بوسع الذين يتابعون تداعيات المشهد العربي المأزوم في العديد من المواقع العربية الملتهبة أن يلاحظوا مدى التدهورالحاصل في الساحة الفلسطينية التي تجري فيها أحداث معقدة وملتبسة منذ وصول حركة «حماس» الى سدة الحكومة بوسائل ديمقراطية انتجتها آليات السلطة الوطنية الفلسطينية التي لا زال بناؤها يشكل مشروعا تضطلع بتنفيذه الدول العربية والولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي شاركت في مؤتمر مدريد للسلام، وما ترتب على هذا المؤتمر من اتفاقات وتفاهمات تتوجت بالتوقيع على اتفاق اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، برعاية ومباركة الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي وروسيا. حيث تعهدت هذه الدول بتمويل مشروع بناء السلطة الوطنية الفلسطينية كمقدمة لدولة فلسطينية مستقلة ترتبط بعلاقات سلام وتعايش مع اسرائيل، وهو ما أكدت عليه في وقت لاحق المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2002 حيث عرضت الدول العربية من خلال هذه المبادرة حلاً شاملاً للصراع العربي - الاسرائيلي يقوم على اساس انسحاب اسرائيل من الاراضي العربية التي احتلتهاعام 1967، والاعتراف باسرائيل وتطبيع العلاقات العربية معها الى جانب دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. ولئن كانت اسرائيل قد اسهمت في تعقيد الوضع المتأزم في الشرق الاوسط بموقفها السلبي من هذه المبادرة التي حظيت بتأييد دولي، فقد زاد الوضع تعقيداً وصول حركة «حماس» في بداية هذا العام الى سدة الحكومة الفلسطينية عبر انتخابات ديمقراطية تحت مظلة السلطة الفلسطينية، وانقلابها على الأسس والاتفاقات التي افرزت هذه السلطة من خلال رفضها الاعتراف بكافة الاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية مع اسرائيل، واعلان عدم التزامها بتفاهمات وقرارات مؤتمر مدريد للسلام، ورفضها توصيات اللجنة الرباعية التي تمثل الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة، ومعارضتها لقرارات مجلس الأمن الدولي بشأن حل دائم وشامل في الشرق الاوسط على اساس دولتين فلسطينية واسرائيلية، واصرارها على ازالة دولة اسرائيل من الوجود، وتحرير فلسطين من البحر الى النهر، الأمر الذي أدى الى توقف الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي عن دفع المساعدات المالية التي كانت تقدمها لمشروع بناء السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق اوسلو الذي رفضته حكومة «حماس» وما ترتب على ذلك من أضرار مدمرة بمعيشة الشعب الفلسطيني الذي يعاني من عجز حكومة «حماس» عن صرف رواتب الموظفين في مختلف الاجهزة الحكومية المدنية والعسكرية، وزيادة معاناة المواطنين الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم وسط طاحونة جديدة من الازمات السياسية والاقتصادية والامنية المتلاحقة التي تنذر بحرب أهلية مدمرة، الى جانب المشاكل الناجمة عن الاحتلال وانسداد افق الحل السياسي للصراع العربي الفلسطيني. لا يمكن فهم تعقيدات الوضع الفلسطيني المأزوم في الوقت الراهن بدون اعادة قراءة ما جرى ويجري في الساحة الفلسطينية قبل وبعد وصول السفّاح «آرئيل شارون» إلى رئاسة الحكومة الاسرائيلية في مارس 2001، حيث أطلق وصوله الى الحكم شرارة حرب إبادةٍ شاملةٍ استهدفت تمزيق أوصال الشعب الفلسطيني وتجويعه، وتقويض سلطته الوطنية، وصولاً إلى الإجهاز على مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة. بالمقابل لم تكن توجد لدى الفلسطينيين والعرب -قبل مبادرة السلام العربية التي ولدت بعد عام واحد من وصول شارون الى سدة الحكم- استراتيجية واضحة ومحددة، لمشروع سلام شامل يتجاوز تداعيات اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة، وأوسلوومدريد، حيث بدت -ولازالت- الدول والشعوب العربية عاجزةً عن فعل أي شيء، ومنقسمة على نفسها في المواقف إزاء مستقبل الصراع العربي - الاسرائيلي، ومتهافتة بين وقتٍ وآخر على خيارات متناقضة.. بعضها يحاول التكيف مع المتغيرات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي ترحّم عليه عام 2003 الشيخ يوسف القرضاوي ووصف وجوده بأنّه كان رحمة بالعرب والمسلمين!!؟ وبعضها الآخراستمرأ ممارسة لعبة الضغوط المزدوجة، تارةً من خلال إطلاق العنان للشعارات الراديكالية القديمة، وتارة أخرى من خلال ترك الأبواب مفتوحة على خيار المفاوضات السلمية لحل الصراع العربي - الاسرائيلي في إطار قرارات الشرعية الدولية. بين وضوح الموقف الإسرائيلي، وغياب استراتيجية عربية واضحة، تبدو السلطة الوطنية والفصائل السياسية أقل وضوحاً في أهدافها، وأكثر تخبطاً في خياراتها.. فالفصائل الفلسطينية منقسمة على نفسها في الموقف من اتفاقات أوسلوومدريد التي أفرزت السلطة الوطنية، حيث تمارس فصائل فلسطينة محورية لعبة مزدوجة.. فهي من جهةٍ تعارض اتفاقات أوسلوومدريد، وترفض الاعتراف بنتائجها، فيما تطالب الدول التي رعت تلك الاتفاقات بمواصلة الدعم المالي للحكومة الفلسطينية، وتحاول الاستفادة من السلطة الوطنية والاحتماء بها، لصالح نهجها المعلن بالاستمرار في الكفاح المسلح حتى التحرير الكامل من البحر الى النهر بحسب تصريح الزهار وزير خارجية حكومة حماس الاسبوع الماضي!! الثابت ان مفاوضات أوسلوومدريد بدأت في مطلع التسعينيات بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية وتأييد دولي وعربي في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، وتمّ التوقيع في واشنطن على الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان في تلك المفاوضات حيث جرت مراسيم التوقيع في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.. وقد اشترطت الولاياتالمتحدة واسرائيل شطب كل ما يشير في الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى تمسكها بالكفاح المسلح من أجل إزالة دولة اسرائيل.. ووافق المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية على تعديل ميثاقها بمقتضى هذه الاتفاقيات، فيما تحفظت المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا والعراق وإيران على ذلك، أما حركة "حماس" فقد أعلنت حينها أنّ هذه الاتفاقات والتفاهمات والتعديلات لا تعنيها في شيء، لأنّها ليست عضواً في منظمة التحرير. مما له دلالة ان حركة "حماس" أعلنت على نحو مفاجئ انتقالها إلى ممارسة الكفاح المسلح بعد التوقيع على هذه الاتفاقيات مباشرة، ولأول مرة منذ تأسيسها أواخر السبعينيات، وكانت "حماس" قد بدأت عملها باسم الجمعية الإسلامية للبر والتقوى وروابط "أم القرى" الخيرية في أواخر السبعينيات بتراخيص رسمية من سلطات الاحتلال في قطاع غزة، حيث أعلن مؤسسوها وجميعهم من الأخوان المسلمين أنّها حركة دعوية دينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعمل على حراسة الدين الإسلامي من خلال إنشاء مدارس العلوم الشرعية، وتكوين الجمعيات الخيرية وافتتاح المراكز الخدمية بهدف درء أية مفاسد تلحق بالمجتمع وتمس عقيدته!! وكان بنك التقوى الذي أنشأه الإخوان المسلمون في أوروبا هو الوسيلة القانونية الرئيسية التي حصلت من خلالها حركة "حماس" على تمويل مالي سخي لنشاطها داخل الأراضي المحتلة في مختلف مراحل تأسيسها وتطورها، حيث كانت مجالات نشاطها العلنية هي الأخرى قانونية ومعترف بها من سلطات الاحتلال الاسرائيلي، فالأموال المرسلة من الخارج كانت تصل إلى حسابات مؤسسات تعليمية وصحية ودعوية وإغاثية مصرح بها للعمل بموجب القانون الاسرائيلي. عندما اندلعت انتفاضة الحجارة في منتصف الثمانينيات تحول «الإخوان المسلمون» من العمل الدعوي الخيري المحض إلى العمل السياسي المباشر، وأعلنوا تأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على قاعدة الرصيد الذي تكوّن لدى الإخوان المسلمين بواسطة العمل الخيري والاجتماعي في الضفة والقطاع بعد حرب 1967م.. بيد أنّه أُشير في بيان التأسيس إلى أن «حماس» هي حركة سياسية سلمية، ثم أوضحت أهدافها ومنطلقاتها في ميثاق حركة «حماس» الذي يتكون من مقدمة و36 مادة موزعة على خمسة أبواب وخاتمة. واللافت للنظر أنّ مقدمة ميثاق «حماسى تشير إلى أنّ "انطلاق الحركة جاء عندما نضجت الفكرة" دون أن توضح لماذا تأخرت الفكرة أكثر من عشرين عاماً منذ قيام الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات... كما أكد ميثاق الحركة على نبذ العنف، أما هوية الحركة التي تتوقف عليه أهدافها فقد كانت غامضة.. فالمادة الثانية تعرِّف حركة "حماس" بأنّها جناح للإخوان المسلمين في فلسطين.. فيما تقول المادة الخامسة من الميثاق إنّ "حماس" هي حركة لكل مسلمي بقاع الأرض!! رفضت حركة "حماس" الانضمام إلى القيادة الوطنية الموحدة لانتفاضة الحجارة، والتي شكلتها منظمة التحرير الفلسطينية، وأناطت بها مهمة القيادة اليومية للانتفاضة في داخل الأراضي المحتلة.. وعللت الحركة هذا الرفض بأنّها ليست عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية التي ضمت كل فصائل الثورة الفلسطينية، لكن ذلك لا ينفي عنها مشاركتها في انتفاضة الحجارة التي استمرت عدة سنوات. وبوسع القارئ المتأمل لميثاق "حماس" أن يدرك أسباب بقاء "حماس" خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية.. فالمادة (27) من الميثاق تتحدث عن المنظمة بوصفها " أقرب المقربين" وتؤكد على أنّه «يوم تتبنى منظمة التحري الفلسطينية الإسلام كمنهج حياة فنحن جنودها»، وتطرح في هذه المادة إمكانية "التعاون" مع المنظمة في الأمور المتفق عليها. وفرت الانتفاضة والمدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها مجالاً حيوياً للتعاون والتفاعل بين الكوادر الوسطية لحركة "حماس" وزملائهم في منظمة التحرير الفلسطينية، بيد أنّ هذه الانتفاضة توقفت بموجب قرار صدر غداة التوصل إلى اتفاقات أوسلوومدريد، تنفيذاً للشرط الإسرائيلي الذي ربط التوقيع عليه في واشنطن باتخاذ قرار من منظمة التحرير الفلسطينية بإيقاف الانتفاضة.. وقد عارضت المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا والعراق وإيران بالإضافة إلى "حماس" هذا القرار، وأعلنت هذه المنظمات أنّها ستستمر في تطوير الانتفاضة حتى اسقاط اتفاقيات أوسلو.. غير أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد توقفت الانتفاضة مباشرة بعد صدور البيان الذي أعلنه ياسر عرفات من مقره في تونس، وتوجهت بمسيرات جماهيرية ضخمة في المدن الرئيسية لغزة والضفة الغربية رفعت صور الزعيم ياسر عرفات دون أن تعترضها القوات الاسرائيلية لأول مرة منذ الاحتلال!! على الطرف الآخر، انقسم المجتمع الإسرائيلي بين تيارين، أحدهما مؤيد لاتفاقات أوسلوومدريد، ويضم حزب «العمل» وحزب «ميريت» وبعض الأحزاب الصغيرة والجماعات غير الحكومية المؤيدة للسلام مع العرب، فيما رفض حزب «الليكود» المعارض هذه الاتفاقات وسانده في موقفه هذا بعض الأحزاب الأصولية المتطرفة في إسرائيل، وجاء اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين على يد مراهق متعصب في ذروة عملية التعبئة التي قام بها معارضو اتفاق أوسلو، الذين روجوا بأنّ قيام الدولة الفلسطينية هي المرحلة الأولى من مشروع تدمير إسرائيل وإبادة اليهود، انطلاقاً من أراضي هذه الدولة