قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عاجل: الحوثيون يعلنون قصف سفينة نفط بريطانية في البحر الأحمر وإسقاط طائرة أمريكية    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



168 ساعة في عاصمة الأناناس!!
نشر في سبأنت يوم 17 - 10 - 2010

همس في أذني رفيق رحلتي الوحيد إلى عاصمة الأناناس، مراسل صحيفة "الشرق الأوسط اللندنية" في صنعاء الزميل عادل السعيد قائلا بلكنته السودانية التي لا تخلو من روح الود والدعابة: "شوف يا ابني، لأول مرة تعيش أسبوعا من حياتك، وأنت ملم بكل تفاصيل برنامج تحركك، وما يستوجب عليك فعله، ما ستتناوله، تلبسه، ومن ستقابل، بالدقيقة والثانية الواحدة.. شايف العالم إلى أين وصلت! إحنا جالسين نمشي بلا هدف، تكون -على سبيل المثال- رايح إلى باب اليمن، ويصادفك أحدهم، ويأخذك إلى حيث يردد لسان حالك على وقع أنغام غنائية فيروز وصوتها الملائكي: "على فين رايحين.. خلينا خلينا بلا هدف نايمين"!!
على عكس ما هو سائد في مجتمعات ترفع شعار "البركة" فوق كل شيء، وجدتني في مهمّة سياحية كهذه هي الثانية من نوعها، أعرف سلفا ومن قبل نحو شهر تقريبا، كل متعلِّقات الزيارة وبالتفصيل المُمل.. الأماكن التي سأزورها.. نوعية وسيلة النقل التي سأستخدم.. من سأقابل، ومتى ولماذا، وأين، وكيف؟ حتى ماذا سأكل، ومتى ونوعية الوجبات وأصولها، لم ينسوا حتى تضمين مواعيد النوم والاستيقاظ ونوعية وألوان الملبوسات التي يجب ارتداؤها.. وحدها حقيبتي التي فوجئت بتلف عجلاتها جراء عملية النقل بمطار صنعاء هي ما نغّص عليّ الرحلة، وأرهق عمّال الحقائب بفنادق الاستضافة التي نزلت بها، وهم من كانوا يجرونها خلفهم وابتسامة عريضة لا تغادر مُحياهم، فأضطر لمجاملتهم على استحياء بنفس الابتسامة عليِّ أعفي نفسي من الإحساس بذنب تعذيبهم معي فيما لو كانوا من البلاد ينظرون إليّ شزرا!
أهم أسبوع مرتب
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أعيش فيها أهم أسبوع مرتب هو الوحيد في حياتي فحسب، بل كانت هي المرة الأولى التي أشهد فيها بأمِّ عينيي مدينة تعج بالسيّاح بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس مجرد كلام للاستهلاك ممّا تعودنا على سماعه وقراءته وربّما كتابته نحن معشر الصحفيين!!
لأول مرّة أجدني في مهرجان بحجم مهرجان التسوق الماليزي الذي أطلقته وزارة السياحة الماليزية كأكبر مهرجانات تسوّق لصيف هذا العام2010، واستمر خلال الفترة من 24 يوليو، وحتى 16 سبتمبر الماضي، أمام تظاهرة تجارية وإعلامية استثنائية بذلك الحجم، شاركت فيها وفود من أكثر من 20 بلدا، اليمن البلد العربي الوحيد، وضمت جيش من 190 إعلاميا وصحفيا واختصاصي تسويق ومبيعات تم تجنيدهم للكتابة عن هذا الحدث، ولا أخفيكم كم كان مثيرا أن أشهد لأول مرّة عرضا لعروض الأزياء وجها لوجه، بل وأقوم بتوثيقه بعدستي، ولم أتنبه إلا متأخرا بأني من فرط الاستغراق في المشهد استلقيت على الأرض بصورة مضحكة حتى أصبحت هدفا لأحد المصوّرين المشاركين من الصين!
لأول مرّة أشاهد -بحق- مجتمعا يتعامل مع السياحة بحرفية ومهنية عالية كمفهوم وصناعة وفن، وليس مجرد شعار أو ظاهرة صوتية، كما هو الحال في بلدان تظل حكوماتها تُراضي المجتمع، نحو الاهتمام بالسياحة علّ ذلك يُسهم في الارتقاء بالوعي إلى مستوى الإدراك بأن السياحة أكثر القطاعات الاقتصادية نموا على مستوى العالم، إن لم تكن تمثل بالنسبة لها –أي هذه البلدان على وجه التحديد- قارب النجاة الوحيد الذي قد يوصلها إلى بر الأمان ويخرجها من عثراتها ومأزقها الاقتصادية الخانقة ويحسن من مستوى دخل أبسط الأفراد فيها.
لأول مرة أرى مفهوم السياحة أشبه بحلقة مترابطة متسلسلة مُحكمة البناء، بلدا يعمل كل من فيه، وكأنهم يعملون بعقلية وقلب رجلٍِ واحد في سبيل تطوير صناعة السياحة بكل مقوِّماتها وعناصرها وتفاصيلها وإمكانياتها، وسياحة تتميّز بتعدد أشكالها وتنويعاتها ورُقي خدماتها المقدّمة، ومُدن تُبنى خصيصا لتلبِّي وترضي جميع الأذواق بعيدا عن أي من الاعتبارات والمرجعيات "العفنة" المعروفة بالنسبة لنا جميعا، والمحبطة لتحقيق تنمية السياحة في بلدان لا تشبه بلداننا!
وجدتني فعلا أمام عقليات تدير السياحة بالمعنى الحقيقي لمفهوم صناعة السياحة، وتفرض على القائمين بهذا القطاع العمل باستمرار على تنويع منتجهم السياحي وتطويره، بما يجعله ملبيا لرغبات ومتطلبات مختلف البيئات والثقافات والأديان، وبما يخدم ويعود بالنفع على مجتمعاتهم وبلدانهم، ويتبيّن ذلك من واقع رؤية المسؤولين الماليزيين للسياحة، فرغم كون ماليزيا تصنّف ضمن المرتبة التاسعة كأهم المقاصد السياحية في العالم، واستطاعت اجتذاب 23 مليون سائح العام الماضي، محققة عائدات بلغت 16 مليار دولار، إلا أن مستوى إنفاق زوّارها ما زال دون المستوى المطلوب بالنسبة للمسؤولين الماليزيين، ممن فرغوا أنفسهم ليحدثونا عن أهمية تعزيز سياحة التسوق، باعتبارها أحد المداخل الرئيسية في المساهمة في رفع مستوى إنفاق السياح، وتحقيق المزيد من العائدات والارتقاء بالاقتصاد الوطني الماليزي.
وطن ليس"عزبة"
من الوهلة الأولى التي حطت فيها أقدامنا في مطار كوالالمبور، حيث كانت لنا فيه ضمن برنامج الزيارة رحلة على مدى يوم كامل، بدت لنا المدينة بمطارها ومراكزها التجارية العالمية، وأسواقها الضخمة المتعددة، وكأنها سوق كبير مفتوح يعجّ بالزوار والمتسوقين من كل حدب وصوب ليل نهار، فعلا -وبدون مبالغة- بدأ لي وكأني أمام جمع غفير للجمع ليس إلا، أو موسم للحجيج!
كان موظف وزارة السياحة الماليزية المستضيفة، "خير الأنوار بن علي" في استقبالنا بمطار كوالالمبور، يرفع يافطة ورقية مكتوب عليها "اليمن" باللغة الإنجليزية، وتعتلي مُحياه ابتسامة فيها ترحيب وحفاوة، بينما كان المطار كالعادة مثار إعجاب بالنسبة لنا رغم أنها المرة الثانية التي نزوره فيها؛ فهو أحد أجمل وأشهر مطارات العالم، بقدرته على التعامل مع 35 مليون سائح، واحتلاله المرتبة ال13 عالمياً من حيث طاقته الاستيعابية، وطبيعة ما يتضمّنه ويقدّمه من خدمات للمسافرين والطائرات، فضلا عن الإجراءات والتسهيلات المقدّمة، حيث بدأ كل ما فيه أشبه بمدينة داخل مدينة تجارية، إلى جانب اعتباره إحدى أهم نقاط التعبير عن القوة الاقتصادية للدولة الماليزية، كلف بناؤه 3.5 مليار دولار أميركي، حسب تقديرات مرافقنا الماليزي، وإلى جانب كونه تحفة معمارية رائعة فهو أيضاً المطار الرئيسي للاستيراد والتصدير لمركز دولة ماليزيا.
من المطار إلى وسط المدينة، يقطع الزائر مسافة ساعة واحدة بالضبط بالسيارة، ويمر عبر مساحات شاسعة من الحدائق الخضراء، والمنشآت السكنية الرائعة التخطيط والبناء، المتناسقة الأشكال والطرق الرائعة والجسور المعززة بشبكة المواصلات والاتصالات والمياه والكهرباء المخفية، فضلا عن النظافة المتناهية، إنها فعلا توحي بعظمة التخطيط والتنظيم، ولا تقتصر خدمات النّقل من المطار على السيارات بل القطارات أيضا تتيح الوصول المباشر إلى العاصمة في بضع دقائق، وإلى غيرها من الولايات الماليزية ال13 عبر القطار، ومن موقع المطار في منطقة سيبانغ في جنوب ولاية سيلانجور على بُعد 50 كم من العاصمة الماليزية كوالالمبور.
خلال هذه الرحلة من المطار إلى وسط المدينة، دار الكثير من الحديث بيننا وبين مرافقنا؛ ذلك الموظف العادي البسيط، والذي ربّما يكاد دوره يكون هامشيا وسطحيا في عالم ماليزيا الكبير، الذي يتبيّن أنه خطط له وبناه رجال صناديد مخلصون؛ فمن واقع محادثته تدرك كم هي العقلية الماليزية متطوّرة ومميزة ونظيفة، وراقية في تفكيرها وتعاملها، وهي ترى أن بناء الأوطان ليست بالمهمة السهلة لكنها ليست بالصعبة ولا بالمستحيلة طالما وُجدت الإرادة والإدارة السليمة.
وفق مرافقنا، فإن وجود المطار على بُعد هذه المسافة من العاصمة يعود إلى حقيقة أن ماليزيا (بلد المؤسسات الحديثة)، خطط له مسبقا قبل عدّة سنوات، وبعد نحو مائة عام، وبمناسبة الحديث عن جدلية الانفجارات والتوسّعات السكانية التي تمثل هاجسا مقلقا للكثير من المجتمعات، لن تكون ماليزيا بحاجة إلى بناء مطار مستقبلا!
كل ما هو هنا مثار للدهشة ومبعث للاستغراب، خصوصا بالنسبة للقادمين من بلدان العالم الثالث، من نظام وتخطيط وسلاسة في الحركة والبناء، ومظاهر تطوّر ورُقي ونهضة وتنمية حقيقية مُعاشة على أرض الواقع، وليس مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي في فترات الانتخابات! تحدّثك عن نفسها في كل الزوايا والأمكنة، ولا تحتاج إلى دهاء لاستنباط وتفسير سبب وجودها كحقيقة ملموسة، إذ أن الكل يعمل وفق آلية عمل واضحة تقوم على أُسس ونُظم وقوانين وبرامج واستراتيجيات وخُطط عمل مدروسة سلفا بعيدا عن العشوائية والارتجال وإلغاء الآخر، الكل يعمل إما ضمن مرحلة تنفيذ البرامج والخُطط، أو مرحلة الاستكمال من حيث انتهى السابقون، أو وضع اللمسات الجميلة والخلاقة بما يعزز من جمال البلد في نظر أبنائه قبل الآخرين.
تحس وأنت في ماليزيا أن الوطن ليس "عُزبة" تابعة لمسؤول، يعمل فيها ما يحلو له، كما هو الحال في بعض البلدان حيث يأتي المسؤول إلى أي وزارة أو مؤسسة، ويبدأ فيها مسلسل العبث والتدمير بداعي الإصلاح والتغيير مستغلا صلاحياته الممنوحة والمُطلقة، في تحويل الفساد إلى كابوس فظيع يرعب الجميع، ويعيد المجتمع والبلد برمته في هذه المؤسسة والوزارة من نقطة الصفر وكأن شيئا لم يكن.
مثل هؤلاء المسؤولين وهذه البلدان تذكّرني بصديق أعرفه معرفة عن قُرب، كان يعمل في إحدى العواصم طوال العام بكد وجد وتعب وسهر، وعندما تحل إجازة العيد الكبير آخر العام، ويأتي موسم الرحيل والاشتياق إلى العيال وأم العيال، يذهب إلى القرية وينسف كل ما ادخره دفعة واحدة وبدون أدنى تفكير في القادم المجهول، وقبل انقضاء الإجازة الرسمية، تجده يقطع ما يعرف ب"سبلة العيد" من جذورها، مستلفا ثمن رحلة العودة للعمل، ليطل من الباب بملامحه الشاحبة المرهقة، وأذناه المطأطئتان مدركا ألاّ محالة من البدء في استئناف رحلة كفاح مريرة لا تخلوا من الكثير من تفاصيل العذاب في البحث عن لقمة العيش المغموسة بالذل والمهانة أحيانا كثيرة.
تلاحظ، وأنت في الطريق إلى العاصمة كوالالمبور، حيث تظهر كمركز يجتمع فيه التجار والسياح ورجال الأعمال والمسافرون والطلاب من جميع أنحاء العالم ويعني اسمها بالمناسبة ملتقى النهرين؛ والنهرين هما جمباك و كلانج.. تلاحظ كيف أن المدينة تبنى خارج حدود مربّعات الفشل والفوضى والعشوائية وسوء التخطيط التي لا تفرز سوى مُدن الليل والظلام وأجيال المفاجآت المرعبة!! لتبدو لك مدينة عصرية تمتاز بالنشاطات المتعددة كمركز هام للتجارة والسياحة والدراسة والترفيه في العالم.
تقسيم عرقي
خلال زيارتك إلى ماليزيا لا بُد أن تعرف الكثير عن هذا البلد وتركيبته السكانية والثقافية والسياسية والاجتماعية لكي تتمكّن من الاندماج والانخراط في المجتمع كزائر مثالي، ومنها أن عدد السكان يبلغ حوالي 22 مليون نسمة وتحتوي التركيبة السكانية 3 أعراق رئيسية، هي: الملاويون وهم السكان الأصليون ويشكلون 58 بالمائة من السكان، ويتولون شؤون الحكم والسياسة، والصينيون ويشكلون 26 بالمائة ويديرون الاقتصاد والتجارة والصناعة، والهنود ويمثلون 7 بالمائة ويتولون قطاع الخدمات والتشغيل، بالإضافة إلى أعراق أخرى تشكّل 9 بالمائة، لكن المُهم أن الملاحظ أن هذا التكوين العرقي ليس مثار خلاف من أي نوع، بقدر ما هو محط تناغم رائع يوزّع الأدوار بين أفراد المجتمع ويحدد المهام والمسؤوليات في منظومة البناء التنموية للبلد.
مثل هذا التناغم والتوزيع في الأدوار، المتراضي عليه وغير المكتوب ربما في سياق العقد الاجتماعي، قد لا تجده في بلدان ومجتمعات كثيرة تعصف بها الخلافات وتعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ولم تصل إلى مستوى ما وصلت إليه ماليزيا رغم أنها لا تتألف من نفس التركيبة العرقية، بل ربما قد تسر لنفسك قائلا: سبحان المسيّر لمثل هذه البلدان، تعيش حالة من الاحتراب والتناحر على نفس الأسباب التاريخية العقيمة (الكرسي والسلطة)".
من المهم الإشارة هنا إلى أهمية تدخل التركيبة الثقافية والعقلية والمرجعيات الفكرية والدينية في إبراز مثل هذه الإشكالات داخل بعض المجتمعات إلى جانب عوامل مثل الفقر والأمية وغيرها. أما في ماليزيا -على سبيل المثال- فمرد هذا التناغم ربّما نابع من أن التعليم والاهتمام بالإنسان يشكّل محورا أساسيا من محاور التنمية. والقاعدة هنا تقول -كما يشير مرافقنا: "الإنسان محور التنمية ووسيلتها في ذات الوقت"، لهذا فإن المسؤولين هنا يدركون أهمية التعليم والصحة بالنسبة للمجتمع، وإيجاد جيل متسلّح بالعلم والمعرفة أفضل من إنشاء جيل متسلح بالجهل لأنه قد يكون فريسة ووبالا على المجتمع والتنمية، لهذا فقط من المهم أن تعرف أن ماليزيا من بعد الاستقلال تخصص ما نسبته 40 بالمائة من ميزانية الدولة للتعليم، حيث يتقدّم للامتحانات التعليم الأساسي كل عام نصف مليون طالب وطالبة كل عام، بينما نسبة النجاح هي 98 بالمائة، في حين تجد أن أقلّ من واحد بالمائة هي نسبة الأمّية، أما متوسط دخل الفرد فيتراوح بين 300 -700 دولار شهريا و8000 ألف دولار سنويا.
مزارات وحدائق
في هذه المدينة، حيث استمرت مُدة بقائنا ثلاثة أيام ضمن برنامج الزيارة، والتي يقال إنها كانت قديماً عبارة عن محطة لتعدين القصدير والمناجم، أنشئت في عام 1800م، تكاد لا تصدق أنها اليوم تتألق بالمباني الشاهقة والمباني التاريخية القديمة التي يزورها السياح من مختلف أنحاء العالم، حيث يسيرون في هيئة مجاميع وفرادى في الأزقة والشوارع، لدرجة تخاف معها لو تفقد صديقك وسط الزحام، خصوصا إذا ما استغرقت بالإمعان والتأمل في جموع البشر التي تعج بها المدينة من مختلف الأجناس والأعراق والدِّيانات.
اللافت مع ذلك كله ألا تجد من يتعدى على أحد أو يتطاول عليه، بل الكل يسير بجوار الآخر، كل في حال سبيله، وفي تناغم رائع وبديع يؤكد حقيقة التعايش بين الأمم والشعوب، ورغم الاختلاف، إلا أن الهدف ربما كان واحدا ومشتركا هو زيارة المناطق السياحية والمعالم الأثرية والأماكن الترفيهية، وأبرزها البرجان التوأمان بتروناس البالغ طولهما 1.483 قدما أي ما يساوي 453 مترا, ومنارة كوالالمبورالتي تناولنا فيها وجبة عشاء رائعة مع الكثير من العائلات الماليزية ممن تصطحب أبنائها رأس كل أسبوع إلى مثل هذه الأماكن للترفيه، ويبلغ طولها 421 مترا, وعين على ماليزيا وهي العجلة الدائرة ويبلغ بعدها عن الأرض 60 مترا وهي تطل على كل كوالالمبور وهي الأكبر في العالم.
هناك أيضا العديد من المزارات السياحية والحدائق المائية الجميلة والبحيرات الرائعة والمباني التاريخية, وعلى الرغم من تحول كوالالمبور إلى مدينة في غاية الحداثة إلا أنها مازالت تحافظ على جمالها القديم ويستطيع عشاق التاريخ والآثار إشباع رغبتهم في هذه المدينة وفي كل مدن وولايات ماليزيا.
سفاري عائلية
مثلما ينصح المشرفون على رحلات السفاري الزوار إلى جنوب أفريقيا، بضرورة تحري الحيطة والحذر أثناء تجوالهم وسط الغابات، واحترام البيئة البرية الجديدة التي هم بصدد زيارتها بما يظهر ولو نوعا من الاحترام لسكانها الأصليين من الحيوانات، كالتأكيد مثلا على عدم أخافه الحيوانات وضرورة التحلي بقدر عال من الشجاعة والثبات أمام ملك الغابة (الأسد) في حال مصادفتهم له وعدم الهلع والجري، لأن ذلك قد يكون آخر شيء يفعلونه في حياتهم. وجدتني بعد زيارة ماليزيا، هذا البلد الإسلامي المنفتح، ملزما بتقديم النصح إلى جميع محبي رحلات السفاري مع عائلاتهم وذويهم، حيث لن يجدوا أفضل من هذا البلد يقدم لهم كافة ما سيشعرهم بالرضى تجاه أنفسهم وأطفالهم بأنهم أحسنوا اختيار وتحديد وجهتهم.
لماذا ماليزيا؟
طرحت وزميلي على أنفسنا هذا السؤال: لماذا ماليزيا مهد السياحة العائلية؟ ولم يتحرج كل منا من الأسرار للآخر بأمنيته في أن يأتي بأولاده إلى هنا مهما كلف الأمر. وكانت الإجابة: لأنها من الدول الذكية التي تمكنت من استقطاب الرحلات الدولية الهائلة طوال الإجازات الموسمية، فهي ليست البلد المفضل لأغلب العائلات وحديثي الزوار وخصوصا من بلدان الخليج العربي ممن تجدهم يسرحون في شوارعها ليل نهار بحرية مطلقة!
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تجد من المثير التوجه الماليزي نحو إنشاء مدن خاصة لاستقطاب أنواع من السياحات مثل السياحة الحلال السياحة العربية بكافة رغبات أصحابها وميولهم ورغباتهم، لدرجة أنك لا تخطئ أن قلت أن استمرار العمل على توجه استقطاب السياحة القادمة من بلدان الخليج وخصوصا من المملكة العربية السعودية هو ما ساهم في بناء مثل تلك المدن على مدى السنوات الماضية.
وما يؤكد أن الأمر لا يقتصر على طبيعة ماليزيا الخلابة كحديقة داخل حديقة، بل وأفضل الوجهات السياحية لمحبي رحلات السفاري العائلية عبر باكجات مخفضة في كاميرون وهيلاند والمنتزهات والحدائق المشرقة بالنظافة، والتي تبهرك وغيرها من مراكز المدينة التجارية بجمالها، وطرقها البرية السريعة، وطرقاتها الصغيرة بين الأحياء، وفنادقها بجميع مستوياتها التي لا تستطيع القفز على اللوائح والأنظمة المنظمة لعمل الفنادق، وقاعدة الخدمات الواسعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
مطعم حضرموت
بمناسبة الحديث هنا عن قاعدة الخدمات من منشآت طعام وشراب وإيواء... الخ، أشير إلى أنني تذكرت زميل لي كان كلما نزلنا بمطعم رغم محدودية وقلة المطاعم التي تقدم خدمات محترمة للجمهور ورأى الزحمة عليها بادر بالتعليق متندرا: "شوف أقلك شعب مطاعم.. شعب أكال"، تمنيت فعلا لو كان معي في الزيارة ورأى ما رايته سوف يصدم بالفعل.
المطاعم هنا لا تعد ولا تحصى، وعلى مختلف الأجناس والأعراق والجنسيات والأذواق والرغبات البشرية، مطاعم ماليزيا اتجهت لتلبية رغبات السياح وتنوعت بالوجبات الأجنبية والخليجية والعربية لدرجة أنك تستمتع فعلا بتناولها ولن تبحث منذ دخولك باب المطعم عن "حاجز خشبي" يحميك من نظرات المتطفلين منذ فتح فمك لأول ملعقة طعام تمسكها بيدك! كما لا تستغرب إن تم استضافتك كما تم استضافتنا في مطعم حضرموت للأكلات اليمنية المشهورة ومنه الكثير من النسخ في كل المدن الماليزية. كان المدهش حقا أني رأيت عمالا هنا بأعداد مهولة من مدن يمنية متعددة يشغلون الكثير من المطاعم في الكثير من المدن الماليزية وخصوصا المطاعم الشامية والعربية.
قبل خمس سنوات كان يندر أن تجد مطعماً عربياً في العاصمة كوالالمبور. أما الآن ومع تزايد أعداد السياح العرب إلى ماليزيا فقد انتشرت المطاعم العربية في أنحاء العاصمة، وبالإضافة إلى المثلث الذهبي في منطقة "بوكيت بينتانج" يتواجد بطول "شارع داماي" في منطقة "امبانج" بالقرب من منطقة البرجين التوأمين مجموعة كبيرة من المطاعم العربية التي تقدم المأكولات والمشروبات اليمنية والخليجية والمغربية والمصرية. والمدهش أن هذه المطاعم التي كانت تستهدف السائح العربي في المقام الأول أضحت الآن مطاعم يقصدها الماليزيين بشكل كبير وذلك بسبب جودة وأصالة المأكولات التي تقدمها تلك المطاعم، لدرجة تشعر معها وكأنك في مدينة للمطاعم والطهاة من كل الأجناس.
والتخطيط الرائع لتصريف مياه أمطارها الغزيرة، واحد من أسباب الجذب. هل تصدقوا ذلك؟ لقد قالها لي أحد الزوار الخليجيين عندما همس في أذني قائلا: "الأمطار هنا تغسل البلاد وتطهرها وبعد توقفها فجأة لا تجد سيارات المواطنين ومنازلهم وشوارعهم غرقى في شوارعها وسط الوحل"!
كذلك هو الحال بالنسبة لمساجدها ذات الطابع الشرقي المميز! طبعا هذه المرافق الهامة تحظى باهتمام ورقابة القائمين على نظافة البلد وإظهارها بصورة مشرفة بمساعدة "مواطنيها" بلا شك والذين يتميز أغلبهم بالهدوء، وأدب التعامل، وعدم التأفف من بعض المواقف التي تصدر من بعض "المعيز" السيّاح باختلاف جنسياتهم!
شارع العرب
وأنت ترى أرتال الزوار العرب يجوبون المدينة وخصوصا شارع العرب الشهير والذي يتطور يوما حسب إيقاع تطور المدينة ونموها، لا تشعر بالغربة هذا الشعور على العكس يكاد يتلاشى عندما تتجول في هذا الشارع الشهير وسط العاصمة كوالالمبور، حيث تصادف يوميا وفي كل وقت، الآلاف الوجوه من مختلف البلدان العربية يحتويها شارع رئيسي واحد، ورغم أنه لا تكاد تغادره روائح خسة الليل ووحشته، إلا أنك لا تجد من يستغل هذا الانفتاح البشري ويلتقط بكاميرا جواله ما يرضي رغباته المريضة وشهواته مثلا، بل الجميع ملتزم بنظام البلد وهدوئه فالقانون والدوريات منتشرة في كل مكان!
أما أكثر ما يلفت الانتباه الحرية الشخصية في ممارسة العبادة بهدوء، وارتداء المرأة الماليزية للحجاب الشرعي التي أجزم أنها لم ترتده إلا عن قناعة قوية، وليس من باب الخوف أو مرضاة للرقابة والمماراة كما هو في بعض البلدان التي للأسف تجد أن ارتداء الفتيات فيها للخمار الذي ليس من الإسلام في شيء إلا للفتنة والإغراء وممارسة سياسة التظليل على الشباب، بل إن البعض قد تتخلص منه بسهولة بمجرد عبورها بوابة مطار بلادها!
ما يعجبك أيضا "فرض الرسوم" على الطرق السريعة بين المدن، والأمر الذي أكسب طرقهم البرية جمالية الصيانة والنظافة والاخضرار الذي يسر المسافر، وساهم في الاهتمام بالمحطات السريعة ومساجدها المميزة حيث تؤدي صلاتك بكل خشوع، وتجدد من نظافتك ونظافة أطفالك من خلال دورات مياه راقية بنظافتها، وهي موزعة في كل الأنحاء وليس كما في بعض البلدان حيث تبدو مركبتك الحديثة وكأنها حيوان أعرج بسبب ما أحدثته الشاحنات من تشوهات وحفر على الطرق، وما أحدثه التخلف الحضاري في التعامل مع المرافق العامة حيث قد يضطر المسافر من رداءة محطاتنا البرية وعدم وجود الاستراحات على الطرقات إلى قضاء حاجته في الخلاء مما أعطى طرقنا صورا مخجلة ومؤسفة!
إن دفع الرسوم البسيطة لبعض الخدمات العامة يزرع بداخل مواطن أي بلد قيمة الأخذ والعطاء وبالذات في مدننا السياحية الخضراء التي مازالت تكاليف زيارتها أعلى بكثير، من مستوى خدماتها الرديئة جدا رغم الأسماء الكبيرة التي تحملها ونفاجأ بسياحية أسعارها فقط دون خدماتها، وذلك كل عام وربما كل لحظة لغياب الرقابة وانعدام دور مكاتب وزارة السياحة المخجل!
إدارة سياحية
لا تسأل هنا عن السياسة والتقنية في إدارة المنشآت السياحية لأنك ستذهل بالفعل، أو تصاب بصدمة حقيقة خصوصا إذا ما قارنت ذلك بالإدارة المتخلفة والمعاقة لما قد يمكن تسميته مجازا في المستقبل غير المنظور في بلد من البلدان "النائمة"، ففي ماليزيا مثلا مئات الحدائق والمتنزهات ومدن الألعاب والمراكز التجارية والمتاحف المتخصصة كلا في مجال بعينة حدائق للطيور ومجمعات للبشر ومتاحف للأرانب والحجر ومتنزهات للورود والزهور والشجر، ومتاحف للإحياء المائية، وكل ما يمكن أن تظن وجوده لا يعدو كونه مجرد حلم على أرض الواقع هو موجود في ماليزيا كحقيقة!
على سبيل المثال مجمع الأحياء المائية، تدخل هذا المجمع مع أطفالك بتذاكر رمزية جدا بالعملة المحلية، دخول هذا المكان طبعا يجعلك تجد نفسك بين مئات البشر لا تشعر بالزحام والضيق والندم لارتياد المكان، وكأنك تحت المحيط تشاهد بث حي لجميع أنواع الأحياء البحرية الموجودة عبر أساليب عرض بديعة جدا، تستخدم فيها جميع الأساليب الحديثة في تقنيات العرض، لتخرج منها إلى صالة كبرى تضم جميع الصناعات الحرفية والتقليدية والألعاب المائية المصنوعة من مختلف أنواع المواد الخام (البلاستك النايلون القماش الحرير الزجاج الخشب الخزف... الخ)، ولدرجة تكاد من كثرتها وكأنك تشاهد كم هائل من الأيادي والعمالة الماليزية تقف وراء صناعتها، وتعتاش من ريع عائدات هذه الحرف، وطبعا هنا لن تفلت ولن تقاوم تلهف وتهافت أطفالك على اقتناء الكثير منها بأسعار سياحية، لكن حذارِ من أن تنفق كل مدخراتك لأنك ستخرج من هذه الصالة إلى صالة أكبر تضم مطاعم تقدم مختلف أنواع الوجبات البحرية، حيث ستكون معها وأطفالك قد أدرككم الجوع ولن تقاوموا أو تتحملوا تلك الروائح الشهية للمأكولات وهي تتصاعد في الأرجاء لتستفز الأنوف والبطون التي يعتصرها الشعور بالجوع إلى حد البكاء ربما عند الأطفال.
في سانوي
تعتبر من أكبر مدن الألعاب في ماليزيا وتحوي مدينة ألعاب مائية وأخرى أرضية، وتقع في منطقة بندر سانوي على حدود مدينة كوالالمبور، وتحوي شلال ماء اصطناعي وأمواج اصطناعية بالإضافة إلى عدة مسابح للكبار والصغار، كما تضم المدينة الأرضية على معظم أنواع الألعاب المعروفة عالمياً وتحتاج المدينة إلى يوم كامل للاستمتاع بكافة الألعاب الموجودة فيها، أنا وزميلي انذهلنا هنا بالإمبراطورية السياحية التي تجلت لنا في هيئة فنادق ومدن العاب، هنا فقط أدركنا كم أن المنشآت السياحية العملاقة والطموحة لكي تثمر وتنجب أجيالا نظيفة تحتاج إلى رؤوس أموال باهظة وإنفاق سخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، رؤوس أموال تعود على المجتمعات بالكثير مما يعزز الآمال نحو امتصاص الفقر والبطالة وحالات الاستغلال من قبل أصحاب المشاريع الصغيرة والمشبوهة وأنصار التيار العكسي ممن يستهدفون فلذات أكبادنا ويحولونهم إلى عبوات ناسفة تفجر نفسها في كل مكان.
في سانوي حصلت وزميلي على الجائزة في مهرجان التسوق، ورأيت مجمعات تجارية هي نفسها فنادق ومطاعم لا حدود لإعدادها وأصناف ما تقدمه من مأكولات، ولا تكتفي بكونها مجمعات لأفضل الماركات والعلامات التجارية العالمية والصناعات، بل تحولت في ذات الوقت إلى مدن وملاعب مفتوحة لألعاب التزلج للأطفال والهواة، في نفس هذه الإمبراطوريات السياحية رأينا اكبر مجمعات للألعاب الالكترونية للأطفال حيث لا تسمع صراخك العالي من فرط الصخب والضجيج!
مهرجان التسوق
من السمات المميزة لماليزيا هي التسوق ومهرجانات التسوق السنوية التي تقام وتجذب أعدادا مهولة من السياح حيث يمكنك إن تجد من كل الفئات الرخيص جدا والتقليد في المدينة الصينية إلى أرقى الماركات العالمية إلى النوعية الجدية والسعر المعقول، وهناك الكثير من القوائم التي توزع حول أفضل مراكز التسوق والأسواق الشعبية والشوارع التجارية في ماليزيا.
كان زميلي عادل صادقا حينما أشار إلى أن هذه التظاهرة بمفردها كافية لأن تقنع الأخيرين بحقيقة أن السياحة في ماليزيا وسياحة التسوق بشكل خاص تشكل اليوم بُعدا جديدا في معادلة السياحة الماليزية، ويتضح ذلك من واقع إشارة المسئولين الماليزيين إلى أنهم يتوقعون أن يجتذب المهرجان خلال 55 يوما أكثر من 3.5 مليون زائر من مختلف بلدان العالم، تتاح لهم فرصة الحصول على احتياجاتهم من السلع والبضائع المعروضة في مختلف الأسواق والمراكز التجارية، بتخفيضات تتراوح ما بين 10 إلى 70 في المائة مع هدايا قيمة يحصلون عليها، نظير شراء كميات معينة من السلع.
إلى جانب جولاتنا في أنحاء المدينة ومتاحفها وفنادقها واطلاعنا على نوعية وطبيعة الخدمات المقدمة في بعض هذه المنشآت الفندقية، قمنا بزيارة الكثير من المراكز التجارية التي تبدو معها وكأنك غير قادر على تحديد وجهتك أو اختياراتك ما لم تكن قد حددت ذلك مسبقا قبل الخروج. فعلا ستجد نفسك متاههة كبيرة من الأسواق والمولات التي لا حصر لها وللمنتجات التي تقدمها حسب الاختصاص.
معارض دائمة للحرف
عدنا إلى كوالالمبور حيث تنبض المدينة بنشاط وهمة مثيرة, وهي بوتقة الحضارات قديمها وحديثها, تجد هناك المساجد الرائعة بقببها الذهبية الجميلة, مثل هذه المدينة أسرع المدن ازدهارا في الشرق الأقصى, لا تستغرب أن وجدت وكان ضمن برنامج زيارتك زيارة لأكبر معارض العرض للمنتجات الحرفية والتقليدية الراقية والرائعة والمتنوعة من المكنسة حتى نماذج الساعات والمصوغات الفضية والذهبية والجرار الترابية والأواني وأحدث تصميمات ومصممي الأزياء المشهورين أو أفضل المصنوعات اليدوية المحلية فستجد بغيتك في كوالالمبور, فهي تضم مجموعة رائعة من الأسواق والمتاجر والمعارض المتخصصة لهذه المنتجات والتي تمنينا لو يتم نقلها لليمن كتجارب رائعة بالمقارنة إلى ما لدينا من صناعات منها ما يحتضر ومنها ما انقرض وتوفاه الأجل!
عندما تعودوا إلى كوالالمبور لا تتحسروا عند رؤية تلك المعارض وما تحتويه من حرف وكم يعتاش منها من اسر، وجمال وجودة وتقنية صنعها ،وهي لا تخلوا من اللمسات الأخيرة في الإتقان، فرجوا عن أنفسكم وقوموا بجولة تبعد الكآبة عنكم في مدينة كوالالمبور وقوموا بزيارة أبنيتها الرائعة والمركز التجاري والتوجه إلى التلال الرائعة وأخذ جولة بعربات التليفريك والاستمتاع بمناظر الطبيعة الخلابة.
في متحف مهاتير
كان من أروع المزارات التي قمنا بزيارتها في اليوم التالي هي متحف الدكتور مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق وباني نهضتها الحديثة، وهو فعلا مكان يحتوي كل متعلقات الرجل وأشيائه وألعابه وهو الذي كتب عام 1970 كتابا بعنوان "معضلة المالايو" وانتقد فيه بشده شعب المالايو واتهمه بالكسل والرضا قبل أن يصعد نجمة في الحياة السياسية ويتولى رئاسة وزراء بلاده عام 1981 ويحولها على مدى22 عام إلى أحد انجح الاقتصاديات في جنوب آسيا والعالم الإسلامي.
لقد استطاع هذا الرجل أن يحول ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، خاصة القصدير والمطاط، إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعي الصناعة والخدمات فيها بنحو 90 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85 بالمائة من أجمالي الصادرات، وتنتج 80 بالمائة من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52 بالمائة من إجمالي السكان في عام 1970، أي أكثر من نصفهم، إلى 5 بالمائة فقط في عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولارا في عام 1970 إلى 8862 دولارا في عام 2002، أي أن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاما، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3 بالمائة.
وجود رؤية للمستقبل
بالطبع في هذا المكان تجد نفسك مشدوها بأدق وأصغر التفاصيل بسيارات الرجل وألعابه وأشيائه الصغيرة نظارته ملابسه هداياه صوره... جميعها تحكي أحداثا وتفاصيل. وليس هناك أكثر إثارة من تلك الغرفة المكتوب عليها: "هنا كان مهاتير محمد يحتسي مع زوجته قهوة الصباح ويرقب النهضة الماليزية من خلال الأبراج وناطحات السحاب". هنا فقط تدرك أن كل ذلك لم يتحقق من فراغ، بل كان وراءه مجموعة من السياسات التي جعلت ماليزيا تتمتع بأحد أفضل بيئات الاستثمار في جنوب آسيا حسب دراسات البنك الدولي. والاهم من ذلك هو أن الحكومة الماليزية كان لديها دائما تصور أو رؤية للمستقبل.
في بوتروجايا
في هذه العاصمة الإدارية لماليزيا والحاضنة لجميع مباني الحكومة الماليزية، لا تستغرب أن مدينة تحفة بهذا الشكل خصوصا أن علمت أنه بدأ البناء فيها في أواخر التسعينيات، ولا تزال أعمال البناء سارية فيها حتى الآن. وتمتاز هذه المدينة الجميلة بمبانيها العملاقة الفخمة والجميلة ذات المعمار الإسلامي الخلاب وطرقها الواسعة وأشجارها الجميلة وتفرعاتها وشوارعها وتقسيماتها المنسقة، وكأنها منقوشة بالملي متر الواحد من فرط اتساقها وانسيابيتها.
من المعلومات التي يجب معرفتها حول هذه المدينة أن أكثر المهندسين الذين خططوا لها وبنوها هن النساء، وتضم الوزارات في ماليزيا 25 وزارة أهمها الصناعة والعمل والاستعلامات، لكن أكبرها وأهمها على الإطلاق وزارة المالية، أما المعلومات الإضافية التي تعرفها على طريق المرور من هذه المدينة هي أن أهم الصناعات هي الالكترونيات وأهم مصادر الدخل الصناعة والسياحة والغاز والبترول، أما الأهمية فهي موزعة حسب الترتيب.
وفي المدينة يوجد ثلاثة أماكن لا بد للسائح من زيارتها الأول هي "حديقة بوتاني" والتي تضم مختلف أنواع الزهور والشجيرات. والثاني مسجد بوترا بمعماره الفخم ورونقه الحي وهو يقع بالقرب من مبنى إدارة رئيس الوزراء، حيث قمنا بالتصوير هنا دون أي مضايقات من أي نوع. أما المكان الثالث فهو "مجمع الاماندا" التسوقي وهو يضم باقة جميلة من المتاجر والمحلات المتميزة.
رحلة العودة
إلى العاصمة مرة أخرى، حيث أقمنا اليوم الأخير، وقبل المغادرة استعدادا لرحلة العودة التقيت بعدد من الطلاب اليمنيين في ماليزيا ممن أتيحت لنا فرصة لقائهم بغرض التعرف على همومهم ومشكلاتهم، لكن نظرا لضيق وقت الرحلة وازدحام البرنامج لم نتمكن من لقاء الكثير من المسؤولين، رغم ما حدثنا به الطلاب من مشكلات وهموم سنتناولها في تحقيق منفصل في إعداد لاحقة. ولا أنسى صباح يوم مغادرة كوالالمبور مراسم التوديع المتواضعة التي قدمتها لنا المسئولة عن منطقة الشرق الأوسط في وزارة السياحة الماليزية، كذلك سيارات "الفرملة ون" التي صادفناها في طريق الذهاب إلى مطار كوالالمبور التي أضحت استضافتها لمثل هذه السباقات والبطولات تدر عليها الكثير من العائدات باعتبارها شكل من إشكال المنتجات السياحية المعاصرة، السياحة الرياضية.
"كلها أربع وعشرين ساعة يا عادل وتعود إلى غرفتك الكئيبة". هذه هي العبارة هي ما تظل راسخة في ذهني حتى اليوم عن الرحلة، قالها مرافقي عادل قبل أن يخلد للنوم في احد الفنادق الراقية التي استضفنا فيها على مدى زيارتنا وقبل بدئنا لرحلة العودة.
صحيفة السياسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.