لعل أغرب ما يمكن ان يلاحظه المتتبع للجدل الاعلامي المحتدم في الساحة السياسية اليمنية - هو اجماع كل من السلطة والمعارضة على تفشي ظاهرة الفساد، الفارق الوحيد هو ان السلطة تؤكد على أهمية الجهود المشتركة لتفعيل برنامج الاصلاح المالي والإداري، الذي توالت اكثر من حكومة، وتعديل وزاري، للاضطلاع به ليظل النجاح والفشل نسبياً، في غياب الشراكة الوطنية الفاعلة.. بينما اقتصر دور المعارضة على المواقف الناقدة، واستغلال الظاهرة للإثارة الاعلامية، وكأنه لا يعنيها من الامر سوى الاستمتاع بالاخفاقات والتقليل من شأن الايجابيات.. ولتتخذ من الظاهرة مادة خصبة لحملاتها الدعائية ومعاركها الكلامية والتي افلحت - غالباً - بجر الحكومة للدخول في «حلبة دعاية/ دعاية مضادة» استنفدت الكثير من الجهد والوقت والامكانات التي يفترض ان توظف في الاتجاه الصحيح، بعيداً عن الفعل ورد الفعل الذي ربما اراد البعض إقحامها فيه، وفي خضم هذه المناوشات ظل شبح الفساد يراقب الاوضاع عن كثب، ليزداد عربدة كلما ابتعد (الاجماع الوطني) عن ملامسة (بؤره المتعفنة) وكأن الجميع قد تطبع مع جرثومة الفساد المزمنة، لتكتسب مناعة، فالمعالجات الجزئية الموقوتة التي تعوزها الارادة الجماعية تؤره حتماً لضعف مقاومة الجسد الموبوء - فتمد الوباء بجرعات تحصين بدلاً من استئصال أورامه الخبيثة، وهكذا اصبح (الفساد) ميكروبياً مؤسسياً مستفحلاً له شرعيته التي تتحدى التشريعات وتحصيناته التي لا تخترقها المضادات ورموزه الذين فرضوا إرادتهم على إرادة التغيير.. ليبقى السؤال المحير من يحاسب من؟ ليس لأن الاذرع الاخطبوطية للفساد عصية عن البتر، او أن شبحه قد صار مارداً اسطورياً لا قبل للناس به ، وانما لأن المناورات السياسية قد عطلت تكامل الادوار الوطنية لانجاز التغيير المنشود وتعطيل هذه الادوار لا ينم عن جهل لأهمية التكامل، بقدرما يشير الى ان (خيوط العنكبوت قد عششت» فطوت نسيجها الهش على مساحات واسعة في الساحة السياسية، فكونت علاقات مصلحية ، قد تكون «أوهن من بيت العنكبوت» لولا تشابك هذا النسيج المصلحي ، الذي تغلغل خارج سياق الحدود التقليدية للنظام التعددي - بظروفه الاستثنائية لتعددية سياسية - الكل فيها يحكم ويعارض - في آن معاً - لإفراز علاقات غير طبيعية بين طرفي المعادلة السياسية ، فلا هي استطاعت صهر الجميع في بوتقة الوطن، بحيث تمارس مسؤولية جماعية تعتمد النقد الذاتي البناء لتجاوز الاختلالات، ولا هي حددت «ثوابت وطنية ملزمة للجميع». وبهذا ظلت السلطة تتعامل مع الآخرين كشركاء في المسؤولية بغض النظرعن هوامش الخصوصيات الحزبية في الوقت الذي تعاملت فيه المعارضة مع هذا التوجه السياسي الرسمي ب(عقلية ميكيافيلية) تقبل بشراكة داخلة في الربح خارجة عن الخسارة - وبحكم هذه الازدواجية السلوكية كان لابد ان تحافظ المعارضة على مزاياها، التي يترجمها خطابها السياسي والاعلامي، والذي يتحرى عدم الاقتراب من خطوط التماس مع شبكة الفساد، مع الاحتفاظ بحقه في النقد التقليدي للاوضاع، وبحدود ما تسمح به هوامش المناورة، لتبقى بعيدة عن ملامسة (بيت العنكبوت) بتراكماته المتداخلة، حتى لا ينهار هذا النسيج الهش - فتتداعى معه الكثير من المزايدات الكلامية. وهذا ما المح اليه فخامة رئيس الجمهورية لتوصيف هذه الازدواجية بقوله:«لا ترم بيت الناس وبيتك من زجاج»ولا فرق بين هشاشة النسيج العنكبوتي، اوالزجاج الخام، وبين الخطاب الاعلامي الهش لمعارضة شكلية، عاجزة عن المبادرة حتى لا يرتد فاعليتها على الحواجز الزجاجية العازلة، لتلك الشراكة المصلحية.. وفي اكثر من اتجاه - فإذا ما حدث ذلك تكشفت خيوط (اللعبة السياسية) ليقف الضالعون فيها امام خيارين لا ثالث لهما - فإما (المكاشفة) ليحاسب كل نفسه قبل اتهام غيره، اوافتقاد المصداقية السياسية.. ولكي لا نطلق الاتهامات على عواهنها فلابد من استحضار ملابسات (صناعة الفساد) للوقوف على المفردات الرئيسية لتداعياتها - وهى: - ان البطالة عموماً و(البطالة المقنعة) خصوصاً - تقف على رأس قائمة الاختلالات الادارية - فهل للاخوة في (اللقاء المشترك) علاقة بها ام لا؟ - أليسوا مسؤولين عن تكديس العمالة في الوزارات لكادر حكومتين سابقتين استوعبته دولة الوحدة دون اعادة توزيعه على مستوى أجهزة المؤسسات العامة، لإحداث نوع من التوازن الوظيفي، بتخفيف الضغط على الدوائر الرسمية المتخمة وتغطية العجز في الاخرى التي تشكو من نقص الكادر كالتربية والتعليم والتي يمكن ان تؤهل الكادر الفائض عبر دورات صيفية لتوزيعه على المدارس، خاصة ومعظم موظفي الحكومة خريجي جامعات - وبدلاً من هذا راحت الاحزاب التي دخلت الائتلاف الثلاثي تضغط لاضافة اعباء جديدة بالحصول على نسبة من الدرجات الوظيفية التي يجب ان تخصص لكادرها الحزبي المشارك في النظام الحاكم - ومنذئذٍ شرع لقاعدة التقاسم على حساب المعايير الوظيفية. واذا قبلنا بالمحاصصة بكل سلبياتها، لأن الذين استفادوا هم يمنيون - اولاً واخيراً - فإن (ظاهرة البطالة) التي حرمت الآلاف من خريجي الجامعات من حق العمل، لتمثل إشكالية يعود السبب في جزء كبير منها الى (التعدد او الازدواج الوظيفي) وهي إشكالية كان يفترض ان يمتصها (القطاع الخاص) و(المؤسسات الحزبية المختلفة) كالجامعات والمدارس الخاصة والبنوك، والانشطة الاستثمارية والتجارية الاخرى، الخ. حتى نطمئن الى جدوى التعددية السياسية، ومشروعية التبادل السلمي للسلطة، بين احزاب للولاء الوطني لديها اولوية على الولاءات الضيقة..وهو ما لم يحدث ، ومجرد مراجعة الاسماء المكررة في (المؤسسات العامة، الخاصة، الحزبية) بل (والهيئات الدولية: بقروضها ومنحها وبرامجها أو مشاريعها المتنوعة) ستضعنا امام ظاهرة التكالب المذهل على المصالح والتي تمتلك فيها هذه الاحزاب (حاسة الاستشعار عن بعد) للاستحواذ على أية فرصة عمل، واية بادرة لشغل وظيفة، لاحتكارها «دولة بين كوادرها الحزبية» التي تعددت مصادر دخلها الى حد التخمة، فأين ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائعاً»، وأين ذلك من الاتهامات المجحفة بحق الكادر المؤتمري والتي تصفه ب(حزب الرخاء) مع انه الوحيد الذي لا يمتلك ادوات ضغط ، فاثبت ان خياراته ليست مصلحية (فهو داخل في الخسارة خارج الربح) ، ولنا ان نفرق بين (المؤتمر كحزب) و (المؤتمر كدولة لا نستطيع نفي استفادة بعض رموزها من العلاقات المصلحية) كأشخاص. - لقد استطاعت بعض الوجاهات استثمار رصيدها الوطني للإثراء الفاحش ليصير بعضها ملكي اكثر من الملك، وسلوك كهذا ليس وليد اليوم، إنه حصيلة تراكمات نصف قرن من الزمن ، كما انه سلوك لا غبار عليه - شرعاً وقانوناً- ولا يملك احد ان يسأل: من اين لك هذا؟ فالبعض يستحق ذلك، الا ان التنافس التعددي اللاهث خلف جاذبية الاستقطاب النوعي ، يظل مسؤولاً عن توسيع دائرة (مراكز النفوذ) فبدلاً من ان يضطلع بدوره في (القضاء على العلاقات الطبقية) كواجب وطني نصت عليه اهداف الثورة اليمنية، واقرته أدبيات احزاب اللقاء المشترك، حدث العكس - إذ استغلت خبراتها الطويلة في العمل الجماهيري لمخاطبة، الخاص والعام، كل بلغته: الطائفية، الطبقية، المناطقية، المذهبية.. الخ والمهم (كيف تكسب كادراً وتنتشر جماهيرياً) بطرق مشروعة أو غير مشروعة، لتجد بعض الوجاهات ضالتها في (حمى الاستقطاب) للدخول في مساومات، لتصب مخصصات العمل الجماهيري في رصيد أولئك الذين جمعوا بين الوجاهة العشائرية والسياسية - لتعزيز نفوذهم الشخصي بدخول المعترك السياسي كواجهة معاصرة رافدة للمكانة الاجتماعية التقليدية واستثمار هذه الخطوة لامتلاك كافة مصادر الثروة والقوة ، فمن يمتلك مالاً يستطيع ان يجمع الناس حوله أو حتى دعم نفوذه ب(مليشيات).. الخ - فهل ذلك هو الدور الوطني المنوط بهذه القوى الحزبية، أم ان صراع المصالح واغراءات فرض التوازنات الشللية قد طغت على بؤرة الاهتمامات الحزبية؟ والتي غذت «ظاهرة الاقطاعيات الشللية» التي يكفي استحضار اسماء ومسميات الشركات والمؤسسات والمصانع والاستثمارات العقارية والتجارية وما في حكمها - بما فيها انشطة استنزاف ثروات البر والبحر، لمعرفة من المستفيدين منها ، ونوعية العلاقة المصلحية لهذا النسيج العنكبوتي الذي تتداخل خيوطه الحزبية بالعشائرية، ليصبح التحزب مجرد قناع مصطنع لاثبات الوجود لهذه الواجهات التقليدية واكتساب مشروعية الممارسة السياسية بعقليات شمولية. لهذا لا نستغرب ان اقتصر الخطاب المعارضة على لغة «الاثارة ودغدغة العواطف» وظل يراوح في مكانه مكتفياً بتكرار اسطوانة الاوضاع الفاسدة دون تشخيصها، لأن للمعارضة الحظ الاوفر فيها.. كما انها لا تستطيع استبدال هذه الاسطوانة المشروخة لعجزها عن تقديم البدائل الموضوعية لإحداث التنافس البرامجي القادر على تحريك الواقع بدلاً من البكاء على الاطلال.. والا ما الذي يمنعها عن (الاحتساب الشرعي) ضد المفسدين - لاثبات (إن بيتها ليس من زجاج) .. وما الذي يمنعها عن المبادرة الى تطبيق (المكاشفة والشفافية) واقرار (برآة الذمة) وتصحيح اوضاعها، او على الاقل : القبول بالانتقال الى الفعل التكاملي لمشروع نهوض وطني لا يحاسب الماضي او يغرق في متاهات الحاضر، بقدر تعاضد الجهود لصناعة المستقبل.