تحدثت في مقال سابق عن الإصلاح من الخارج فماذا عن الإصلاح من الداخل؟ سؤال من البديهي أن يطرح ليس في سياق جدل الداخل والخارج بل لكون الإصلاح مسألة تعني الداخل أولا وأخيرا رغم الادعاءات الخارجية التي شاعت بعد 11 سبتمبر حول أن ما يجري داخل الدول العربية يؤثر على ما يجري خارجها بكلام آخر إن انفجارات سبتمبر المذكورة هي محصلة للتربية التي خرج منها الفاعلون وبالتالي لابد من تغيير هذه التربية حتى لا تتكرر الأعمال نفسها. أقول رغم هذه الادعاءات لان منطق القانون الدولي يؤكد على مسؤولية الفاعل عن فعله وليس مسؤولية الأمة التي ينتمي إليها لكن الأمر يتعدى القانون كما اتضح لاحقاً حين هاجمت الولاياتالمتحدة العراق في حين أن أي من المهاجمين لا ينتمي إلى هذا البلد ليتبين أن القضية برمتها تتصل باستغلال أحداث سبتمبر للوصول إلى أهداف أخرى متصلة بالشرق الأوسط برمته وسأكتفي بهذه الإشارة التمهيدية لوضع قضية الإصلاح من الداخل في نصابها الحقيقي بوصفها قضية وطنية تعني شعباً وتعني امة بالدرجة الأولى فماذا إذن عن هذه القضية؟اعتقد أن الإصلاح الحقيقي من الداخل لا يمكن أن يتم بمعزل عن العناصر التالية: أولاً :أن تكون استراتيجية الإصلاح نابعة من مصالح متشابكة ومعقدة تطال امة أو شعبا أو بلدا بكامله بحيث يدافع الشعب المعني عن مشروعه بكافة قواه بنخبه وقواعده على حد سواء وأن يقدم المشروع الإصلاحي باعتباره مشروعا وطنيا للوطن وللأمة أولا وأخيرا. وحتى يتضح ذلك لا بد من الإشارة إلى الأمثلة الناجحة والناهضة سابقا وحاليا ففي السابق كان الألماني يقدم عمله بوصفه أولوية لألمانيا ما أدى إلى استنهاض هذا البلد بعد الحرب العالمية الثانية من دماره وذله ليصبح لاعباً اقتصادياً أول على الصعيد العالمي وكذا الأمر بالنسبة لليابان. أما اليوم فان النقاش الدائر في الصين الناهضة ليس حول الماركسية والليبرالية أو حول تغيير الحكومة أو بقائها حيث هي وإنما حول الكيفية التي تساعد الأمة الصينية على بلوغ أهدافها الإصلاحية المرفوعة باسم الشعب الصيني بأسره والمثال نفسه ينطبق على كل التجارب الإصلاحية الناجحة في كوريا الجنوبية والهند وما يعرف بالنمور الآسيوية... الخ إذن لا إصلاح جدي نهضوي دون أن يكون مبنياً على مصالح الأمة بأسرها. أما في عالمنا العربي بل في تاريخنا القريب فقد برهنت الناصرية عن جدوى الإصلاح بوصفه مشروع أمة وليس مشروع فئة واحدة خلال عقد ونصف العقد من الحكم الناصري وما زالت مصر حتى اليوم تستفيد من الإصلاحات الجذرية التي تمت حينذاك وفي طليعتها التعليم المجاني والسد العالي. ثانياً: لا يمكن للإصلاح من الداخل أن ينطلق إلا عبر ترسيخ ثقافة وحدوية .لا يمكن أن يتم وسط ثقافة الفتنة التي تهشم الوحدة الوطنية وتجعل بلداً بأسره في حالة دفاع يومي عن وحدته الوطنية ينفق الغالي والثمين لتثبيتها فيما الهم الأصلي التنموي والإصلاحي مهمل ومؤجل. ثالثاً:لا يمكن أن يتقدم المشروع الإصلاحي إلاّ عبر تكوين نخبة إصلاحية تنموية متعددة الحساسيات السياسية مزودة بقناعة لا تلين حول أهمية المشروع وأبعاده المصيرية وقد سميت هذه النخبة في مقالات سابقة بالكتلة التاريخية التي تتولى مهمة حاسمة في مرحلة معينة تأسيسية تغير وجه بلد ومصيره. رابعاً : لا يمكن لمشروع إصلاحي أن يتقدم دون أن تكون لدى أصحابه الوسائل المادية لحمايته، أي جيش قوي وعلاقات خارجية جيدة وأسواق داخلية وخارجية متفاعلة مع المشروع. ذلك أن الإصلاح يهدف فيما يهدف إلى إنتاج ثروة تحتاج إلى حماية والحماية توفرها القوى المسلحة والعلاقات الخارجية المتينة.وقد يقول قائل: إن بعض الدول والإمارات الأوروبية غنية لكنها لا تملك جيوشاً مثل إمارة موناكو، وهو قول صحيح لكن يجب ألا ننسى أن موناكو محمية من فرنسا باتفاقات تاريخية يحترمها الطرفان بدقة، ناهيك عن أن أوروبا الغربية برمتها تحولت إلى فضاء آمن ومسالم يدافع عن حدوده خارج القارة وليس داخلها. خامساً: لابد من مراكمة المعارف والعلوم العصرية الضرورية للمشروع الإصلاحي بل يبدو هذا الشرط حاسماً بالنسبة للعملية برمتها فهذه المعارف هي الكفيلة بتحويل المشروع إلى قوة مادية.كلنا نعرف كيف كان اليابانيون يجوبون أنحاء الكرة الارضية بكاميرات التصوير فيلتقطون صوراً لكل عناصر الإنتاج والعمران في العالم يدرسونها وينتجون في ضوئها، ناهيك عن ترجمتهم لكافة الآثار العالمية المهمة وتحويل هذه الترجمات إلى نهر معرفي محلي كانت ومازالت مياهه مجالاً طبيعياً يسبح فيه المشروع التنموي بنجاح. باختصار شديد يمكن القول إن الإصلاح الحقيقي من الداخل لا يتم من خارج الشروط المتكاملة السابقة الذكر وما عدا ذلك هو إنشاء لا طائل منه ومن بين الإنشاء الأكثر تداولاً هذه الأيام تقارير التنمية العربية التي تتحدث عن بعض عناصر المشروع النهضوي وتهمل الأساسي منها فتتحول بذلك إلى مضبطة اتهام ضد العرب و سبباً لانقسامات داخلية ومعيناً لمصلحي الخارج ممن لديهم كل الأسباب الموجبة لبقاء العرب في مرتبة دونية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.