كانت الساعة تقارب الرابعة صباحا عندما أيقظت نايلة على عجل.إنها الطائرات الحربية الصهيونية تحوم فوق بيروت أو على الأرجح فوق ضاحيتها الجنوبية المحاذية. والضاحية لمن لا يعرف المكان ملاصقة تماما للعاصمة فالمسافة بين الوسط التجاري ومستديرة الطيونة, أقرب الأحياء الشيعية, تقدر بكلومترين او اكثر بقليل. كنا -نايلة وأنا- قد قررنا أن نُمضي الليلة في صالة الاستقبال بدلا من غرفة النوم التي تطل على شرفة مكشوفة وتحتوي على واجهتين زجاجيتين يخشى في حال القصف من تحطمها وبالتالي التعرض للأذى هذا في أفضل الاحتمالات. ذلك أن أسوأها هو أن يستهدف المبنى بكامله على غرار المباني السكنية التي دمرها الطيران الإسرائيلي من بعد. في المكان الأقل عرضة للخطر وفق تقديرنا الاعتباطي كان هدير الطائرات يقترب أكثر فأكثر الأمر الذي أعادني إلى سنة 1982 عام الاجتياح الإسرائيلي للبنان. عامذاك كنا قد باشرنا لتو إقامتنا الأولى في المنزل نفسه وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية أيضا لا تغادر سماء مدينتنا وتلقي حممها على المساكن علها تصيب ياسر عرفات. هدير تلك الطائرات ربما استقر في مكان ما من ذاكرتي ليستيقظ مجددا في هذه اللحظات كإنذار استفاق بعد أربعة وعشرين عاما. عام الاجتياح كان علينا أن ننزل من الطبقة الثانية إلى الأولى حيث يسكن الأهل. وهذه المرة أيضا أعدنا الكرة لاعتقادنا الدائم والاعتباطي أيضا وأيضا ان الطبقة السفلى اقل تعرضا للخطر من الطبقة العليا. ما كدنا نهبط إلى الطبقة الأولى حتى بدا وكأن الطائرات الحربية الإسرائيلية تلامس سطح المبنى. تجمعنا مذعورين في إحدى الزوايا رفقة جمال وريما وهلا وزاهي وآمنة والفتى حسن القادم من كندا للعطلة الصيفية و «وسنتي» العاملة من التابعية السريلنكية.. قال زاهي مطمئنا لا داعي للخوف فهم يستهدفون المراكز الحزبية وبيتنا لا يحاذي ايا منها. ما إن مرت لحظة أو ثانية على عبارته المنتهية حتى اندلع جحيم حقيقي فوق رؤوسنا.انهالت صواريخ زنتها أطنان في الآن معا من حولنا إلى حد خلنا معه أن البناء اعتلى ثم هبط.التقطنا أنفاسنا للحظة فإذا بالطائرات الصهيونية تعيد الكرة ثم تعيد ثم تعيد مع فارق أنها كانت تتدرج في ابتعادها قليلا عن المكان.في هذا الوقت كانت «وسنتي» النحيلة قد أمسكت بساعدي وهي تردد متوسلة النجدة: مستر. مستر. مستر !!! . وفي الوقت نفسه كانت نايلة تخاطب الطائرات المغيرة بعبارات صارخة هجومية وشتائم ودعاوى من نوع الا يتبقى حجرا على حجر لدى بني إسرائيل الذين واصلوا قصفهم المتزايد عنفا. بين الغارة والأخرى كنا نشعر بتساقط أجسام على الشرفات والمرآب المكشوف ومدخل البناء لنكتشف من بعد أنها كتل من أسفلت الشارع المحاذي وحطام من المباني المستهدفة ذلك أن الصواريخ القاتلة سقطت على بعد ثلاثين مترا وستين وثمانين وفي كل الاتجاهات في حي سكني لا أثر فيه للمراكز الحزبية والمقاومين. كان علينا أن نمضي نحو ساعتين تحت وابل من الحمم أطلقتها طائرات الفانتوم 16 وغيرها على مساكن مدنية وطرقات فرعية بطريقة عشوائية. أما المراكز الحزبية, فيما سيعرف من بعد بالمربع الأمني لحزب الله, فكانت بعيدة تماما عن المكان وهي لن تتعرض للقصف المكثف إلا بعد مضي أربعة أيام أو أكثر على استهداف حينا. لا أبالغ في القول أن ساعتي القصف كانت بالنسبة لي الأطول ليس في تاريخ الحروب اللبنانية فحسب وإنما في التاريخ كله. شعرت خلالها وكأنني خاضع تماما و مجرد من أية وسيلة دفاعية سوى بعض العبارات المطمئنة القصيرة الفظها دون اقتناع يذكر في اللحظات الفاصلة بين الغارات وهي عموما لم تحقق غرضها جراء تساقط الصواريخ المتواصل. توقف القصف الجوي كما بدأ تماما دون أن نعرف كيف ولماذا؟ وكان من حسن حظنا أن التيار الكهربائي مازال يعمل فاندفعنا كالعادة إلى محطات التلفزة التي سارعت لتحديد أماكن القصف وتقدير أضراره وتحليل أهدافه... لا أدري كم كانت نسبة صواريخ حينا من بين سبعة آلاف صاروخ أطلقها الصهاينة على لبنان لكن المؤكد أننا كنا أفضل حظا من آخرين لم يقدر لهم الخروج أحياء من عدوان استهدف انتقاما المدنيين حين فشل في المجابهة مع مقاومي حزب الله المظفرين. كان علي أن استعيد مرات ومرات شريط الرعب في تلك الليلة وأن أفسر رد فعلي كما ردود فعل الآخرين في المنزل على صواريخ الموت و الدمار الصهيونية.وكان علي أن أقرر ما إذا كانت تلك الليلة جديرة بأن تروى لقراء شاهدوا عبر البث الفضائي المباشر ما يفوقها وحشية وبربرية بما لا يقاس.ترددت كثيرا قبل أن أحسم أمري لقول ما أحجمت حتى الآن عن قوله ل « وسنتي « السريلنكية التي اختارتني لطلب النجدة دون الآخرين. والراجح لدي أن اختيارها ناجم عن كوني وافد من الخارج أو لأنها تعودت على مشاهدتي في بعض البرامج الفضائية محللا أو مفسرا الأحداث والمواقف. كائنا ما كان السبب فإنني يا عزيزتي «وسنتي» مدين لك بالاعتذار عن خلو وفاضي من وسيلة لنجدتك في لحظة الخطر. كنت مجردا من كل حيلة للرد على همجية الصهاينة وتوحشهم المنفلت من عقاله في تلك الليلة وفي ليالي ونهارات الحرب الأخرى لكنني كنت أشعر بالمقابل أن طياري الفانتوم ومن يرسلهم لقتل المدنيين في بيروت هم الأكثر جبنا بين مخلوقات الأرض. ذلك أن المقاتلين الشجعان يختبرون شجاعتهم وتصميمهم على خطوط القتال وليس في عمق الأحياء المدنية وفي ذلك بعض العزاء لي ولك. بيد أن العزاء الأكبر يظل في اندحار هؤلاء الوحوش وارتدادهم خائبين إلى مستوطناتهم...بل جحورهم.