احتفلت الجمهورية التونسية اليوم الجمعة رسمياً بدستورها الجديد والذي تمت المصادقة عليه في 27 يناير الماضي، بمشاركة عدد من رؤساء الدول العربية والإفريقية والأوروبية بالإضافة إلى وفود رفيعة المستوى من مختلف دول العالم. وبدأت فعاليات الاحتفال بإقامة موكب رسمي بمقر المجلس الوطني التأسيسي "البرلمان المؤقت" تحت إشراف الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر ورئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة. وشارك في هذا الموكب الاحتفالي الرسمي أيضا رئيس مجلس الأمة ورئيس الاتحاد البرلماني العربي مرزوق علي الغانم إلى جانب عدد من قادة الدول ورؤساء الحكومات والجمعيات البرلمانية لعدد من الدول العربية والإفريقية والأوروبية. وأعتبر الرئيس التونسي محمد المنصف المرزوقي في كلمة له بهذه المناسبة الدستور الجديد بأنه انتصار لتونس على الدكتاتورية والإرهاب. وأعرب المرزوقي عن تقديره لمشاركة رؤساء وقادة دول العالم وممثلي البرلمانات في احتفال تونس بالدستور الجديد.. مشيدا بالدعم الذي قدمه المجتمع الدولي لتونس بعد الثورة في سبيل إنجاح مسارها الانتقالي نحو الديمقراطية. من جانبه قال رئيس المجلس الوطني التأسيسي بن جعفر إن نجاح تونس في تقديم "نموذج متميز في الديمقراطية" يرجع بصورة رئيسية إلى "روح التوافق التي ميزت المسار الانتقالي في مرحلتيه الأولى والثانية". وأكد رئيس الحكومة التونسية المؤقتة مهدي جمعة بدوره أن سن دستور جديد للبلاد يمثل محطة "مهمة" في تاريخها ويعد لمزيد من الانجازات في المسار الديمقراطي وفى تحقيق أهداف ثورة 17 ديسمبر 2010. وقال جمعة إن "الفرحة والاعتزاز بهذا الانجاز العظيم لا يمكن أن ينسينا أهمية الرهانات القادمة وحساسية الخطوة التالية نحو بناء دولة ديمقراطية فنحن مطالبون جميعا باستكمال بقية المسار والتدرج نحو انتخابات حرة وشفافة ونزيهة". وكان رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، التي تقود حاليا الائتلاف الحاكم في تونس، قد وصف الدستور الجديد لبلاده بأنه الأعظم في تاريخ تونس، وأعظم دساتير العالم.. وقال "إن هذا الدستور، هو أعظم دساتير العالم، دستور الثورة، دستور الوفاق، دستور لا غالب ولا مغلوب بل الكل منتصر". وأعتبر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الدستور التونسي بأنه "نتاج توافق وجهد مشترك ويؤكد التوافق بين الإسلام والديمقراطية".. وقال "إن الدستور التونسي يضمن الحريات واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، والحوكمة الرشيدة، والمساواة بين المواطنين، والمساواة بين المرأة والرجل". هذا ويشارك في احتفال تونس بدستورها الجديد تحت شعار "العالم يحتفل مع تونس بدستورها" أكثر من 27 وفداً رسمياً، بينهم رؤساء، وملوك، وأمراء، وممثلي وفود دبلوماسية من دول عربية، وأفريقية، وآسيوية، وأوروبية، وأمريكية. ومن ضمن المشاركين 8 رؤساء دول عربية وأوروبية وإفريقية هم: الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، ورئيسا لبنان وموريتانيا ميشال سليمان، ومحمد ولد عبد العزيز، إضافة إلى رؤساء تشاد والسنغال ومالي والغابون وغينيا. ومن ضمن فعاليات احتفال التونسيين باعتماد دستورهم الجديد، لقاءات الرئيس منصف المرزوقي مع قادة الدول المشاركة في الاحتفال، وإلقاء كلمات رؤساء المجلس الوطني التأسيسي والجمهورية والحكومة، إضافة إلى كلمات عدد من الرؤساء وممثلي الدول، فضلا عن تنظيم أمسية ثقافية بمركز الموسيقى العربية والمتوسطية "قصر النجمة الزهراء" في سيدي بوسعيد بهذه المناسبة. وحافظ الدستور الجديد "الذي سيحل محل دستور عام 1959" على مكاسب مهمة ترتبط أساسا بحقوق المرأة والدولة المدنية، لكنه عزز في المقابل أيضا الهوية الإسلامية للمجتمع التونسي والمطالب التي قامت عليها الثورة بأن منح تمييزا إيجابيا للتنمية في المناطق الأكثر فقرا. وقد حظي هذا الدستور بأصوات مائتي نائب مقابل 12 ضده وامتناع أربعة نواب عن التصويت. ويأتي احتفال اليوم بينما تخرج تونس من الاضطرابات السياسية التي شهدتها منذ اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في السادس من فبراير 2013.. في عملية نسبت إلى تنظيم أنصار الشريعة. وسيدخل الدستور الجديد حيّز التنفيذ يوم الاثنين المقبل، وفقا لما أعلن عنه رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر، عبر الصفحة الرسمية للمجلس التأسيسي على فيسبوك. ويشكل الاحتفال التونسي حدثا مهما، وهو الأول من نوعه عربيا، وحظي باهتمام دولي غير مسبوق، من خلال مشاركة وفود من دول عدة في فعاليات هذا الحدث. ويتكون الدستور التونسي من عشرة أبواب، وأكد في أبرز بنوده تمسّك الشعب التونسي بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال، وهو يؤسس ل"نظام جمهوري تشاركي، في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي للحكم". وأقر في بابه الأول دين الدولة وهو الإسلام ولغتها هي العربية، ونص على الجمهورية نظاماً لها، وشدد على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وسعي الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات. وقال إن "الدولة راعية للدين" و"كافلة لحرية الضمير والمعتقد"، كما أكد حماية الدولة لكرامة الذات البشرية وضمن عدم سقوط جريمة التعذيب بالتقادم، وحظر سحب الجنسية من أي مواطن أو منعه من العودة إلى البلاد. وحظي الدستور التونسي الجديد بدعم وتأييد دولي كبير وقوبل بتقدير أوروبي أيضاً. حيث رأى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أن المصادقة على الدستور التونسي الجديد، تشكل مرحلة تاريخية.. وشدد على أن العملية الانتقالية الديمقراطية في تونس اجتازت مرحلة تاريخية جديدة بالمصادقة على دستور جديد. أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فأشاد بالدستور، وقال : "إنه شمل ضمانات للحريات". وتؤشر كل هذه التفاعلات إلى أن تونس دخلت مرحلة جديدة تؤهلها لأن تلعب أدوارا مهمة وفاعلة في العالم العربي الذي يعاني من أزمات طاحنة وانقسامات حادة في عدد من دوله، ويحتاج إلى التعلم من الدرس التونسي حول كيفية التوافق الوطني عبر الحوار الجاد، في سبيل بناء مجتمعات عربية عصرية ديمقراطية، تحقق النهضة والكرامة للإنسان العربي. وقد عرف دستور يناير 2014 محطّات تاريخية مهمّة، إذ امتدّ عمل النواب عليه لأكثر من سنتين، حيث انطلق إعداده مطلع يناير 2012، ليختم في صيغة نهائية في 1 يونيو 2013. وعند عرضه برزت عديد التحفظات والانتقادات من قبل المجتمع المدني والملاحظين والخبراء القانونيين والنواب أنفسهم، وهو ما تطلّب تكوين لجنة توافقات أولى داخل المجلس "22 يونيو 2013"، وثانية بالتعاون مع رباعي الحوار الوطني "25 ديسمبر 2013" لمناقشة النقاط الخلافية وتغليب منطق التوافق، إلى أن تمّ يوم الأحد "26 يناير 2014" التصويت لفائدة الدستور الجديد بأغلبيةٍ ساحقة. وشهدت بعض الفصول من الدستور نقاشات حادة وجدلا كبيرا داخل المجلس وخارجه منذ صياغتها والى حد المصادقة عليها وهي الفصول 1 و6 و38 و73 إلى جانب الفصل المتعلق بتجريم التطبيع وجانبا من الأحكام الانتقالية.. كما عرفت التوطئة بعض الاختلافات وتمت إعادة صياغة بعض أجزائها أكثر من مرة. وليست صياغة الدستور، اليوم وفي تونس، بالأمر الجديد على هذا البلد، فقد كانت تونس سبّاقةً في تقاليد سنّ الدساتير في العالم العربي من خلال عهد الأمان 1857 الذي أصدره محمد باي، ثم دستور 1861 الذي أصدره محمد صادق باي، وإثر الاستقلال جاء دستور يونيو 1959 الذي تمّ تعليق العمل به في2011. ولكن ما يميز دستور 2014 هو أنه كان الأطول من حيث عدد الفصول والأكثر دقة وإلماما بكل التفاصيل وذلك لتفادي كل الإشكاليات أمام تطبيقه ولقطع الطريق أمام كل نوايا المس به أو التلاعب بمقتضياته أو تأويله لصالح طرف ما. وقد مثّلت صياغة الدستور التونسي والمصادقة عليه إنجازاً، ليس على المستوى الوطني بل على المستويين العربي والعالمي.