يواصل الاتحاد الأوربي الذي يضم 27 دولة, محاولة عدم التعرض إلى مشاكل اقتصادية وسياسية وحضارية هيكلية باتت تتهدد مكانته كلاعب دولي، وتنذر باحتمالات قوية لتعرضه للتهميش الفعلي والمستدام على الصعيد العالمي. ومع بداية شهر ديسمبر الجاري دخلت اتفاقية لشبونة للوحدة الأوربية حيز التنفيذ بعد سنوات من الجدل والمشادات والمساومات الشرسة بين الحكومات الأوربية بشان هندسة البناء المؤسساتي للتكتل. وتحدث الاتفاقية تغييرات حاسمة وجوهرية على معادلة القوة بين مختلف المؤسسات الاتحادية وتمكّن الاتحاد الأوربي للمرة الأولى من وجه يمثله في شخص رئيس المجلس الأوربي البلجيكي هرمان فان رومباي ومن ممثل أعلى للسياسة الخارجية الأوربية البريطانية كاثرين آشتون. ولكن هذا التطور الإداري الهام لن يكون قادرا ولعدة عوامل متشابكة من تمكين الأوربيين من لعب دور فعال ومؤثّر على الصعيد الدولي كما انه من المستبعد أن يتمكن الاتحاد الأوربي من تجاوز متاعبه الاقتصادية وتناقضاته الاجتماعية الحادة وذلك لعدة أسباب. ويعود السبب الأول لقصور الاتحاد الأوربي في تبوأ ثقل سياسي فعلي يعكس ثقله الاقتصادي حيث إن علاقة القوة الأوربية الحالية قائمة على توازنات هشة بين الحكومات الأوربية على الصعيد السياسي وكل ما يحمله ذلك من تناقضات في الأهداف وفي الغاية الفعلية التي ترمي لها كل دولة أوربية من خلال مشاركتها في أنشطة الاتحاد ومختلف سياساته النوعية. ونتيجة لهذه المعادلة الخطيرة في علاقة القوة الأوربية فان أداء الاتحاد الأوربي يضل رهن مفاوضات بين إطراف تبحث باستمرار عن اتفاق الحد الأدنى فيما بينها وليس عن بلورة خطط عمل طموحة ومتقدمة ترقا إلى مستوى التحديات التي يواجهها الأوربيون. وبفعل العنصرين الأولين فان علاقة القوة الفعلية داخل الاتحاد الأوربي ضلت وستضل بين الدول الكبرى داخله والمهيمنة على آليات صنع القرار وعلى خيراته في نهاية المطاف دون الأخذ بعين الاعتبار مطالب غالبية المواطنين الأوربيين أو مصالحهم. ومثل تعيين البلجيكي هرمان فان رومابي في منصب أول رئيس للاتحاد الأوربي يوم التاسع من شهر ديسمبر ترجمة لصفقة بين الدول الأوربية الكبرى وتحديدا بريطانيا وفرنسا والمانيا التي فضلت شخصية سياسية ضعيفة لن تكون قادرة على منافسة او مواجهة قرارات باريس وبرلين ولندن. كما ان اختيار البريطانية كاثرين اشتون في منصب الممثل الاعلى للشؤون الخارجية الأوربية يندرج ضمن نفس حسابات الدول الأوربية الكبرى التي لا تريد التخلي عن صلاحيتها الدبلوماسية باي حال من الأحوال. وتتمتع فرنسا وبريطانيا بمقعدين دائمين داخل مجلس الأمن الدولي و لا تفضل التخلي عنها لصالح الاتحاد الأوربي ككيان سياسي مندمج . وفي المقابل فان الدول الأوربية الصغيرة ومن جهتها تجد ضالتها في هذا التفاهم غير المعلن على الصعيد الأوربي لأنها بدورها تحافظ في نفس الوقت على خصوصيات وطنية ،وتتجنب نقل عدد من صلاحيتها إلى مؤسسات بروكسل. وإضافة إلى هذا البعد المؤسساتي فان الاتحاد الأوربي الذي كان وضع لنفسه هدفا محددا يتمثل في تبوأ المكانة العالمية الأولى عام 2010م في مجال الاقتصادي ضمن ما يعرف بأجندة لشبونة ،يجد نفسه أمام أزمة اقتصادية ومالية ونقدية غير مسبوقة وما يمثله ذلك من احتمالات تسجيل زعزعة اجتماعية داخل دوله ويتوقع أن تنهار سوق العمل الأوربية عام 2010م بشكل خطير. ورغم صلابة العملة الأوربية الواحدة اليورو في أسواق المال فان الوضع النقدي الأوربي يدفع على القلق . وتعود قوة اليورو حسب المحللين ليس إلى صلابة الاقتصاد الأوربي ولكن إلى ضعف العملة الأميركية الدولار وإذا ما تمكنت دول آسيا من بناء صرح نقدي صلب فان اليورو سيفقد هو الآخر بريقه على المدى المتوسط حسب غالبية المحللين. ورغم ما يقدمه الاتحاد الأوربي من مزايا فعلية ومنافع عملية لمواطنيه وعلى مختلف المستويات ورغم ما يمثله من عنصر حماية فعلية لملايين المواطنيين وطلاقا مع حقبة المواجهات العسكرية فان انعدام العمل الديمقراطي داخل المؤسسات الأوربية وابتعاد هذه المؤسسات عن هموم المواطنين ورفضها إشراكهم في اتخاذ القرارات يطرح أسئلة محيرة بشان مستقبل الاتحاد . وتوجد قطيعة متنامية بين النخبة الأوربية في بروكسل وغالبية قطاعات الشعوب الأوروية وهي مسالة تمثل تحديا فعليا للمسئولين الاتحاديين. وتدعو العديد من الفعاليات الأوربية حاليا وعند تقييمها لمحصلة عمل الاتحاد الأوربي خلال العقد الأخير إلى ضرورة مراجعة آلية العمل الأوربية نفسها داخل الاتحاد الأوربي وخارج الحدود الأوربية. ويعاني الأوربيون داخليا من العراقيل التي تواجه تفعيل السوق الداخلية ومن تداعيت آليات التحكم في المنافسة غير المنضبطة ومن التباين الواضح بين الدول في سياسات الموازنات العامة والتحكم في المديونية والعجز وكذلك من افتقاد الاتحاد الأوربي إلى سوق عمل مندمجة وبضوابط موحدة وملزمة وواضحة . كما يعاني الاتحاد الأوربي من غياب إستراتيجية تعامل مشتركة على الصعيد الدولي وهو يوجه تناقضات عضوية داخله في هذا الملف الحيوي. وأثبتت مداولات قمة المناخ التي انعقدت مؤخرا في كوبنهاجن تراجع مكانة الاتحاد الأوربي كلاعب دولي وقصور أدائه الفعلي في التأثير على إدارة ملف المناخ. ورغم العروض السخية التي قدمها الأوربيون للحد من الانبعاث الحراري فان القوة الناشئة الجديدة في العالم برزت في كوبنهاجن كمركز القوة المتنامي الثقل الجديد في العالم . ويشعر الأوربيون في الواقع بتصاعد الخلافات بينهم وبين شركائهم التقليديين وتحديدا الولاياتالمتحدة في إدارة شؤون الكون. ومن وصول الرئيس الحالي باراك اوباما للحكم تفضل واشنطن التعامل مع قوى دولية أكثر تأثيرا مثل الصين والهند والبرازيل.كما إن إدارة الرئيس باراك او باما بدت قطيعة إستراتيجية فعلية مقارنة مع الإدارات السابقة في الشؤون الأمنية بإطلاقها اتصالات وثيقة ومنتظمة مع روسيا للنظر في إعادة هيكلة هندسة الأمن الأووبي وبدون الأوربيين. وتشارك غالبية الدول الأوربية في المجهود العسكري الأطلسي في أفغانستان ولكنها لا تمتلك أي ثقل للتأثير على منحى الأحداث وتوجيه العمليات التي تضل حكرا على المخططين الأميركيين. ويشكك مختلف المراقبين للشؤون الأوربية في قدرة الاتحاد الأوربي على تجاوز تناقضاته الداخلية وفرض نفسه كلاعب دولي رغم اعتماد اتفاقية لشبونة الني تمكنه من بعض الصلاحيات الجديدة. ولا تبدي أوربا كثقل سياسي يسعى نحو الاندماج التام اهتماما فعليا بشؤون جيرانها المباشرين يتجاوز الاستمرار في ترديد جملة من إعلانات النوايا التي يتم إعادة صياغتها بنفس القالب من مناسبة إلى أخرى . ورغم البعد الاستراتيجي الحيوي لمنطقة الجوار الأوربية على صعيد الطاقة وشؤون الأمن وإدارة الهجرة والتعامل البشري فقد اخفق الاتحاد الأوربي تحت ضغط القوة الإسرائيلية داخله في تفعل دوره خلال عام 2009 تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ورغم المحاولات الجريئة التي قامت بها الرئاسة الدورية السويدية للاتحاد . ويتوقع ان يستمر انتكاس الدور الأوربي في الشرق الأوسط خلال العام المقبل حيث قررت دول مثل فرنسا وألمانيا بشكل نهائي التصدي لأية محاولة للضغط على إسرائيل أو الركون ضدها للتدابير التلقائية التي تتيحها الاتفاقيات الأوربية نفسها وأسوة بما يتعامل به الاتحاد الأوربي مع بقية دول العالم دون استثناء.