالوا نصيبهم من كعكة الأممية هم فقط أولئك الذين طارت بهم الرحلات الجوية إلى روسيا في السبعينات والثمانينات.. بعضهم كانوا أنقياء لدرجة أنهم كانوا يفضلون مؤسسة الزواج على المتعة العابرة، لذلك عادوا من رحلاتهم بشهادات وأطفال شُقر في أحضان روسيات يمتزن بمواصفات جسدية غير مألوفة، وغالباً بقامات طويلة ومغرية، لكن المحرج في قاماتهن هو أنها كشفت لبعض الأزواج أنهم ينتمون لفصيلة الأقزام، ولعل هذا الاكتشاف هو ما دفعهم إلى الإصرار على استمرار تلك الزيجات سعياً لتحسين النسل في عائلاتهم. يمكن القول أن روسيا الاشتراكية مثلت بالنسبة لليمن بشطريه مصدراً لتحسين النسل وتسليح الجيش وتأهيل البعض بشهادات ماجستير ودكتوراه من جامعة الصداقة.. غير أن تلك الشهادات لم تفلح في خلق مترجم يمني واحد قادر على إثبات وجوده بإنتاج مطبوع ذي أهمية، أو محلل سياسي مختص بالشئون الروسية والجمهوريات الجديدة المستقلة. لم نكن نحلم أن يكون المترجم سامي الدروبي يمنياً، كنا فقط نريد على الأقل من يترجم لنا ما يكتبه الروس عنا، وما يحويه أرشيفهم العتيق من تاريخ لملابسات غامضة تخص أحداثاً كبرى كان مسرحها الجنوب. لقد كانت الجامعات الروسية كريمة في منح شهادات ماجستير ودكتوراه، ولم يسأل أحدٌ أولئك الذين حصلوا عليها ما إذا كانوا قد أنجزوا بالفعل أبحاثاً ودراسات استحقوا بموجبها تلك الصكوك والألقاب.. وبالقياس إلى عدد الذين حصلوا على تلك الشهادات يمكننا القول إن بعضها كانت تمنح على ما يبدو ضمن المعونات التي كان الحليف السوفيتي يقدمها لأصدقائه.. الغريب أن الروس الذين صعدوا إلى الفضاء وتحدوا أمريكا بتكافؤ شرس في الحرب الباردة عبر سباق التسلح والتكنولوجيا، الغريب أنهم لم يمنحوا ولو يمنياً واحداً شهادة علمية في الفيزياء النووية أو حتى شهادة في مكافحة أعطال المكيفات في المناطق الحارة. هكذا ظل تكييف العلاقة بين موسكو وكلٍّ من عدنوصنعاء لا يتعدى تزويد الطرفين بشهادات فخرية وأسلحة قابلة للصدأ والاستهلاك في الحروب المحلية، ولم يربح من تلك العلاقة سوى بعض الذين عادوا بزوجات روسيات مخلصات، سرعان ما كنَّ يفتتحن عيادات ومختبرات صحية تجذب الزبائن ويموِّلن الأزواج بأطفال شقر ومصاريف للزمن. لماذا نتذكر شهادات روسيا ولكن لماذا نستحضر الآن الحديث عن موسكو وجامعاتها وشهاداتها التي كانت تمنحها بسخاء في الزمن الاشتراكي؟ الجواب على هذا السؤال يتعلق بمسألة أثارها السيد ميخائيل سفوروف الذي تجدون في هذا العدد لمحة عن تجربة حياته وعن شغفه بالأدب اليمني وبكل ما يتصل باليمن. لم ألتق بالسيد ميخائيل وجهاً لوجه إلا قبل أسابيع.. كان يتحدث في لقاء تعارفي إلى حشد من الأدباء في صنعاء، ومن سياق حديثه ومن خلال إصرار البعض على إبراز إعجابه بتشيخوف وليرمنتوف، اكتشفنا أن انقطاع العرب عن ترجمة ما استجد في الأدب الروسي يجعلنا نبدو أشبه ما نكون بالمستشرقين الذين توقف الزمن بهم عند حدود ابن عربي وإخوان الصفا. قبل أن أتعرف إلى سوفوروف مباشرة، كان قد بعث إليَّ قبل ثلاث سنوات برسالة عبر البريد الاليكتروني من سانت بطرسبورغ، ولا أعرف حتى الآن كيف اهتدى إلى عنواني المجهول، وما الذي جعله يظن أن رسالته موجهة للرجل المناسب؟ جاء في مضمون تلك الرسالة ما يفيد بصدور رواية باللغة الروسية بعنوان Yemeniada "أيام في اليمن" أو "المغامرات اليمنية"، كتبها مستشرق روسي يدعى أليكساندر بيلكين.. وقال ميخائيل في رسالته إنه متأكد من أن هذه الرواية إذا ما ترجمت إلى اللغة العربية فإنها ستبدو "أخَّاذة" على حد تعبيره، وزاد قائلاً: من اللافت أن هذه الرواية هي الثانية التي تجري أحداثها في اليمن بعد رواية "الصحافي" لاندري كونستانتينوف. بعيداً عن بقية التفاصيل التي تتحدث عن صورة اليمن في هذه الرواية وكيف مزَج كاتبها بين التناول الواقعي والفنتازي للأحداث، اختتم سوفوروف رسالته تلك بتساؤل لم أجد له جواباً حتى هذه اللحظة، إذ كتب قائلاً: فهل يوجد في اليمن من يتحمل ترجمتها من الروسية إلى العربية؟ ومنذ ثلاث سنوات وأنا أقول لنفسي، لا بد أن أحدهم سيترجم هذه الرواية "الأخَّاذة"، وربما يتصدى لها أحد أولئك الذين أمضوا سنوات طويلة للدراسة في روسيا وعادوا بزوجات روسيات ساعد وجودهن على احتفاظهم باللغة الروسية قراءة ونطقاً، وربما جلبن معهن قواميس وموسوعات من شأنها أن تكون عوناً للمترجم المجهول. مضت السنوات الثلاث، وحين التقيت الدكتور ميخائيل في صنعاء أخيراً، سألته عن تلك الرواية "الأخَّاذة" وعمَّا إذا كان قد عثر على من يتحمَّس لترجمتها، ففتح حقيبته اليدوية ووجدته يخرج نسخة من الرواية بطبعتها الروسية التي لم يقترب منها أي مترجم يمني أو عربي، وقال مازحاً إنه بات يعقد الأمل في ترجمتها على أستاذ جامعي من عدن، قال إنه يجيد الروسية بطلاقة لأنه تزوج بثلاث نساء روسيات لا تزال الثالثة والأخيرة تنثر لغة قومها في أرجاء بيتها العدني. أعاد ميخائيل الرواية إلى حقيبته وبدأ يتحدث من جديد عن السرد في اليمن بتفاصيل دقيقة، كأن يحلل الفرق بين أسلوب محمد علي لقمان وأسلوب محمد سعيد مسواط. في هذه الأثناء كنت أحدث نفسي: يبدو أننا لم نعد بحاجة فقط لمن يترجم رواية بيلكين "المغامرات اليمنية" بل إننا أصبحنا بحاجة لمن يكتب عن حقيقة المغامرات اليمنية الفعلية لمئات الطلاب اليمنيين الذين درسوا في روسيا وفي غيرها. لكأن التبلُّد هو السلوك الذي يحكم بفاعلية طبيعة علاقة اليمني بالآخر، وإلا فما معنى أن نكتشف الآن أن حال قوافل الطلاب العائدين من روسيا لا يختلف عن حال العمال المغتربين الذين يعودون بعد سنوات من الاغتراب في برمنجهام أو ميتشجن وكأنهم لم يغادروا قراهم، أو كأنهم عادوا من الطائف. - ينشر بالتزامن مع مجلة "صيف"