تابعت معظم المقالات التي نشرها عدد من الكتاب والمفكرين العرب حول قرار الرئيس علي عبدالله صالح عدم ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة العام المقبل رغم حقه الدستوري في الترشح لها ، وقد أجمعت هذه المقالات على الإشادة بموقف الرئيس ودعته لعدم التراجع عنه ... الأمر الذي أكد لي ماذهبت إليه في مقالتي هنا الأسبوع الماضي أن الاندفاع لتأييد الرئيس هو اندفاع عاطفي بالدرجة الأولى لأن المطلوب اليوم لدى المثقف العربي والمواطن العربي على السواء هو التغيير لمجرد التغيير وأصبح حلما لديه أن يرى قائدا عربيا يقول للسلطة وداعا من تلقاء نفسه ... حتى لبنان الذي كان مضرب المثل في ديمقراطيته - رغم أنها ديمقراطية حصص طائفية - تم التمديد لرئيسه ثلاث سنوات وجرى تعديل الدستور من أجل ذلك خصيصا في سابقة يبدو أنها لن تتكرر مرة أخرى ! قال معظم الكتاب إن الرئيس علي عبدالله صالح سيدخل التاريخ بقراره هذا.. وذلك صحيح ... لكن الأصح أن الرئيس دخل التاريخ فعلا بإنجازات أهم وعلى رأسها استعادة وحدة الوطن وإسقاط مؤامرة الانفصال وحل مشكلة الحدود اليمنية السعودية وتحديد فترة الرئاسة بدورتين فقط ... وفي رأيي الشخصي أن الإنجاز الأهم الذي يمكن أن يضيفه إلى رصيده المليء بالإنجازات الكبيرة ويكرس مكانته في سجل التاريخ يتمثل في استكمال البناء المؤسسي للدولة الذي بدأه بعزم وإصرار ولم يكتمل بعد وبدون اكتماله لايمكن الحديث عن تداول سلمي للسلطة في هذا البلد الطيب ... وهذه مهمة تحتاج إلى عدة سنوات ويصعب إنجازها كاملة في الشهور الأربعة عشر القادمة مهما صدقت النوايا وحسنت الأعمال ! نجح الرئيس بالتأكيد في كسب تقدير الشارع العربي بل والمجتمع الدولي كذلك وبعث الآمال في النفوس ... لكن كما قلت في السابق فإن قراره هذا جاء متسقا مع نفسيته الحرة الأبية التي لم ترض بأي ضيم على هذا البلد من أي طرف كان وكيف لا وهو من حرر القرار السياسي الوطني من الضغوط الخارجية ... وهو الذي لم يحن هامته لدولة صغيرة أو كبيرة ... وهو الذي أراد كذلك أن يختم حياته السياسية ختاما عظيما ينسجم مع الإنجازات العظيمة التي حققها ... لكني وكما قلت في الأسبوع الماضي هنا أني لا أريد أن أبدو كأحد المثبطين للرئيس عن قرار شجاع اتخذه في لحظة تاريخية ... لكني وطوال الأسبوع الذي يفصل بين كتابة المقال السابق وهذا المقال كنت أتأمل بين الواجب والأوجب منه ... بين فرض الكفاية وفرض العين ... بين درء المفسدة وجلب المصلحة مستفيدا مما تبقى في ذاكرتي من دراستي الجامعية في مجال الشريعة والقانون وكذلك قراءاتي المتعددة في قضايا أصول الفقه وفقه الأولويات وفقه الضرورات وفقه الواقع وغير ذلك من القراءات التأصيلية ... وعززت تأملاتي بحالة الفوضى والغوغائية التي سادت الشارع يومي 20و21يوليو الجاري حيث هذا الشارع المشحون الذي مارس احتجاجه على قرار الحكومة برفع بعض الدعم عن المشتقات النفطية بتلك الصورة الهمجية المؤسفة والتي أكدت لي أن هذا الجمهور لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه كما قالت بعض المصادر الرسمية ولكنه في الحقيقة خضع لتأثير وتوجيه واضح من طرف أو أطراف سياسية معينة تجري بروفات لإمكانية تحريك الشارع في أي لحظة تقررها وذلك يعني سهولة توجيهه وقيادته إذا استمر يقاسي من معاناته المعيشية ، وفراغه الثقافي والسياسي ، وعجز الحكومة والإعلام الرسمي عن مخاطبته وإقناعه ، وإحساسه بعدم وجود الجدية الكافية في تحجيم الفساد ... وليس مصادفة أن تتحرك المظاهرات في مدن محددة اليوم الأول ثم في مدن أخرى في اليوم التالي وهكذا ... وبعد ذلك تجمد أحزاب المشترك حوارها مع المؤتمر في محاولة بائسة لكسب هذا الشارع الذي يبحث عن لقمة عيشه لا عن مواقف الأحزاب السياسية! مثل هذه الأحداث الطارئة تحتاج صراحة إلى قيادة قوية خبيرة صارمة قادرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ... وعلى سبيل المثال إذا ماأدركنا أنه لايزال أمامنا عدة مراحل لاستكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي أدركنا أي قيادة تحتاجها البلاد لإنجاز هذه المهمة الكبيرة ... فإذا أضفنا إليها ما أشرنا له سابقا حول مهمة استكمال البناء المؤسسي للدولة وتحديدا المؤسستين القضائية والمحلية ، وبجانبها مهمة تعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية وتنمية الاعتدال ومحاصرة التطرف ونزع فتائل الألغام المناطقية والمذهبية والتجزيئية والقبلية ، وكذا استكمال البناء السياسي والتنظيمي للمؤتمر الشعبي العام باعتباره حزب الأغلبية ، ووضع الضمانات الكافية لاستمرار القوات المسلحة في تأدية دورها كحامي لسيادة البلاد والشرعية الدستورية ، وإعادة النظر في الوظائف الاقتصادية المباشرة التي تقوم بها الدولة والتي تعتبر أحد المنابع الأساسية للفساد ، مع ضرورة وضع برنامج واضح لجلب الاستثمار وتشجيعه وحماية المستثمرين من (قطاع الطرق!) المحليين ... ومهام أخرى كلها تدخل في خانة المهام الاستراتيجية سنجد أننا أمام مهام تحتاج إلى ذات القيادة التاريخية لإنجازها ... وما يمكن أن ينجزه علي عبدالله صالح في سنة واحدة فقط بكاريزميته ومشروعيته التاريخية وهيبته سينجزه غيره في خمس سنوات ، ومايمكن أن ينجزه علي عبدالله صالح في دورة انتخابية واحدة سينجزه غيره في خمس دورات انتخابية وهكذا ... وبعد ... ففي ضوء المقاييس الشرعية ومقاييس المصالح والمفاسد وفقه الأولويات ماهو القرار الأنسب ؟ استمرار الرئيس في الفترة الانتخابية القادمة المتبقية له لإنجاز تلك المهام الاستراتيجية التي لايمكن الحديث بدونها عن تداول سلمي حقيقي للسلطة أم عزوفه عن الاستمرار وإصراره على عدم الترشيح؟! لا أشك لحظة في عمق ونبل الأهداف التي يرمي إليها الرئيس من وراء قراره لكنه قادر على تحقيقها تماما وبصورة أفضل عندما يسلم السلطة لخلفه عقب انتخابات 2013م وقد أنجز تلك المهام الاستراتيجية وهيأ البلاد لانتقال هادئ ونموذجي للسلطة فيما يذهب هو إلى بيته وهو في أوج مجده محفوفا بدعاء الناس ومحبتهم وتقديرهم ليس على مستوى الوطن اليمني فقط بل على مستوى الأمة العربية كلها ... وختاما فيحسن التأكيد أني أقول ذلك بعد تأمل طويل في الأوضاع العامة انطلاقا من رؤية شرعية واضحة وحساب لموازين المصالح والمفاسد وليس نفاقا للرئيس الذي لم أعتد على نفاقه في أي ظرف من الظروف ، والمهم في النهاية هو تنفيذ الاستحقاقات الوطنية الضرورية للتداول السلمي للسلطة سواء خلال الشهور الأربعة عشر القادمة في حال إصرار الرئيس على موقفه أو خلال الدورة الانتخابية القادمة وهو مانأمله فلايزال شعبنا غير مهيأ لصدمات الانتقالات غير المدروسة ولا هو محتاج لها مادام لايزال في سعة من أمره ووقته! [email protected]