عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْريِّ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "كَانَتِ امْرَأةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مَعَ امْرَأتَيْنِ طَوِيلَتَيْن، فَاتخَذَتْ رِجْلَيْن مِنْ خَشَبٍ، وَخَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ مُغْلَقٌ مُطْبَقٌ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكّا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبُ، فَمَرَّتْ بَيْنَ الْمَرْأتَيْنِ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا" وَنَفَضَ شُعْبَةُ يَدَهُ. (رواه مسلم)، وفي رواية أحمد: (فَكَانَتْ إذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ، فَنَفَحَ رِيحُهُ). أعزائي المربين والمربيات: اعتمد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة (الأسلوب القصصي) كأحد الأساليب التربوية المؤثرة في نفس السامع والمتلقي، والقصة تعد من الأساليب التربوية القوية والوسائل الفعالة في غرس القيم والمبادئ وإلقائها في النفوس، وتثبيتها في العقول، ولأنها تحتوي على وقائع ذات حركة وأداء وتفاعل بين أطرافٍ مختلفة؛ فهي تلبي شغفا حقيقيا في النفس البشرية، وتمدها بغذاء للوجدان والعقل معا، حيث يجد السامع أو القارئ في ثناياها الفكرة والمغزى والخيال والأسلوب واللغة الراقية. ولكل قصة قرآنية أو نبوية هدف تربوي رباني سيقت من أجله، والعبرة المستفادة من القصة إنما يتوصل إليها صاحب الفكر الواعي، الذي لا يطغى هواه على عقله وفطرته، وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"(يوسف:111) (التربية على منهج أهل السنة والجماعة، ص:268/نقلاً عن: أصول التربية الإسلامية وأساليبها،ص:245).
وقصة المرأة القصيرةٌ زاخرة بالدروس والعبر النافعة للمؤمنين والمؤمنات، ومن أهمها:
- الربط الواضح بين تبرج النساء وهلاك بني إسرائيل: هذه القصة تعرض ملمحاً من ملامح الحياة في بني إسرائيل قبيل هلاكهم، ضمن مجموعة من الأحاديث التي عددت أسباب ذلك الهلاك، وقد كان تبرج النساء قاسماً مشتركاً بينها، ولشدة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من هذه الأسباب؛ فقد ذكر عددا من صور هذا التبرج في أكثر من حديث صحيح مفصل، وذلك خشية أن يصيب هذه الأمة ما أصاب بني اسرائيل من الهلاك إذا وقعوا في نفس المخالفات! عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، عَامَ حَجَّ، وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ، وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِيٍّ: "أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ»(رواه البخاري في اللباس، باب الوصل في الشعر، حديث رقم 5932). وفي رواية مالك يقول: (يا أهل المدينة أين علماؤكم؟.. إلى آخر الحديث، (رواه مالك في الموطأ، باب: السُنّة في الشعر). قال أبو عمر ابن عبد البر: فيه الاعتبار والحكم بالقياس لخوفه صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الهلاك كبني إسرائيل، فإن من فعل مثله استحقه، أو يعفو الله، وفيه وجوب اجتناب العمل الذي هلك به قوم آخرون. ويحتمل أن بني إسرائيل نهوا تحريما عن ذلك، فاتخذوه استخفافا، فهلكوا.
- حال المرأة إذا لم ترضَ بما قسم الله لها: الرضا بالقضاء والقدر من أكبر أسباب السعادة واطمئنان النفس، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الإيمان، قال: "أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت"(رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم)، وكثير من الناس يعتقد أن الإيمان بالقدر مَحِلُّه عند وقوع المصائب فقط، وهذا خطأ لأن الإيمان بالقدر يشمل كل شيء من حال الإنسان لا يستطيع تغييره، مثل جنسه وشكله والزمن الذي ولد فيه! والقصة التي معنا تحكي حال امرأة من بني إسرائيل، تملّكها الشعور بالحسرة على قصر قامتها، ورأت في نفسها أنها أقل حظّاً في نيل إعجاب الرجال ولفت أنظارهم، من غيرها من النساء، وكان الرجال من بني إسرائيل يرون الجمال في طول المرأة. وبدلاً من الرضا بقضاء الله وقدره، ظلّت تفكّر زماناً طويلاً للبحث عن أفضل الطرق لجذب أنظار الناس إليها، حتى اهتدى عقلها إلى حيلة تزيل ما تظنّه عيباً فيها، فصنعت لنفسها نعلين من الخشب تلبسهما تحت الثياب لتزيد من قامتها، وتظهر أمام الناس طويلة. وكان من حيلتها أيضاً، أن اتّخذت خاتماً من ذهب صنعته خصّيصاً عند أحد الصاغة، وأمرته أن يجعل فيه تجويفاً له غطاء؛ لتملأه مسكاً قوي الرائحة، ثم كانت تذهب إلى مجامع الناس وتحرّك يدها ذات اليمين وذات الشمال، فيفوح شذى العطر في أرجاء المكان؛ ليسلب بعبقه ألباب الرجال وينال استحسانهم لها. فعدم رضا المرأة بما قسم الله تعالى لها من النعم، والتفاتها إلى ما في يد غيرها، حتماً سيؤدي إلى تنغيص عيْشها، وقد يجرها إلى ارتكاب ما حرم الله من أجل الوصول إلى ما تطمح إليه، كما فعلت هذه المرأة من بني اسرائيل.
- إن أكرمكم عند الله أتقاكم: حساسية المرأة الشديدة بالنسبة لمسألة الشكل والمظهر أمر واضح لا يخفى على أحد! وحب الزينة والجمال مركبٌ في خِلقة المرأة وفطرتها؛ ولذلك أباح الله تعالى لها من الزينة ما لم يبح للرجال، مثل التزين بالحرير والذهب، فلا جناح عليها أن تتزين كما تشاء، شريطة أن يكون ذلك وفق الضوابط الشرعية إباحةً وأمراً، وحظراً ونهياً. ولكن عند كثير من النساء الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فهي تحب دائماً أن تكون الأجمل والأكثر جاذبية إذا ما قورنت بأترابها، وثمة نقص قد يتولد في نفسها إذا فاقتها قريناتها جمالاً، وهنا في هذه القصة لم تقنع هذه المرأة من بني اسرائيل بشكلها وطولها الذي فطرها الله تعالى عليه، ولعل الذي حرّك ذلك في نفسها أيضاً هو مقارنتها الدائمة لنفسها بصاحبتيْها الطويلتيْن، وشعورها أن لديها نقصاً إلى جوارهما، وقد جرّها ذلك إلى اختراع وسائل تعويض هذا النقص بتغيير خلق الله (فاتخذت رجلين من خشب)!
وفي هذا توجيه إلى تربية المرأة المسلمة على أن أكثر ما ينبغي أن تهتم به في حياتها هو مدى تحقيقها لتقوى الله تعالى، وأن تكون مراجعة تقواها لله ومحاسبتها لنفسها في ذلك هو شغلها الشاغل كلما أصبحت وأمست، فميزان التفاضل عند الله تعالى هو التقوى والعمل الصالح، قال تعالى:"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات:13) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "(رواه مسلم) وعنه أيضاً قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : أي الناس أكرم ؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم "(رواه البخاري).
- التحذير موجهٌ للرجال بمقتضى مسؤوليتهم عن نسائهم: لا بد أن وراء ارتكاب النساء لهذه المخالفات تفريط وتساهل من أوليائهن، سواء كان الوليُّ أبا أو أخاً أو زوجاً، لأن القوامة في شريعتنا تقتضي التأديب والتهذيب ووقاية الأهل من النار باجتناب ما نهى الله تعالى عنه، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم:6) - عن علي رضي الله عنه، في قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) يقول: أدبوهم، علموهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار.
وإن كانت المرأة قد جبلت على حب الزينة والتزين والتصنع كما قال الله تعالى: "أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ"(الزخرف:18)، فلتتعلم أن هذه الزينة لها ضوابط عليها ألا تتجاوزها وعلى وليها أن يعودها ويربيها على الحياء والعفة، وتعظيم شرع الله تعالى وأوامره، وأن صورتها التي خلقها الله عليها قد سمّاها في كتابه (أحسن تقويم) قال تعالى: "والتين والزيتون، وطور سيني، وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" – التين:1-4 - قوله : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) هذا هو المقسم عليه، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة، سوّي الأعضاء حسنها. (ابن كثير/تفسير سورة التين). وإن كان نقصٌ في جمال الصورة؛ فلتكمله بجميل الصفات، وتكثير المهارات، ورفيع الفضائل والأخلاق. المراجع: * تفسير القرآن العظيم: الحافظ إسماعيل بن كثير. * التربية على منهج أهل السنة والجماعة: أحمد فريد. * أصول التربية الإسلامية وأساليبها:د.عبد الرحمن النحلاوي.