كل ليله وفي كل هزيع أخير , ظللت بخيالي امسح قريتي حجرا , حجرا , بيتا , بيتا , حتى سخر لي أن أزورها الآن كل يوم !! , ليس الأمر بمعجز للعلم , فبين الثانية والنصف بعد الظهر والثالثة لحظة مجيء صديقي الدائمين أمارس هوايتي اليومية , بعض غناء لمحمد عبده زيدي يطوف بي عدن ونواحيها ( أنت فين واغزير السلى ) فيخضر روحي , واتبعها ب ( يا قلبي كفاية ) فأدرك كم اتعب الحب ذلك الرجل الذي قضى عشقا لعدن وحبيبته التي ذهبت ولم تعد ليذهب هو بدون عوده !! وأكمل ب (نجوم الليل) للهرم الكبير أيضا علي الإنسي , ولا باس بقليل من (ممشوق القوام) , تكون أصابعي لا تعبث بقدر ما تلمس تليفوني لانتقل بلمسة العلم إلى ربى الكدره قدس , وما كنت محروما منه أصبح متوافرا كل يوم وفي متناول يدي , فارى قريتي من الفضاء , فاكتشف تفاصيلها يوميا , هناك بيت البسباس , بيت قاسم مهيوب , معلامتنا أين لمسنا أول الحروف على اللوح المحفوظ , وهناك الكريف حيث سبحنا طويلا , هناك مسجد القرية , وهناك أول دار عمره الآتي من جبل غراف قرب المخا جدنا علي مقبل , وهناك الطريق ترتفع بنا إلى الأعلى حيث دار زعفران التي عاد لها محمد عثمان من الحبشة ذات ليلة مظلمة بعد غياب خمسين عاما !!, هناك الشجرة التي جلست إلى جانبها حسناء المراعي ذات عصارى أيام ماطرة ترعى كبشها ويديها تخيط الكوفية لحبيب القلب المعدني !! , وهناك ديمة الكلب الأسود المرعب حق عبد الودود, وهناك في الأعلى كريف قرية المجزعة نصل إليه أطفالا عرايا , نخبئ ملابسنا في اقرب ( شحج) حتى لا يفاجئنا العم عبد الكافي فيستولي عليها عقابا لنا , لكننا خدعنا مرات كثيرة فكنا نعود إلى أمهاتنا كما خلقنا !!نخسر ملابسنا وتتلقى أجسادنا الغضة ما يتيسر من ضربات اقرب عصى !! لكنها كانت لذيذه ..فطالما كررنا المحاولة , وأصغر الصورة فتظهر (الكدره) بتفاصيلها من العلى , فانحدر إلى وادي (الجنات) المكان الذي تعرفنا فيه إلى اليبيب , أو الهدهد , وعصافير صفراء ملونه , والبلابل , لا يزال نبع الماء جاريا , وحدهن النسوة لم يعدن يذهبن إليه !!!, هناك الطريق يتلوى كالثعبان فاتبينه بكل تفاصيله حيث العذابات التي كانت تتعب السيارات !! هناك بيت عمي , جدي , ابن عمي , ابن جدي , هناك الأحوال تتدرج صعودا هبوطا , صوت الزيدي ( محجور ..محجور ..حجرتك بروح السلى والسلامة ) ( وامغرد غبش ..والشجن من شبام ...لا سواحل تهامة ) ( سوي مثلما هو ...سوى بك وأكثر ....كم يقسى ويهجر ) ويا قلبي كفاية , يذهب بي (فنان الأحاسيس) كما وصفته زنينة المطر ,يذهب بي بعيدا إلى حيث يتكسر موج النفس ..ويظل روحي يمارس عشقه لكل ذرة تراب في حول جدتي الأثير إلى نفسها ( ذي العلس ) من أروت ترابه بعرقها ورائحة مشقر الازاب , أظل أدور من الفضاء بعيني اغسل قلبي بخضرة أراها من فضاء الله إلى أرضه مشهد يخلب اللب , إذ لأول مرة أرى بداياتي حيث أنفاسنا لا تزال تلهث هناك من الفضاء , لأول مرة اكتشف جمال الكون هناك والممتد بين ذبحان والنقطة التي توقفت فوقه نجمة الشيباني سعيد ( يا نجم يا سامر ...فوق المصلى ) , المصلى من الأعلى تبدو ساكنه والماء لم يعد يسافر باتجاه درة الروح عدن , وإن صدح بجانب أذني مغني ( سرى الليل وانائم ...على البحر ) , وآه يا طريق المسافرين إلى البحر يبحثون عن الحلم , ويا عدن تظلين أم الدنيا في نظري ......, اجول باللمسة بين النباهنه قرية أمي وأخوالي , إلى الدخل, إلى القبع ,والاشعاب ,هناك عمقان , الزبيرة , الأعروق , الاعبوس والشويفه , أعود إلى حلقان , أتدحرج على النقيل , هناك كانت (زريد) محطة يضع عندها الحماره تعبهم عند عبده احمد رشفة شاهي ملبن , وأظل أسير هناك (العرش) حيث فول الوزير , هنا المدرسة , بجانبها المقبرة , هنا قبر جدي بجاش , هنا قبر جدتي نعمه , هنا قبر من أرضعتني حبها وحنانها وكل شوقها عمتي شريفه من قالت فقط ( أريد يا رب أموت واني اضحك ) فتركت بنات أخيها ودخلت إلى فراشها لتسافر سفرتها الأخيرة , قالت البنات في ما بعد ( كانت عمتك مبتسمة وعينيها تلمعان بالرضى ) , - لم أرى في حياتي إنساناً مثل تلك الإنسانة بالمطلق- , هناك قبر عمي عبد الوهاب وآثار أقدام كلابه الثلاثة لا تزال بادية عليها في وفاء نادر لا مثيل له , هل هناك أوفى من الكلاب ؟؟ , رأيت جدتي من السماء , ومن الأعلى قرأت الفاتحة على روحها ....وفوق قريتي ذرذرت ما استطعت من طفولتي......