تمثل قضية التنمية الشغل الشاغل لكل مجتمعات العالم المتقدمة منها والنامية باعتبار تحقيقها هدفاً أساسياً والقيام بها وظيفة من وظائف الدولة، سواء قامت بها بصورة مباشرة أوغير مباشرة، لتأسيس مجتمع مدني يحوي مؤسسات تنظم وتدير عجلة التنمية الفعلية في البلاد. لذلك كان لابد من قيام الثورة اليمنية في 26 سبتمبر1962 و14 أكتوبر1963، لتغيير الأوضاع التي وصلت إليها البلاد من التخلف والتراجع عن حضارة العصر التى أخذت طريقها إلى معظم دول المنطقة والعالم. وإلى جانب ما ركزت عليه الثورة اليمنية في أهدافها من تحقيق للتنمية الشاملة ونهج سبيل الحرية والديمقرطية كخيار أساس للشعب.. عمدت حكومة الثورة إلى تغيير الموروث الإداري البدائي لعهد الإمامة المستبد، واعتماد أساليب تتناسب وتوجهات العصر الجديدة . وفي هذا السبيل، كان من الضرورى البدء في تأسيس أجهزة ومؤسسات حديثة للدولة تواكب العصر وتنقل اليمن من ظلام عصر الإمامة الكهنوتي المستبد إلى نور الثورة لتعيش ضمن مجموعة الدول العصرية الحديثة . وقد مر بناء دولة المؤسسات في اليمن في نشأته وتطوره بثلاث مراحل: هي نفسها مراحل بناء وتطور الدولة الحديثة، أوهي ذاتها مراحل التحديث في اليمن،وتختلف هذه المراحل فيما بينها بعدد من المحددات التى تعد سمة لكل مرحلة. فالبدايات الأولى للمجتمع المدني ارتبطت بمرحلة ماقبل الثورة والاستقلال،من خلال تأسيس جمعيات خيرية ودينية وأندية اجتماعية وثقافية، تلى ذلك قيام النقابات والأحزاب السياسية وظهور الصحافة المتعددة، خصوصاً في مستعمرة عدن. في هذه الفترة الزمنية، كان اليمن لا يزال مقسما إلى شطرين كلاهما يخضعان إلى حكم لا ديمقرطي.. ففي الشمال حكم إمامي وراثي مستبد، قائم على المركزية والتفرد في الحكم والتسلط، حيث كان الإمام هو الحاكم المطلق للبلاد والممثلال أعلى للسلطة السياسية والتنفيذية والقضائية، وجمع هذه السلطات الثلاث جعله يقوم بالإشراف المباشر على جميع الإعمال الإدارية على اختلاف أهميتها ومراكزها، ذلك ان النظام الإمامي المستبد كان يفتقر إلى الأسس الحديثة لبناء الدولة"غياب الأسس الدستورية والقانونية المنظمة لسلطات الدولة"، وبالتالى كانهذا النظام يمنع تأسيس أي جمعية أو منظمة حتى لو كانت موالية له. أما في جنوب البلاد فكان هناك حكم إستعمارى سلاطيني لا ديمقراطي يفتقر لمظاهر التحديث اجتماعاً واقتصادياً وسياساً، ماعدا مدينة عدن "المستعمرة البريطانية حينئذ" التى شهدت بعض الانفتاح، تمثل بظهور قوانين مدنية تسمح بتأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب والصحافة . ولما كان معظم اليمنيين العاملين في مدينة عدن هم من الريف،خصوصا من ريف الجنوب أو الشمال على حد سواء، فإن تواجدهم في نشاط اقتصادي حديث تطلب منهم العمل على خلق أشكال مؤسسية حديثة توفر لهم آليات تضامن وتعاون فيما بينهم وخلق قنوات للتعبير عن قضاياهم ومتطلباتهم الوظيفية، وهوما كان الاستعمار يسمح به للجاليات من غير ابناء عدن . هذه الأشكال المؤسسية ارتبطت بانتماءات الأفراد القبلية والقروية حيث كانت تتأسس جمعية لكل جماعة من المهاجرين من منطقة محددة وتسمى هذه الجمعية باسم منطقتهم أو قبيلتهم، وهذه الجمعيات تعتبر الأشكال التقليدية الأولية لمؤسسات المجتمع المدني وهي في تأسيسها كانت انعكاساً للظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة، لكنها عبرت عن وعي متطور، حيث أدرك هؤلاء أن واقعهم الجديد في عدن أو في المهجر، يتطلب منهم آلية جديدة لخلق التضامن والتكافل، إضافة إلى الدفاع عن حقوقهم الوظيفية في ظل الاستعمار . وخلال حقبة الستينيات، خصوصا بعد انتصار ثورتي سبتمبر وأكتوبر الخالدتين، ظهر حكم الدولة الوطنية التي أكدت في خطابها السياسي منذ اليوم الأول حرصها على تجاوز كل مظاهر التخلف الإمامي والاستبداد الاستعماري .. فكان الانفتاح على العالم وتفعيل مجمل العلاقات أحد أهداف الثورة للاستفادة من حركة التطور الحضاري العالمي . واتجه المجتمع إلى تنظيم مشاركته الشعبية، من خلال أطر مؤسسية أهلية مدنية تعمل مع الدولة من اجل إنجاح برامج وخطط التنمية .. فظهرت خلال السبعينات تجربة العمل التعاوني في اليمن، والتي تعد من أنجح تجارب العمل الأهلي المدني ومثلت اللبنة الأولى لتظافر جهود الدولة والمجتمع في تحقيق التنمية الشاملة.. واستطاعت هيئات التعاون الأهلي للتطوير التي انتشرت في كل ربوع اليمن انتفعل الجهود الذاتية وتوجه الناس نحو المشاركة الشعبية في عملية التنمية،فقد ارتبط نشاطها منذ الوهلة الأولى باحتياجات الناس، وخاصة في إقامة مشاريع خدمية إنشاء البنية الأساسية لنهضة الريف اليمني. وخلال الفترة من/1975-1985/ حققت الجمعيات الاهلية للتطوير التعاوني الاكثر نشاطا في شمال الوطن نجاحا ملموسا في مجالات التنمية وخاصة في بناء المدارس والمراكز الصحية والعلاجية وربط القرى الفلاحية بالمراكز الحضرية عبر شق شبكة من الطرق الممهدة والترابية، اضافة الى مد مشاريع المياه النقية وايصالها الى الارياف، كماانها لعبت دورا كبيرا في الحث على تعليم الفتاة وايقاظ الاهتمام به وتشجيع الفتيات على الانخراط في التعليم الابتدائي ومواصلة التعليم حتى الجامعة وفتح فصول محو الامية لتعليم من فاتهم القطار من الجنسين. وفي ظل دولة الوحدة تعددت وتنوعت مؤسسات المجتمع المدني، وتعددت وتنوعت أشكال نشاطها.. فبعد إعادة تحقيق وحدة الوطن وقيام الجمهورية اليمنية في22مايو 1990م، أكد الخطاب السيسي على التعددية السياسية والحزبية واعتماد الديمقراطية نهجا رئيسا للدولة. ونص الدستور اليمني على حق الأفراد في تأسيس المنظمات الحزبية والنقابات والمنظمات الأهلية الاجتماعية والثقافية، وضمن كافة الحريات بموجب المادة(57) من الدستور، وهذه التحولات التي ارتبطت بدولة الوحدة خلقت مناخا ساعد على اتساع العمل السياسي، الأمر الذي أفرز ظهور عشرات الأحزاب والجمعيات والنقابات والاتحادات ومراكز الأبحاث والمعلومات. وتقدر عدد مؤسسات المجتمع المدني في اليمن حاليا بنحو (2713) مؤسسة.