منذ حوالي عشرين عاما تقريبا عُرف البنك الدولي على الساحة اليمنية خصوصا في المجال الصحي، فقد لوحظ ذلك بوضوح على مستطيلات التمويل أو في مربّعات المنح المعلّقة على لوحات تعريفية للمشاريع الصحية التي بلغتها يد البنك بالعطاء، والتي تجسد أغلبها في منشآت صحية مختلفة. غير أن الحاصل في الفترة الأخيرة أن رؤى البنك اختلفت تجاه برامج الدّعم المقدّمة للقطاع الصحي في اليمن؛ فجعلت قبلتها صوب برامج صحية "ذات جدوى أكبر" بحسب مختصين في البنك، ترى أنها أجدى وأنفع صحيا، وأسرع أثرا للمعنيين. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: ما هي معللات الدعم المالي للقطاع الصحي في اليمن؟ وما سر اهتمام البنك الدولي بهذه القطاعات الصحية؟ وما الذي تحقق قبلا ويمكن أن يتحقق لاحقا على مستوى النظام الصحي الهزيل في اليمن؟ "السياسية" التقت المسؤول الأول في الرعاية الصحية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي الدكتور علا حامد، وأجرت معه الحوار التالي: *ما هو عمر وجود البنك في اليمن، وما الذي قدمه خلال الفترة الماضية؟ - البنك الدولي يعمل في مجال الصحة في اليمن منذ 20 سنة بحوالي أربعة مشروعات سابقة، ركّزت كُلها على دعم المستشفيات والوحدات الصحية بالتجهيزات سواء كانت تجهيزات خاصة بالبنى أو التشطيبات والتجهيزات في شكل أجهزة طبية وتدريبات للعاملين الصحيين وغيرها. غير أن المشكلة فيما مضى تمثلت في أن الوقت الذي يتم استغراقة في تجهيز هذه الوحدات كان طويلا، فالمشروع ينتهي في الوقت الذي تكون فيه تلك الوحدات قاربت على الانتهاء، وعليه لا نستطيع أن نرى نحن أي أثر للتمويلات المتاحة، كما أن الناس أنفسه لا يحسون بأي أثر على صحتهم. *هل يعني أنكم تفكرون في تغيير برامج التمويل لاحقا؟ - ما نحاول عمله هو تغيير اتجاه الدعم، وأن نخلق دعم متوازن، فإلى جانب دعمنا للوحدات الصحية، ندعم أيضا نظام تقديم الخدمة وبحث كيفية عمله في اليمن بشكل أفضل. فالمعروف أن حوالي ثلاثة أرباع سكان اليمن يعيشون في الريف وعلى قمم الجبال، ربما تكون هذه المناطق متقاربة لكنها تشكل مسافة حقيقية للتنقل بينها وتأخذ وقتا طويلا في الوصول إليها بالخدمات الصحية، فحاولنا أن نعيد النظر تجاه نموذج تقديم هذه الخدمة، وقد خلصنا إلى عدّة نماذج وضعتها وزارة الصحة، أهمها: البرنامج الإيصالي. *ما هو البرنامج الإيصالي وما جدواه؟ - أولا، يجب الإشارة إلى أن مؤشرات التطعيم كانت تصل دائما إلى 57-58 %، وبعد أن بدأت وزارة الصحة تقديم نموذج البرنامج الإيصالي المتمثل في استخدام العاملين الصحيين في المواقع الثابتة للخروج من تلك المواقع وزيارة الناس في المناطق خارج النطاق الجغرافي للوحدة الصحية وتقديم الخدمات الصحية لهم بما فيه التطعيم واللقاحات. وهذا النموذج رفع نسب التحصين والتغطية بالتطعيم إلى حوالي 87 بالمائة، وكان له الأثر القوي جدا، وهذا ليس مكلفا كنظام الحملات لكنه يشمل بدلات انتقال للعاملين الصحيين، والتي تُعد بمثابة حافز كفيف وقوي يجعل العاملين نشيطين للعمل والتنقل من أجل وتقديم الخدمات الصحية. وقد بدأنا نفكّر في كيفية جعل هذا النموذج أكثر كفاءة وفاعلية، وهل يمكن أن ندمج خدمات أخرى مع حزمة التحصين، ليشمل التحصين وخدمات طبية أو تغذية أو مساعدة أخرى. وبدأنا نعمل مع وزارة الصحة على تصميم نموذج مشابه، لنتمكّن من تقديم أكثر من خدمة في نفس الوقت بأقل تكلفة، من خلال فرق عمل مكوّنة من عدّة أفراد لكل منهم مهمّة محددة يقومون بتقديم الخدمات وفي نفس الوقت يتم ربط هذه المجتمعات التي يتم زيارتها بالمراكز الثابتة، فربّما يجد هؤلاء العاملون الصحيون حالات ذات خطر يجب أن يتم علاجها في المراكز حينها يتم التعرّف على تلك الحالات و إحالتها إلى هذه المراكز، ومنها: حالات سوء التغذية، والإسهالات الشديدة وحالات الالتهابات الشديدة، أو حالات الخطورة على الحامل، أو على حياة الطفل الوليد. * أين تكمن أهمية البرنامج الإيصالي؟ - حالات الخطورة الثلاثة السالفة التي تم إحالتها إلى المركز تحتاج إلى ثلاثة مراكز متخصصة لعلاجها، ونحن نحاول أن نجمع المراكز الثلاثة في مركز واحد، حيث نختار مركزا صحيا في كل مديرية، ويتم تجهيزه مع الجهات ذات العلاقة، بالبنى والأجهزة والأدوية إلى جانب تدريب العاملين الصحيين، كما أننا سنوفّر وسيلة انتقال لهؤلاء الأفراد للمركز، وكذا إعادتهم إلى القرية بعد تلقي العلاج. وبالتالي نستطيع الوصول إلى مجموعات من الأفراد الذين لم تكن تصلهم الخدمات قبل ذلك، ودائما ما يقعون من النظام الحالي وهم المهمّشون لأي ظروف. وما نحاول عمله من خلال النظام الصحي أن نجعل هذا البرنامج الإيصالي جزءا مكملا وأساسيا من نظام تقديم الخدمة. *هل يعني أن المراكز الصحية الحالية غير مُجدية؟ - استخدام الوحدات الصحية في اليمن ضعيف جدا. فثُمن الوحدات الحالية فقط هو الذي يستخدم استخداما حقيقيا، وأكثر من ربعها تستخدم بشكل بسيط، وهذه خسارة كبيرة للاستثمارات في برامج الصحة كلها. ونحن نريد أن نفعّل هذه الوحدات ونشغّلها حتى نستفيد من هذه الاستثمارات ونعوّض النقص الموجود، خصوصا في الأدوية، التي تعد من أهم الأشياء التي يحصل فيها نقص. *برأيكم ما أهم المشاكل الصحية في اليمن؟ - أهم المشاكل بما نسميه نحن أهداف الألفية، فيها مجموعة من الأهداف المتعلقة بالصحة. الهدف الأول: هو المتعلق بمعدلات سوء التغذية، في اليمن على ثلاثة معدلات هي: نقص الوزن والتقزم والهزال. وستجد أن في اليمن حوالي نصف أطفال اليمن مصابون بواحد من هذه الأمراض. الأمر الثاني هو صحة الطفل، فعندنا وفيات للأطفال على ثلاثة أنواع؛ الوفيات تحت سن خمس سنوات، وفيات تحت سن سنة واحدة، وفيه وفيات حديثي الولادة في أول ثمانية وعشرين يوما، ثم تأتي وفيات الأمهات وصحة الأم، وهي في اليمن عالية جدا. هناك أيضا مشكلة السكان، معدلات الخصوبة عالية جدا، ومعدلات النمو السكاني قد تصل إلى حدود 3 %، وهذه مشكلة مهمة جدا، بعدها عندنا مشكلة الملاريا والبلهارسيا. *ما هي المشاريع الصحية الحالية أو المستقبلية التي يدعمها أو سيدعمها البنك؟ - أولا نشير إلى أننا لا ندعم الملاريا مباشرة تحت المشاريع القادمة، لكنا ندعم البلهارسيا؛ لأن ثلاثة ملايين شخص مصاب به، في اليمن. وهذا يمثل مشكلة صحية كبيرة جدا. المشروع مدته ست سنوات، وقيمته 25 مليون دولار، نهدف من خلاله إلى تقليل نسبة الإصابة، وتخفيفها حتى تصل إلى الحد الذي لا يشكل خُطورة على الصحة. بدأنا العمل فيه قبل عام عن طريق الحملات التي تستهدف المدارس. حيث وجدنا أن المرض ينتشر أصلا عن طريق أطفال المدارس، وهم الفئة النشيطة بسبب التبول أو التبرز في البرك، وعليهم تم إعطاؤهم الدواء، لكن المشكلة أنهم يصابون من مرّة ثانية، ولمنع ذلك يتم إعطاؤهم الدواء بشكل دوري. ثم وجدنا مشكلة أخرى، وهي أن هناك أطفالا كُثر في سن الدراسة غير موجودين في المدرسة بحسب ظروف التعليم في اليمن، وبالتالي لا يأخذون الدواء، وعليه فهم الذين سيعيدون الإصابة للآخرين، فعملنا نظاما يعمل على زيارة المدارس والمجتمعات المحيطة بها بفرق البرنامج، ونعطي الدواء للجميع؛ صغارا وكبارا. وكذا نوزّع الدواء الخاص بالطفيلييات الأخرى، والتي تؤثر على صحة الأطفال وعلى تحصيلهم الدراسي وتسبب سوء تغذية. وعليه فنحن نعالج أكثر من مرض بنفس التكلفة. وخلال المرحلة الاستكشافية وجدنا أن البرنامج حقق تغطية أكثر من 90 بالمائة. وإن شاء الله، ستنخفض نسبة الإصابة في اليمن بدرجة كبيرة. أما مشروع الصحة والسكان - سابق الذكر- فمدته ست سنوات، وقيمته 35 مليون دولار. حيث سيتم العمل على زيارة المجتمعات المختلفة، وتقديم الخدمات الصحية لهم، والتعرّف على حالات الخطورة وإحالتها إلى المراكز المجهّزة. ونعمل في هذا المشروع مع وزارة الصحة، مع قطاعي الرعاية الصحية الأساسية والسكان في شراكة ما بين القطاعين. هناك مشروع آخر هو مشروع الأمومة الآمنة، قيمته 6 ملايين دولار، وينتهي في يونيو 2012، وهو مشروع نعمل عليه مع القطاع الخاص، خارج نظام منظمة الصحة، حيث تم عمل عقد مع مستشفى العلوم والتكنولوجيا والسعودي - الألماني لإجراء عمليات توليد للسيدات، حيث تم الاتفاق على عمل 12 عيادة، ست عيادات لكل منهما، في المناطق الفقيرة في حضر صنعاء، لنرى هل تنجح التجربة أم لا، وقد تم اختيار تلك المستشفيات لأنهما الوحيدة القادرة ماديا على عمل ذلك. فالمستشفى في البداية يدفع من حسابه، ويقدم الخدمة ومن ثم نحن ندفع له، ويجب أن يكون قادرا على ذلك. وقد عملت التكنولوجيا حوالي 6 عيادات، وولدت قرابة 4 ألف سيدة من حوالي 6500 سيدة تم التحاقهم بالبرنامج. وهذا العلاج يشمل المضاعفات أثناء الحمل، والعمليات القيصرية التي قد تحدث، وتغطية مصاريف الطفل الوليد بما فيها الحضانة أو أي مضاعفات. ويستهدف 40 ألف سيدة. إضافة إلى مشروع الأمومة الصحية بقيمة 3 ملايين دولار، ينتهي في يونيو 2013، وهو مشروع نعمله مع الجمعيات، ولدينا شريك في المشروعين الخاصة بالأمومة الأمنة والصحية هو منظمة سول للتنمية. ففي المشروع الثاني رأينا أن المنظمة وطنية مدنية يمكن أن يكون لها دور أكبر من خلال إدارة هذه العملية، وبدلا من التعاقد مع القطاع الخاص جعلنا "سول" هي التي تتعاقد معهم، ثم تعمل على التعرف على الأسر الفقيرة وتوجيههم إلى العيادات الخاصة في تلك المستسفيات (العلوم والسعودي). وسيتم العمل فيه على أربعة نماذج لتقديم الخدمة؛ أولها: تقديم الخدمة عن طريق الوحدة الصحية، وهي وحدة صحية مملوكة للقطاع الخاص، أو عن طريق القابلات المؤهلات، أو استخدام الفرق المتحرِّكة، وأخيرا نموذج استخدام العيادات المتنقلة. وهذا المشروع يعمل في الريف اليمني وليس في الحضر. ويستهدف 12 ألف سيدة. وذلك لصعوبة المناطق، فنحن متوقعون أننا لن نستطيع أن نصل إلى عدد أكبر من ذلك. *هل يتم الاستفادة من تجربة مصر في مكافحة البلهارسيا؟ - هناك استراتيجية واحدة لمنظمة الصحة العالمية، والتي طبّقت في مصر هي نفسها التي تطبّق في اليمن، لكن ما استفدناه في اليمن هو أننا تفادينا الأخطاء التي حصلت معنا في مصر، ومنها عملية مكافحة القواقع التي كانت تكلف أموالا طائلة، ولا تعطي نتائج. فألغينا هذا النشاط، وركّزنا على الدواء، فهو الذي يعطي نتيجة أكبر ويحافظ على المعدلات وليس الرش والقواقع. الثاني: أننا تحدثنا مع شركائنا من البنك الدولي في القطاعات الأخرى على أن استراتيجية مكافحة البلهارسيا تعتمد على أربع استراتيجيات هي: الدواء، التثقيف الصحي، القواقع، والصرف الصحي، وهذه لا تتبع وزارة الصحة. ولهذا هناك أهمية في مجال الصرف الصحي والمياه الآمنة، في أن يتم عمل أولوية للمناطق الموبوءة بالبهارسيا حتى تستفيد أكثر حيث أننا بذلك نقلل المرض. *ما إجمالي الدعم المقدم لتلك المشاريع، وهل هناك موازنة محددة لدعم المشاريع الصحية في اليمن، أم أن الحاجة هي من يحدد ذلك؟ - إجمالي تمويلات البنك الدولي في اليمن حوالي 70 مليون دولار خلال الخمس السنوات القادمة. أما عن الدعم المقدم لليمن من مؤسسة التمويل الدولية فهو مبلغ محدد كل سنة، يأتي كل ثلاث سنين ويتوزّع على كل سنة. ودائما كان نصيب الصحة ما بين 20 -30 مليون دولار. في الفترة الزمنية خلال استراتيجية التعاون ما بين اليمن والبنك الدولي، وهي ثلاث سنوات، غير أن الحاصل أنها لم تكن تُصرف كلها، ولهذا لا تخصص مبالغ أخرى في المستقبل. فالاستثمار في الوحدات الصحية كان يؤدي إلى بُطء في الصرف. أما المشروع الحالي فقد صُمم على أساس أن يتم فيه استيعاب مبالغ أكثر، ونستطيع توصيل خدمة أسرع للناس مثل: الحملات والبرنامج الإيصالي. *ما نسبة ما يُقدم لليمن من المنح، وما نسبة القروض، وهل يوجد نوع من التنافس على دعم البنك بين اليمن ودول أخرى في الإقليم؟ - أولا مصر في دعمها تتبع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، واليمن وجيبوتي تتبع مؤسسة التمويل الدولية، وإذا كان هناك من تنافس فهو بين اليمن وجيبوتي، لكن دعم جيبوتي لا يُذكر مقارنة بحجمها، ولا يتعدي 3-4 ملايين دولار، وعليه يمكن القول إن اليمن المستحوذ الأكبر على التمويلات التي تأتي من مؤسسة التمويل الدولية في الإقليم، وما يقدّم حاليا لليمن كله منح ولا يوجد أي قروض. * من ينفذ مشاريع البنك، ومن يشرف عليها؟ - تنفيذ المشاريع هو مسؤولية الحكومة ممثلة بوزارة الصحة، ونحن لا ننفذ أي مشروع، لكننا نشرف على التنفيذ، وهناك فريق من البنك الدولي يأتي دوريا، وفيه أعضاء مقيمون من اليمن يتولون عملية الإشراف على التنفيذ، ونعمل على متابعة المشروع عن قُرب. *ما علاقتكم بالمنظمات الدولية الأخرى المهتمة بالصحة في اليمن؟ - علاقتنا بمنظمة الصحة العالمية أو منظمات الأممالمتحدة الأخرى كلها في أنهم جميعا شركاء معنا في جميع تلك المشروعات، وكلنا نعمل بشكل متكامل مع وزارة الصحة. ولكل واحد دور مُعيّن. صحيفة السياسية