ظلت العلاقة بين السياسة والعسكر محل جدل دائماً منذ أقدم العصور إلا أن الحقيقة التي استمرت في فرض نفسها هي أن طرفي هذه العلاقة ظلا متلازمين عبر معظم مراحل التاريخ بصور وأشكال متعددة تختلف من عصر إلى آخر بحسب ظروفه ونظمه حتى عصرنا الحديث الذي اتسم بسقوط الدكتاتوريات والأنظمة الإستبدادية تباعاً وشيوع الديمقراطية خاصة خلال الأعوام العشرين الأخيرة ... بل إن هذه العلاقة ظلت قائمة في أكبر الديمقراطيات المعاصرة بمعنى أنها لم تمنع العسكريين من العمل السياسي فمنهم من تولى الرئاسة ومنهم من تولى رئاسة حكومات و وزارات هامة كالخارجية وغيرها . واليوم ونحن على أعتاب العيد الوطني الخامس عشر يتساءل الكثير عن مستقبل العلاقة بين السياسة والعسكريين في بلادنا ... وقبل الدخول في التعاطي مع هذا التساؤل الهام يستحسن أن نقوم بجولة سريعة في تاريخنا المعاصر لاستقراء هذه العلاقة ، حيث سنجدها عميقة تمتد إلى فترة التحضير لثورة 48 التي قادها تنظيم (الأحرار اليمنيين) و الذي ضم في صفوفه خيرة رجال اليمن من علماء ومفكرين ومشايخ وعسكريين وتجار... بل كان للعسكريين دور هام في تفجير الثورة تعرضوا بعدها للتنكيل والإعتقال سنوات طويلة مثل إخوانهم المدنيين...وتواصل الأمر ليكون لمجموعة أخرى من العسكريين بقيادة المقدم أحمد الثلايا الدور الرئيسي في إنقلاب 1955م ، ومجدداً جرت محاولة اغتيال الإمام أحمد في مارس 1960م على يد ثلاثة من الضباط إلى أن كان لتنظيم الضباط الأحرار الدور الكامل في تفجير ثورة 26سبتمبر ليبدأ معها ومنذ ذلك الحين التداخل التام بين العسكر والسياسة فيما كان يسمى بالشطر الشمالي من الوطن حتى قيام الجمهورية اليمنية في 22مايو 1990م . ففي عهد الرئيس الراحل المشير عبدالله السلال كان التداخل واضحاً بين أدوار العسكريين والمدنيين في إدارة شئون الدولة ولا يمكن القول أنه كان هناك غلبة لأحدهما خاصة في ظل النفوذ المصري حينها إلى أن حدث الفصام تماماً في السنة الأخيرة من عهد المشير السلال حيث اصطف هو ومجموعة من العسكريين في جانب واصطفت غالبية القيادات المدنية يساندها مجموعة (البعث) من القيادات العسكرية في الجانب الآخر حيث كان هؤلاء هم نواة حركة 5نوفمبر 1967م التي أبعدت السلال وجاءت برئيس مدني هو القاضي عبدالرحمن الارياني الذي اتسم عهده بالتأثير الواضح للقيادات العسكرية في إدارة الحكم والتوازنات وعلى سبيل المثال فقد تولى الفريق حسن العمري عضوية المجلس الجمهوري ورئاسة الحكومة عدة مرات في عهد الارياني .. كما تولى عدد من الضباط وزارات ليست مدنية فحسب بل إقتصادية في إطار الحفاظ على التوازنات بل وما عزز دور العسكريين في عهد القاضي الارياني الإلغاء غير المعلن لمنصب وزير الدفاع وإستبداله بمنصب القائد العام للقوات المسلحة ... وانتهى عهد الارياني بتسليم القيادة المدنية السلطة للقيادات العسكرية في 13يونيو 1974م . وفيما بدأ المقدم إبراهيم الحمدي عهده بتحالف الجيش والمشايخ فقد انتهى بانفراد العسكريين بالسلطة السياسية كاملة من دون المدنيين في ظل وجود مجلس قيادة معلن وآخر غير معلن مكون من عشرة من قادة الجيش ... واستمرت تلك الصيغة في عهد المقدم أحمد الغشمي الذي أجرى تعديلاً دستورياً ألغى بموجبه صيغة مجلس القيادة واستبدلها بواحدة من أغرب الصيغ في التاريخ المعاصر وهي صيغة (رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة) ، كما أنشأ بموجب ذلك التعديل مجلس الشعب التأسيسي من 99 عضواً مدنياً وعسكرياً ... لكن الأجل وافاه غيلة ليترك وراءه تركة ثقيلة لرجل ادخرته الأقدار ليقود البلاد إلى بر الأمان . جاء المقدم علي عبدالله صالح إلى السلطة في 17 يوليو 1978م بمنهجية جديدة في مختلف الإتجاهات ترسخت مع مرور الأيام ... وكانت واحدة من أبرز إتجاهات تلك المنهجية ترميم العلاقات بين مختلف الأطراف السياسية والشخصيات الوطنية ومحاولة استقطابها جميعاً للعمل في صفوف الدولة على طريق إعادة توحيد الصف الوطني في مواجهة الكثير من التحديات ... وفي هذا الإطار ذاته بدأ الرئيس علي عبدالله صالح يوسع دائرة الإستعانة بالمدنيين في إدارة دفة الحكم ... وفيما سعى إلى تأمين البلاد من الانقلابات والقلاقل عبر تولية الثقات الأكفاء قيادة أهم الوحدات العسكرية ، فقد قام بدمج العديد من القادة العسكريين السابقين في إطار العمل السياسي ليصبحوا مع مرور الوقت قيادات سياسية مدنية ، والهدف من كل ذلك إبعاد العسكر عن السياسة وممارسة الحكم بصورة مباشرة باتجاه تمدين الحياة السياسية في البلاد ودمقرطتها ... وأخذ يدفع بالتكنوقراط لتولي المناصب الوزارية والحكومية المختلفة إيماناً بأهمية التخصص لتحقيق النجاح الاقتصادي وفي الوقت ذاته دفع بتأهيل العسكريين أكاديمياً بهدف تطوير الأداء في القوات المسلحة وتأكيداً لاتجاهات الخروج من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية ... ولاشك أن الرئيس علي عبدالله صالح بذلك التوجه قد سبق عصره واستقرأ المستقبل بصورة فريدة ... وتعزيزاً لكل تلك الخطوات دعا لإجراء إنتخابات مجلس الشورى التي تمت في عام 1988م استعداداً لإنجاز الحدث الأكبر المتمثل في استعادة وحدة شطري البلاد . أما في الشطر الجنوبي من الوطن فقد أخذت القصة منحى آخر يتفق مع الشمال في الجوهر ويختلف في الظاهر ... فقد ظل الرجل الأول مدنياً منذ عهد قحطان الشعبي وحتى عهد علي سالم البيض باعتبار أن من يحكم هو حزب سياسي عقائدي (الجبهة القومية ثم الحزب الإشتراكي) إلا أن دور العسكر أخذ يزداد يوماً بعد يوم وبالذات منذ أواخر عهد الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) حتى أصبحوا شركاء في القرار السياسي تماماً وفي بعض المراحل هم أصحاب القرار ... وعلى سبيل المثال كان لهم الدور الأساسي في الإطاحة بسالمين ثم عبدالفتاح اسماعيل ثم في إدارة الخلاف مع علي ناصر محمد حتى حسم معارك 13 يناير 1986م التي أبعدته عن السلطة ... وحتى عشية قيام الجمهورية اليمنية . [email protected]