تكشفت في الأيام الأخيرة أزمة في الداخل الليبي يبدو أنها كانت مكتومة طوال الأشهر الماضية، حيث تعرض المجلس الوطني الانتقالي مؤسسة ومسؤولين لانتقادات حادة وصلت إلى حد الهجوم على مقر المجلس ومحاولة الاعتداء على مسؤوليه . بل وحدوث ذلك التعدي بالفعل على نائب المجلس الذي استقال رداً على ذلك . وتعكس تلك التطورات أبعادا أعمق من غياب الأمن وانتشار السلاح بين الليبيين، إذ وضح أن الأزمة سياسية واجتماعية بالأساس، وأن طريقة إدارتها من جانب المجلس الوطني صبت تجاه مفاقمتها أو على الأقل تجاهلها بدلاً من معالجتها أو تسويتها . ورغم أن المستشار مصطفى عبد الجليل حذر من انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية إذا استمر الوضع الراهن، فإنه لا إشارات واضحة على تغيير حقيقي في طريقة التعاطي مع تلك الأوضاع المضطربة داخل ليبيا، التي ربما لم تصبح “جديدة” بعد . شهدت ليبيا في الأيام الأخيرة تطورات مهمة تدفع المراقب إلى التفكر ملياً في ما آلت إليه الثورة الليبية . فعلى الرغم من القضاء على القذافي حكماً وشخصاً، وإنهاء عهد الجماهيرية بشكل عام؛ فإن حالة الغضب المكتوم التي تكشفت مؤخراً لدى الشارع الليبي، تشير إلى أن ليبيا لم تخرج بعد من مرحلة الثورة بشكل كامل، وأن تدشين المرحلة الانتقالية الذي أعلنه المجلس الوطني الانتقالي بعد مقتل القذافي في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (أي منذ ثلاثة أشهر) ربما كان خطوة متعجلة في بلد لا يزال أهله يرون رموز ورجالات القذافي في بعض المؤسسات والجهات الرسمية بما في ذلك المجلس الوطني الانتقالي ذاته . وتدعو تلك التطورات إلى إعادة النظر في توصيف وتقييم الوضع الراهن في ليبيا، بل وربما في إطلاق مسمى “ليبيا الجديدة” الذي اصطلح عليه في الأشهر الماضية للدلالة على أن ثمة تغيرا شاملا وقع في طرابلس الغرب . احتقان سياسي وشعبي بعد أن كان الطاغي على التطورات الداخلية في ليبيا حالة الانفلات الأمني وانتشار السلاح وعدم السيطرة على الفصائل الثورية المسلحة، تحول الاهتمام في الداخل الليبي حالياً إلى حالة الاحتقان التي تسود المواطن الليبي نفسه سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعات والتنظيمات السياسية، خصوصاً بعد التطور الإيجابي الذي شهدته منظمات المجتمع المدني في ليبيا، وكذلك مختلف القوى والتيارات السياسية التي استشعرت مسؤوليتها في الإسهام ببناء الدولة الليبية وعدم الاكتفاء بمتابعة التطورات الميدانية وملاحقة ما تقوم به القوى المسلحة أو المؤسسات الرسمية التي تقود الدولة . وظهرت إشارات متتالية في هذا الاتجاه الجديد، كان أبرزها تكرار أحداث الاحتجاج غير السلمي على ما يقوم به المجلس الوطني الانتقالي من إجراءات رأى فيها البعض عدم امتثال لمطالب الثورة الليبية وتجاهلاً لتطلعات الشعب الليبي . وتوجت تلك الأحداث باقتحام مقر المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي مطلع هذا الأسبوع، حيث هاجم المقر نحو 1500 شخص امتنع حراس المقر عن مقاومتهم، فقاموا باقتحام المقر وإتلاف محتوياته . كما قاموا بتحطيم سيارة رئيس المجلس، المستشار مصطفى عبد الجليل، الذي كان قد تمكن من مغادرة المكان هو وعدد من مسؤولي المجلس قبل وصول المقتحمين إلى مكتبه والعبث به . وكان لافتاً أن أولئك المحتجين كان من بينهم أعداد من المصابين من مقاتلي الثوار الليبيين، الذين كانوا يتضررون من عدم وجود أعمال أو إعانات لهم فضلاً عن التمييز الذي اشتكوا منه مراراً لصالح مقاتلي بعض الفصائل الثورية على حساب أخرى . وقام المستشار مصطفى عبد الجليل بمقابلة ممثلين عنهم لبحث طلباتهم، وناقش معهم ملف الجرحى والمصابين، إذ اعتبره المعتصمون أولوية قصوى بالنسبة لهم . ووعدهم عبد الجليل بتغيير أسلوب التعامل الرسمي مع ذلك الملف . ورغم أن اللقاء أسفر عن فض الاعتصام، فإن الأحداث المتوالية التي سبقت الاعتصام وتلته، تشير إلى أن الأزمة أخطر من مجرد مطالب متعلقة بملف الجرحى والمقاتلين، وهو ما يتبدى بوضوح من الرجوع إلى التطورات التي سبقت الاعتداء على مقر المجلس الوطني . فقبل الهجوم بساعات كانت أعداد من المحتجين قد سارت إلى المجلس وألقت قنابل حارقة في الساحة المواجهة له . بيد أن تطورات أخرى مهمة سبقت تلك العملية . شملت اعتصامات شعبية في أكثر من مدينة ليبية، منها في ميدان الحرية بمدينة بنغازي، وميدان قطر (الجزائر سابقا) بوسط طرابلس . وبعيداً عن خصوصية ملف الثوار السابقين ومصيرهم في سياق التعامل الرسمي، يسود الاحتقان الشعبي على أكثر من مستوى في ليبيا لأسباب أخرى، أبرزها استمرار بعض رموز نظام القذافي سواء في مواقعهم السابقة أو في مواقع أخرى جديدة، الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة في أوقات سابقة على مدى الأشهر القليلة الماضية، وأعلن المستشار عبد الجليل غير مرة أن المجلس الوطني الانتقالي سيتولى تصحيح تلك الأوضاع، وأنه لا مكان بين الليبيين لأتباع القذافي . بيد أن عبد الجليل نفسه عاد في أوقات أخرى وأعلن أن ليبيا الجديدة ليست انتقامية، وأن المصالحة هي السبيل الناجع للبناء . وبين الخطابين المتباينين، لم يتخذ المجلس الوطني الانتقالي إجراءات فعلية، في هذا الاتجاه أو ذاك . الأمر الذي جعل الأمور تسير بقوة الدفع الذاتي وبشكل تلقائي، حسب كل مؤسسة وحسب كل تطور أو قضية على حدة . . ما فتح الباب أمام استمرار شخصيات ومسؤولين تابعين للقذافي في بعض المواقع دون مراجعة أو مساءلة، بينما تمت الإطاحة بآخرين إثر انكشاف أمرهم أو تعرضهم لانتقادات حادة . ووضح هذا التباين أثناء مشاورات تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة عبد الرحيم الكيب . حيث استغرق تشكيلها عدة أسابيع وتم تأجيل إعلانها أكثر من مرة، وكان السبب الأساس وراء ذلك التأخير هو الخلاف حول الأسماء المرشحة وخلفياتها السياسية، وهو خلاف كان قائماً داخل المجلس الوطني الانتقالي ذاته، ثم بين المجلس ورموز وقوى سياسية وثورية من خارجه . فضلاً عن ردود الفعل الشعبية التي كانت تتابع تلك الخلافات والتباينات بدرجة عالية من الاحتقان والاستياء من وجود أو احتمال استمرار رموز تولوا مسؤوليات أو مناصب في ظل القذافي . على هذه الخلفية يمكن فهم ما تعرض له عبد الحفيظ غوقة، نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي، الخميس الماضي، عندما هوجم من جانب طلاب في جامعة بنغازي وجهوا له اتهامات حادة أبرزها أنه “انتهازي” وكان جزءاً من نظام القذافي، ما دفع غوقة إلى إعلان استقالته من المجلس . ويعتبر كثيرون من الشباب الليبيين أن مسؤولين حاليين تعاملوا مع الأوضاع في ليبيا بانتهازية سياسية دعتهم إلى التغاضي عن تطهير الدولة من أتباع القذافي، خاصة أن بعضهم كان بالفعل ضمن قيادات القذافي في بعض الفترات . دلالات خطيرة تحمل تلك التطورات دلالات مهمة لجهة مستقبل الحياة السياسية في ليبيا ومؤشرات الاستقرار الداخلي هناك . أهمها ما يتعلق بغياب الضبط الأمني وعجز السلطات الرسمية عن إحكام سيطرتها على الوضع الأمني، إذ لم تعد المسألة مقتصرة على المناطق الرئيسية ومداخل المدن أو هيمنة بعض الفصائل الثورية على بقاع بعينها تعتبر أنها مسؤولة عنها، لكن الأمر وصل إلى حد وقوع اعتداءات على مقر السلطة الأولى في ليبيا بسهولة ودون قدرة حقيقية على منعها . فامتناع عناصر الحراسة عن التدخل لمقاومة مهاجمي المجلس الوطني الانتقالي عكس من ناحية العجز عملياً عن إبداء تلك المقاومة، ويفتح الباب من ناحية أخرى على إمكانية أن يكون بعض عناصر التأمين والحراسة متعاطفين مع أولئك المهاجمين، خاصة أن معظمهم من المقاتلين السابقين والمتضررين من الحرب ضد القذافي . والمحصلة أن التداخل بين العناصر والفصائل الثورية بشكل عام والأجهزة الرسمية والمجتمع الليبي يجعل الأداء الأمني المؤسسي والفردي غائبًا عن الداخل الليبي بشكل عام . ووصلت تداعيات هذا الغياب إلى مستويات حساسة وتهدد مؤسسات الدولة . الدلالة الثانية المهمة في هذا السياق، أن المسؤولين في المجلس الوطني الانتقالي، أصبحوا بالفعل في وضع لا يحسدون عليه، فقد خرجوا من دائرة الهيبة والتقديس التي أحاطت بهم طوال فترة الحرب ضد القذافي، وبدأت الحصانة النفسية والشعبية التي منحهم إياها الشعب الليبي تتآكل تدريجياً مع انغماسهم في الحياة السياسية واضطرارهم إلى التعامل اليومي مع متطلبات إدارة الدولة، الأمر الذي جعلهم محل انتقاد واسع النطاق من جانب الليبيين على مستويات مختلفة، بدءاً بالساسة التقليديين الذين كانوا تابعين للقذافي بالفعل ويستاءون من إقصائهم خارج الحياة السياسية في ليبيا الجديدة، مروراً بالفصائل الثورية التي رفضت الخضوع والانصياع لقرارات وتوجهات تهدف إلى تسييس الدولة وتقنين أوضاعهم التنظيمية والتسليحية، وكذلك الأمر بالنسبة للساسة الجدد الذين أفرزهم الصراع ضد القذافي قبل وبعد اندلاع الثورة، خصوصاً أولئك الذين كانوا خارج ليبيا وعادوا إليها مع الثورة، إذ يعتبرون أن لهم حقاً في وطنهم الذي عادوا إليه ليشاركوا في بنائه لا أن يقفوا موقف المشاهد وحسب . انتهاء بالمواطن الليبي العادي الذي لا يزال يعاني من مشكلات الحياة اليومية ويتضرر من الفجوة الاقتصادية التي لم ينجح المجلس في جسرها أو تضييقها طوال الأشهر الماضية . لذا لم يكن مستغرباً أن يتعرض شخص مصطفى عبد الجليل لمحاولة للاعتداء البدني عليه، بعد أن تعرضت سيارته للتحطيم، فضلا عن الاعتداء اللفظي العنيف الذي تعرض له، بعد أن كان عبد الجليل يحتل مكانة خاصة في قلوب الليبيين سواء المواطنين العاديين أو الساسة والثوار، إلى حد ذهب بالبعض قبل أشهر وأثناء القتال ضد القذافي إلى إطلاق وصف “القديس” عليه . الدلالة الثالثة، تتعلق بغياب دور المجتمع المدني في الحياة الليبية . وهي قضية سابقة على انهيار نظام القذافي وتمثل محصلة أربعة قرون من العمل الفردي اللامؤسسي في دولة أدارها القذافي بعقلية زعيم القبيلة لا بمنطق رئيس الدولة . بيد أن الحاجة إلى دور منظمات المجتمع المدني بدت جلية في تلك التطورات الأخيرة بعد سقوط القذافي ثم مع البدء في الانتقال بليبيا إلى مصاف الدول الوطنية المدنية الحديثة . فالحديث عن مأسسة الدولة وانضواء الفصائل والجماعات غير النظامية تحت لواء مؤسسات نظامية سواء سياسية أو أمنية أو عسكرية أو اجتماعية، يتطلب جهداً خارقاً تنوء به حكومة أو سلطة لا تزال في بدايات تشكلها، ليس كأفراد ومناصب وإنما كمضمون وكرسوخ في الحياة السياسية ولدى الرأي العام . وهنا يأتي الدور المهم الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية في إدارة عملية التحول من الثورة إلى الدولة، إذ يتم احتواء وتفريغ المطالب الاجتماعية والتطلعات السياسية المتفرقة والمنقسمة على نفسها، ويجري تأطيرها لتتخذ مسارات جماعية متوازية ومنسقة مع بعضها البعض . كما تمثل تلك المنظمات والمؤسسات المدنية قنوات التوصيل والتفاعل المتبادل بين سلطات الدولة الناشئة التي لا تزال تتحسس خطاها ومشوبة بأخطاء التسرع أحياناً وقلة الخبرة أحياناً والمجتمع بمكوناته المتناثرة والمتنافرة أحياناً في تلك المرحلة الانتقالية المضطربة . وفي الحالة الليبية فإن غياب المؤسسات برمتها في عهد القذافي سواء المدنية أو الرسمية، فاقم تلك الأزمة وجعل غياب المؤسسات المدنية بعد الثورة أكثر وضوحاً والحاجة إليها أكثر إلحاحاً . ثم جاءت طريقة تعاطي المجلس الوطني الليبي مع إدارة الدولة لتزيد من صعوبة عملية التحول وتقلل من سلاستها وسلميتها . إذ بدا المجلس متردداً في اتخاذ قرارات جريئة وحازمة سواء تجاه بقايا النظام القديم، أو تجاه القوى الثورية المسلحة . كما لم ينجح في حسم وإغلاق ملفات متعددة، ربما ليست على صلة مباشرة بالوضع العام في البلد، وتأثيرها فيه غير ظاهر على السطح، لكنها كانت كفيلة برسم صورة ذهنية معينة للمجلس وقدرته على الحسم وقيادة الدولة بل والإقدام على خطوات وقرارات حازمة وربما عنيفة عند اللزوم . مثال ذلك قضية اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس التي لم يغلق ملفها حتى الآن، ولم تنكشف ملابساتها بعد، أو على الأقل لم يعلن المجلس تلك الملابسات ولم يتخذ إجراء واضحاً وعلنياً بحق المسؤولين عن اغتيال يونس . وكذلك الأمر بالنسبة لمقتل القذافي والقبض على ابنه سيف الإسلام وغير ذلك من قضايا وتطورات مثل الاتهامات المتبادلة بين مسؤولين وسياسيين سواء بالعمالة لدول أخرى أو بالاندساس على الثورة، أو بالانتهازية السياسية . وأخيراً هناك ملف تكوين جيش نظامي وقوات أمنية نظامية، حيث يعاني كثير من المنتسبين إلى القوات الرسمية من أوضاع صعبة، كونهم كانوا يتبعون القوات النظامية في عهد القذافي، رغم أن كثيراً منهم انشق عليه أو انقطع عن عمله تضامناً مع الثورة . إن الليونة التي ميزت إدارة المجلس الوطني الانتقالي لكل تلك الملفات على مدى عدة أشهر، ساهمت إلى حد بعيد في وصول الأوضاع والتطورات الداخلية إلى ما وصلت إليه، ليس فقط في ما يتعلق بالهجوم على المجلس ومسؤوليه سياسياً وفعلياً، لكن وهذا هو الأهم والأخطر ما يتصل بحالة الاحتقان الداخلي التي انكشفت مؤخراً وبدا واضحاً أنها كانت تتفاعل وتتفاقم طوال الفترة الماضية تحت السطح . ورغم أن إشارات تفجر ذلك الاحتقان بدأت في الظهور، بل ووصلت إلى مقر المجلس الوطني الانتقالي ذاته، فإنه ليس من الواضح إذا كان المجلس ومسؤولوه سيتجهون إلى التخلي عن تلك الطريقة في إدارة البلاد، والتي يمكن وصفها بأنها طريقة “تمرير” الوقت والتطورات والسياسات . وكان محقاً المستشار مصطفى عبد الجليل، عندما حذر من انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية إذا استمر الوضع الحالي، لكن موقفه الذي لم يتجاوز هذا التحذير يعكس قصوراً في الرؤية والإدراك، ليس لطبيعة الموقف الحساس وصعوبته، لكن أيضاً لطبيعة مكانته ودوره في تلك المرحلة . فالمفترض أنه قائد منوط به في هكذا مواقف، التحرك واتخاذ ما يلزم للحيلولة دون وقوع ما يحذر منه وعدم الاكتفاء بالتحذير . بالتالي فيمكن القول إن المرحلة القريبة المقبلة في تاريخ ليبيا الجديدة ستكون من الصعوبة بما قد يعطل عملية التحول السياسي والاقتصادي المنتظرة . لكن في المقابل فربما تكون التطورات الأخيرة ومواجهة تلك الصعوبات بمثابة صدمة إفاقة لكل الليبيين . . مسؤولين ومواطنين، ساسة وثواراً، على حد سواء . المصدر : الخليج