تتسم العلاقات الصينيةالهندية بالتعقيد؛ فالبلدان الجاران قوتان بشريتان هائلتان، وكلاهما قوتان عسكريتان نوويتان، ومتفوقتان تقنيا، واقتصادهما من أكبر اقتصادات العالم، وخطاب السياسة الخارجية الخاص لكليهما يدعو لعالم متعدد الأقطاب بعيدا عن الهيمنة والأحادية، وحضارتاهما الموغلة في التاريخ تقفان على أرضية الثقافة البوذية المشتركة, وتعد الصين أكبر شريك تجاري للهند في عام 2020. مع ذلك بين البلدين ماضٍ دامٍ شمل حربا نشبت العام 1962 واستمرت لواحدٍ وثلاثين يوما، واشتباكات وصدامات عسكرية محدودة تتجدد بين الفينة والأخرى على المناطق الحدودية المتنازع عليها بين الطرفين، كتلك التي حدثت منتصف العام الماضي وأوائل العام الجاري. فالهندوالصين تشتركان في حدود تمتد على مسافة 3440 كيلومترا وبينها مناطق يدعي كل طرف منهما السيادة عليها، ولم تكن هناك ثمة حدود مشتركة بين الهندوالصين نظراً لأن إقليم التيبت كان دولة مستقلة شكلت عملياً منطقة عازلة بين العملاقين الآسيويين، لكن رفض الصين الاعتراف بترسيم الحدود خلال مرحلة الاستعمار البريطاني، قاد بكين للاستيلاء على إقليم شينجيانغ عام 1949، المعروف آنذاك بجمهورية تركستان الشرقية. ومن ثم غزت القوات الصينية إقليم التيبت عام 1950، وبحلول عام 1959 كانت قد ضمت التيبت كلياً إلى أراضيها في أعقاب فرار زعيمه الروحي الدالاي لاما إلى الهند في أعقاب محاولة تمرد فاشلة ضد الصينيين، وبدأت الصين تنظر إلى الهند بريبة، وتلقي باللوم على نيودلهي عن دعم نشاطات مناهضة لبكين. ولقد مرت العلاقات الصينيةالهندية بتغيرات كبيرة خلال العقود السبعة الماضية تراوحت بين الصداقة والعداء. وقد شهدت معظم الخمسينيات من القرن الماضي علاقة صداقة وتقارب بين البلدين. لكن في الستينيات تدهورت العلاقات، وذلك بسبب المخاوف حول المصير النهائي لإقليم التبت، فضلا عن النزاعات الحدودية حول منطقة أكساي تشين وخط مكماهون، وهو ما أدى في النهاية إلى اندلاع حرب 1962، التي انتهت بهزيمة الهند وخسارتها الأراضي المتنازع عليها، كما دفع هذا التطور إلى تعميق العلاقات العسكرية والاقتصادية الاستراتيجية بين الصينوباكستان، أكبر خصوم الهند في جنوب آسيا. واستمرت العلاقات العدائية بين الطرفين في السبعينيات، خاصة بعد التقارب الأميركي الصيني، وتدهور العلاقات الصينية السوفييتية، وهو ما أدى إلى نشوء تحالفات جديدة في إطار الحرب الباردة، إذ انحازت الولاياتالمتحدة للصين وباكستان في مواجهة الاتحاد السوفييتي والهند. ونجح البلدان في إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وحاولا منذ التسعينات إبقاء الوضع الحدودي أو ما أطلق عليه ب"خط السيطرة الفعلية" على ما هو عليه، وتم الاعتراف به قانونيا في الاتفاقيات الصينيةالهندية الموقعة في عامي 1993 و1996، مع احتفاظ الطرفين بمواقفهما من موضوع الحدود، وحاولا التفرغ لبناء علاقات أكثر براجماتية، وتعزيز التعاون الاقتصادي. واليوم، ووفقا للبيانات الصادرة عن وزارة التجارة الهندية، تعد الصين أكبر شريك تجاري للهند في عام 2020؛ حيث بلغ حجم التجارة الثنائية 77.7 مليار دولار أميركي، مقارنة بحجم التجارة الثنائية بين الهندوالولاياتالمتحدة في نفس العام التي بلغت 75.9 مليار دولار أميركي. المفارقة هنا هو تزامن هذا الوضع الاقتصادي مع توتر متصاعد في العلاقات بين البلدين بسبب النزاعات الحدودية، كما أن الهند لا ترى هذا الوضع في صالحها وتسعى لاحتوائه؛ إذ يتسع العجز التجاري بين الهندوالصين ليقترب من مستوى 40 مليار دولار أميركي، ليصبح أكبر مصدر للعجز التجاري الهندي، حيث تشير الإحصاءات إلى أن إجمالي واردات الهند من الصين العام الماضي قد بلغت 58.7 مليار دولار أميركي، وهو ما يفوق إجمالي واردات الهند من ثاني وثالث أكبر شركائها التجاريين، الولاياتالمتحدة والإمارات، بينما بلغت صادرات الهند إلى الصين 19 مليار دولار أميركي. وفي هذا الصدد؛ قالت وكالة بلومبيرج أن الهند قد قامت خلال العام الماضي بحظر المئات من تطبيقات الهواتف المحمولة الصينية، بحجة تهديدها للأمن القومي الهندي. بالإضافة إلى ذلك، أبطأت الهند أيضًا إجراءات الموافقة على الاستثمارات القادمة من الصين، وأشارت رويترز إلى أن الهند قد قامت بتأجيل الرد على 150 طلبا استثماريا صينيا، تزيد قيمتها عن ملياري دولار أميركي. إن الخلافات بين الهندوالصين لا تقف عند قضايا الحدود بين البلدين، أو موضوع التنافس الاقتصادي، بل تتعداها لتصل لتنافس القوتين الكبيرتين على الفضاء الإقليمي المحيط بهما، والدخول في أحلاف ثنائية أو جماعية تنظر كل منهما لها بعين الريبة والقلق. فالهند التي تعد من أهم الاقتصادات الآسيوية، وكانت جزءا من النقاشات المتعلقة باتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، انسحبت منها قبل التوقيع عليها في نوفمبر من العام الماضي من قبل الصينواليابان وجمهورية كوريا واستراليا ونيوزيلندا، ودول رابطة جنوب شرقي آسيا "آسيان"، نظرا لكونها، ومن وجهة النظر الهندية، لم تأخذ بعين الاعتبار تحفظاتها المتمثلة في حماية مصالحها الصناعية والزراعية ومصالح عمالها، وإعطاء ميزة لقطاع الخدمات في البلاد، وبالتالي رأت الهند أن الاتفاقية لا تعالج هذه القضايا، إضافة إلى تخوفها من أن تضر هذه الاتفاقية بالمصالح الاقتصادية الهندية وألا تستفيد من الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين الدول الأعضاء، إذ ثمة عجز في الميزان التجاري مع 11 دولة من أصل 15 دولة أعضاء في الاتفاقية. ولعل السبب الرئيس للانسحاب الهندي هو ما تراه من الوضع المتميز لبكين في الاتفاقية التي ستعمد لاستغلال تلك RCEP لصالح مشروع طريق الحرير البري والبحري الخاص بها، وهو الأمر الذي تخشى منه الهند، فتتحول الصين الى مستعمر من الباب الخلفي عن طريق اتفاقيات التجارة الحرة. في ذات السياق؛ وعلى قدر ما تطمح الهند من الاستفادة من المشروع الصيني، من خلال الاستثمارات في البنية التحتية الناشئة من هذه الشروع لتعزيز نموها الاقتصادي، إلا أنها تتخوف من زيادة تأثير الصين في المحيط الهنديوجنوب آسيا على حساب مصالحها ومنطقة نفوذها التاريخية، وترى في الدعم المالي والاستثمارات المقدمة من الصين للدول المحيطة بالهند محاولة منها لتطويقها ولتطويع هذه الدول وجعلها في صفها، فلقد زادت الاستثمارات الصينية في مشاريع تطوير البنية التحتية في جزر المالديف والنيبال وبنجلاديش وسريلانكا، وهو ما زاد من مخاوف صانعي السياسة الهندية بشأن وجود الصين في فنائها الخلفي واختراق جوارها المباشر. وتعززت تلك المخاوف باعتبار أن أغلب جيران الهند تربطهم علاقات متوترة معها، فلقد اشتكت حكومات المالديف وسريلانكا والنيبال من تدخل نيودلهي المفرط في شؤونهم الداخلية، مما جعلهم يرحبون بالدور الصيني لحفظ التوازن في مواجهة الهند ولتعزيز قوتهم التفاوضية أمامها. وكما حو الحال أيضا مع باكستان غريمتها التقليدية، وصاحبة العلاقات التاريخية الوطيدة مع الصين، والتي باتت جزءا محوريا من المشروع الصيني العملاق؛ حيث ربط البر الصيني (إقليم شينجيانغ)، مرورا بالجزء الباكستاني من كشمير، ثم إلى ميناء جوادور على المحيط الهندي، ولذا فقبولها بالمشروع الصيني هو قبول بالسيطرة الباكستانية على كشمير، كذلك جوادار قريبة من الممرات البحرية الهندية التي تربط الهند بالخليج العربي، حيث تحصل منه على أكثر من 70 بالمائة من إمداداتها النفطية. في مواجهة ذلك تسعى الهند إلى إقناع الدول الأخرى، على غرار سريلانكا، بالتخلص من حضور بكين الاستراتيجي على أراضيها أو الحد منه، من خلال التحذير من عبء الديون التي قد ترتبها مبادرة الحزام والطريق على هذه الدول. وقد سعت نيودلهي أيضاً إلى بناء علاقاتها مع البلدان المجاورة للصين التي تهدف إلى تعزيز نفوذها في تعاملها مع بكين، ولا سيما اليابان. وقد تعاونت الهند مع فيتنام في التنقيب عن المعادن في بحر الصينالجنوبي واتخذت خطوات لبيعها صواريخ براهموس. كما تكفلت بتطوير ميناء "تشابهار" الإيراني على المحيط الهندي، وإنشاء شبكة سكك حديدية تصل الميناء بأفغانستان لتحقيق أهداف اقتصادية واستراتيجية طموحة ترى في هذا الميناء بوابة الدخول إلى منطقة الشرق الأوسط، ويفتح لها طريق وصول جديد إلى غرب ووسط آسيا وتوسيع مصالحها في أفغانستان غير الساحلية، ويسمح لها بمنافسة الصين في بسط السيطرة والنفوذ على دول آسيا. وفي المقابل، وعلى مدى عقود، رأت الصين في الهند مصدر إزعاج أكثر مما رأت فيها تهديداً، باعتبار أن ميزان القوة الاقتصادية والعسكرية يميل لصالحها على حساب الهند، ويمكن استمالة الأخيرة عن طريق الإقناع أو الضغط. لكن ذلك لا يعني الاستهانة بالهند كقوة اقتصادية وعسكرية إقليمية ذات نفوذ كبير في المنطقة، خصوصا مع تحالفها الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة المنافس الأعظم للصين، أو مع الأقوى الأخرى المنافسة لها في المنطقة والحلفاء لأميركا أيضا. كما هو الحال مع التحالف الأمني الرباعي "كواد" الذي أنشأته كل من الولاياتالمتحدةواليابانوالهند واستراليا عام 2007، بغرض مواجهة صعود الصين وكبح جماح قوتها العسكرية والاقتصادية المتنامية، وعمل ترامب على إحيائه في العام 2017، ثم بايدن الآن الذي سعى لتفعيله هذا الشهر عبر عقد قمة افتراضية لزعمائه. وتخشى بكين قطع طرقها التجارية في حال نشوب صراع مع واشنطن، إذ قد تضطلع الهند بدور محوري في ذلك نظراً لموقعها الاستراتيجي في المحيط الهندي بين الصين ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط واحتياطيات الموارد الأفريقية والأسواق الأوروبية، حيث مضيق ملقا أو ما وصفه الرئيس الصيني السابق هو جينتاو ب"مأزق ملقا"، والذي في كثير من المناسبات هددت الهند بإغلاق ممرات الوصول إليه في حال تدخل الصين في الحروب الهنديةالباكستانية الحساسة بين عامي 1971 و1999. وعموما؛ يمكن القول إن أهم ما يميز طبيعة العلاقات الصينيةالهندية هو انعدام الثقة وتباين المصالح الاستراتيجية بين الطرفين، ما يؤشر لمزيد من ملامح التنافس وربما الصراع المحدود بينهما، لكن كلا البلدين يحرصان على ألا يتطور الوضع بينهما لخطر الحرب على غرار ما حصل في ستينات القرن الماضي، وكلاهما يعلمان جيدان أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة في السياسة.