عقب الصعود المفاجئ والانتشارالسريع للمحاكم الإسلامية على أجزاء واسعة من البلاد تغيرت ملامح الخريطة السياسية الصومالية وموازين القوى المتصارعة على السلطة في البلاد ولم يعد خافياً على أحد أن القوى الإسلامية دخلت المسرح السياسي الصومالي بقوة عسكرية وشعبية وسياسية فاجأت الأطراف المحلية والإقليمية والدولية على السواء وبتأييد شعبي واسع تجاوز الإنتماءات العشائرية والمصالح القبلية الضيقة. هذا التحول الكبير أثار اهتمام العالم وأثار ردود فعل مختلفة على جميع الأصعدة ودب الذعر والرعب في الجهات الإقليمية والدولية المتخوفة من البعبع الإسلامي، حيث عبرت أميركا والغرب بصفة عامة عن مخاوفهم الشديدة إزاء المد الإسلامي الصاعد في شرق إفريقيا. ويبدو أن أميركا حائرة في كيفية التعامل مع التطورات الأخيرة في الصومال خاصة بعد الهزيمة القاسية التي مني بها زعماء الحرب الذين ساندتهم بالمال والسلاح لوقف نفوذ الإسلاميين المتزايد في الصومال خاصة في العاصمة مقديشو. وقد أخطأت المخابرات الأمريكية التقدير ولم تدرس الوضع جيداً إذ أنها راهنت على أمراء حرب قطاع الطرق رمز البؤس والشقاء في المأساة الصومالية الراهنة مما زاد من نصاب الإسلاميين وأكسبهم شعبية كبيرة فاقت توقعات جميع المراقبين في الشؤون الصومالية. ويظهر أن الإدارة الأميركية مشغولة الآن بإعادة ترتيب أوراقها من جديد ووضع خطة سياسية شاملة ومدروسة بدقة قبل القيام بأية ممارسات أخرى فاشلة قد تفضي إلى نتائج عكسية مماثلة..وكذلك أبدت منظمة دول شرق إفريقيا من أجل التنمية "إيقاد" قلقها البالغ تجاه بروز قوة إسلامية ضاربة في القرن الإفريقي ورأت في ذلك ضربة قاضية لمشروع المصالحة الذي رعته وما نتج عنه من الحكومة الفيدرالية الضعيفة ومؤسساتها الهشة، بل إن بعض الدول الأعضاء في هذه المنظمة اعتبر تحركات المحاكم تهديداً مباشراً للأمن الوطني لبلدانهم خاصة إثيوبيا التي صرح مسؤولوها عن ذلك علانية وكذلك كينيا التي أبدت مخاوف مماثلة وإن كانت بصورة أقل وضوحاً مما أدى بالبلدين إلى نقل حشود عسكرية إلى الحدود، ومما زاد الطين بلة أن القوات الإثيوبية لم تكتف بذلك بل توغلت في الأراضي الصومالية من جهات مختلفة تتذرع تارة بالدفاع عن مقر الحكومة التابعة لها في بيدوا وتارة أخرى بوقف زحف الإسلاميين تجاه الأراضي الإثيوبية. من ناحية أخرى رأت الجامعة العربية بانتصار الإسلاميين على زعماء الحرب أمراً إيجابياً يستحق التأييد والترحيب، خاصة إذا علمنا أن معظم قياديي الإسلاميين درسوا في الجامعات العربية مما خلق تقارباً وتفاهماً كبيرين بينهما. ولكن ذلك التقارب أزعج الحكومة "الإنتقالية وبعض الدول الأعضاء من منظمة «إيقاد» وعزز هذا الإنزعاج رفض الإسلاميين حضور أي مؤتمر مصالحة ترعاه «إيقاد» واقترحت الجامعة العربية كجهة محايدة بين الطرفين مما أنهى احتكار «إيقاد» وانفرادها بالملف الصومالي وعادت جامعتنا إلي الساحة الصومالية بعد غياب طويل وبدأت تحركاً ديبلوسياً مكوكياً استطاعت من خلاله أن تقنع الطرفين بحضور مؤتمر الخرطوم. هذا التحرك العربي لم يعجب الجهات المحتكرة للقرار الصومالي ورأت فيه تعدياً سافراً لحقها في الانفراد بإدارة هذا الملف ومن ثم بدأت وضع العقبات والعراقيل أمام نجاح المبادرة العربية ولم يألو جهداً في إفشالها سواء عن طريق الضغط على الحكومة لعدم حضور المؤتمر أو من خلال القيام باستفزازات عسكرية تنتهك سيادة الأراضي الصومالية. وأوضح مثال على الدور المشبوه للثلاثي الإثيوبي الكيني الأوغندي هو ما قاموا به خلال المؤتمر الأخير في الخرطوم في الثاني من شهر أغسطس إذ أنه في الوقت الذي كانت المفاوضات جارية بين ممثلي الحكومة والمحاكم (الإسلامية) قرروا عقد لقاء قمة لمنظمة دول شرق إفريقيا "إيقاد" في نيروبي لبحث سبل إرسال جنود حفظ سلام من دول إيقاد إلي الصومال وهو ما فسر بمثابة إستباق للأحداث وقطع الطريق أمام إمكانية توصل أية تسوية بين الطرفين. ولكن الأمور جرت علي غير ما خططوا لها وأفضت إلى نتائج معكوسة إذ أنه أظهر هذا المؤتمر إلى العلن لأول مرة عن الإنقسام العميق بين أعضاء إيقاد على إدارة الأزمة الصومالية، حيث قاطعت اللقاء كل من أرتيريا وجيبوتي بتاتا وأوفدت يوغندا والسودان مندوبين على مستوى منخفض ولم يحضر إلا إمبيكي ومليس زيناوي وعبدالله يوسف مما أكد المخاوف الذي يبديه كثير من الصوماليين حول مكائد خبيثة تتبناها إثيوبيا وتريد تمريرها وتنفيذها من خلال إيقاد. وعلى الرغم من هذه الحقائق كلها فإنه مع ذلك يجب علينا الإشادة والتنويه بالجهود التي بذلتها "إيقاد" لإيجاد حل سياسي سلمي للأزمة الصومالية التي استعصت على العالم وكان آخر هذه المحاولات مؤتمر المصالحة الأخير في نيروبي الذي استمر عامين كاملين بدون انقطاع ونتجت عنه الحكومة الحالية في بيدوا (الحكومة هنا بمعناها المجازي لا الحقيقي إذ أنه ليس لديها أدنى مقومات الدولة على أرض الواقع وإن كانت تتمتع باعتراف المجتمع الدولي) وكذلك من باب الإنصاف وعدم غمط الناس حقوقهم ينبغي علينا أن نقدر مواقف دول الجوار في استقبال الآلاف من اللاجئين الصوماليين في بلدانهم واستضافة آلاف آخرين في مدنهم وعواصمهم "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" ومن المفارقة أنه في الوقت الذي توزع المحاكم (الإسلامية) على دول الجوار تهم العداء للشعب الصومالي نرى تدفق موجات من النازحين الأبرياء على أراضي تلك الدول فراراً من الصراع على السلطة بين مليشيات المحاكم وزعماء الحرب. وتشير تقديرات الأممالمتحدة الأخيرة إلى أن عدد اللاجئين الصوماليين الذين يعبرون الحدود إلي كينيا يوميا يقدر بحوالي ألف شخص منذ شهر أغسطس الحالي..إن كل ذلك يدفعنا إلى القول بأننا نحن الصوماليين، وبمعنى أدق النخب الصومالية أعداء شعبنا قبل غيرنا.. فلنحترم أنفسنا ولنرحم شعوبنا ولنكف عن إدانة الآخرين في صنع مشاكلنا التي صنعناها بأيدينا وحلها في أيدينا، أمراضنا أعيت الأطباء وحار فيها اللبيب والحكيم وشاب لها الولدان وأذهلت الشيخ الحليم حتى أصبحنا ندرة يتندر بها العالم ومثلاً يضرب في الفوضى والتشرذم والشقاء. نحن هنا لسنا في موقف تبرئة دول الجوار ولكننا ضد أية مزايدات سياسية والتنصل من المسؤولية وإلقاء اللوم جزافاً على الآخرين والتسبيح باسم إثيوبيا بالعشي والأبكار وكأن محاكمنا كانت تتوقع الترحيب والتهاني من أديس أبابا بعد حرق جميع أوراقها الرابحة في اللعبة السياسية الصومالية لطردها أمراء حربها وعزل حكومتها الإنتقالية ربيبتها وحشرها في زاوية ضيقة تستغيث المجتمع الدولي لإنقاذها من موت محقق علي يد الإسلاميين. الدور العربي الضعيف قد عمّق من المأساة الصومالية؛ إذ هم تجاهلوا المحنة الصومالية تجاهلاً تاماً طيلة السنوات الست عشرة الماضية ولم تقم الجامعة العربية بأي جهد جماعي يذكر للمصالحة الصومالية سوى بعض مبادرات فردية قامت بها بعض الدول الأعضاء في الجامعة مثل مؤتمر القاهرة في عام 1996 ومبادرتي الرئيسان اليمني الأخ علي عبدالله صالح لجمع جناحي الحكومة الحالية في اتفاق عدن في العام الماضي والرئيس السوداني عمر البشير الذي كان له دور بارز في المبادرة العربية الحالية للوساطة بين الإسلاميين والحكومة. ما عدا هذه المبادرات الفردية لم تقم جامعتنا بأية محاولة جادة لإنهاء معاناة شعبنا بل لم نسمع عن عقد إجتماع عربي واحد سواء على مستوى القمة أو الوزراء أو حتى على مستوى مندوبي الدول الأعضاء في الجامعة العربية لمناقشة الأزمة الصومالية. والأدهى من ذلك كله أن جميع الاجتماعات العربية تذكر الصومال بالبنود الأخيرة الهامشية بصورة أقرب إلى شحاذ همه الحصول على دريهمات بعد سرد القضايا العربية الأخرى الرئيسية منها والفرعية من فلسطين مروراً بالعراق ولبنان وسوريا إلى دارفور. ويجدر بالذكر أن المبادرة العربية الوحيدة الجادة في مؤتمر القاهرة في عام 1996 أحبطت من قبل إثيوبيا بعد أن أقنعت صديقها وحليفها الرئيس الحالي عبدلله يوسف بالانسحاب من المفاوضات والتوجه إلى أديس أبابا، وكذلك عملت إثيوبيا كل ما في وسعها لإفشال ثمار مؤتمر عرته في جيبوتي في عام 2000 المتمثلة في الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة عبدالقاسم بعد أن شمَّت منه رائحة عروبية واتهمت حكومته بالتعان مع الإسلاميين. ومهما يكن الأمر فإن الجامعة العربية بدورها لم تآلُ جهداً في عرقلة أية عملية سلام تقودها منظمة إيقاد أو إثيوبيا وهذا يجعلنا نفهم الفتور العربي الواضح في مساعدة الحكومة الحالية نتاج مؤتمر نيروبي برعاية إيغاد، ويفسر لنا أيضاً الأسباب الحقيقية الكامنة وراء مماطلة الدول العربية في تنفيذ قرارات القمة العربية في الجزائرعام 2005 بعدم تسديد مستحقاتها لصندوق الجامعة العربية لمساعدة الصومال، والآن جاء دور "إيغاد" بقيادة إثيوبيا تعمل كل ما في وسعها للحيلولة دون أي نجاح يرجى من الوساطة العربية الراهنة في مؤتمر الخرطوم. الوساطة العربية الحالية حظيت في البداية بقبول الأطراف المتصارعة على السلطة في الصومال نظرا لدورها الحيادى المفترض لكن سرعان ما عبرت الحكومة عن شكوكها من التقارب الكبير بين المحاكم والجامعة العربية مما حدا بها إلى طلب إشراك منظمة إيقاد لمؤتمر المصالحة ولم يلق آذانا صاغية، إلا أن الأمور تدهورت بصورة كبيرة بعد تصريحات أدلى بها السفير سمير حسني -مسؤول ملف الصومال في الجامعة العربية- لجريدة «الشرق الأوسط» اللندنية في 29 من سبتمبر الماضي حيث اعتبر سيطرة المحاكم على مدينة كسمايو الاستراتيجية بمثابة انقلاب أبيض وبالتالي لا يعد انتهاكاً لاتفاقات مؤتمر الخرطوم التي تنص على عدم محاولة أي طرف من بسط سيطرته على أراضي جديدة غير خاضعة لسيطرته وهو ما وضع مصداقية الجامعة العربية على المحك وكشف تعاطفها إن لم يكن إنحيازها للمحاكم مما أثار ثائرة الحكومة الانتقالية وأعلنت مقاطعتها لحضور أي مؤتمر ترعاه الجامعة العربية وطالبت بإعادة الوساطة إلى إيقاد حليفتها والتي بدورها تتهمها المحاكم بمحاباة الطرف الآخر. وهكذا أصبحت معاناة شعب بأكمله لعبة قوى إقليمية عربية أوإفريقية ومصيره مرهون بصراعات مصالح قوى متنافسة والخاسر الوحيد أولاً وآخراً هو الشعب الصومالي الإفريقي العربي. ومما يدعو إلى الأسى والحزن هو أن القوى السياسية الصومالية هي المسؤول الأول عن إرتهان شعوبهم لمصالح الأطراف الإقليمية وإلا فما معنى أن تنظر الحكومة بعين الريب والشك في الدور العربي للوساطة الصومالية وكذلك لا نفهم حساسية محاكمنا المفرطة في أي دور إفريقي؛ مع أن الاتحاد الإفريقي مقارنة بنظيره الجامعة العربية كان له دور فعال في إيجاد حل للمعضلة الصومالية، وفي اجتماعات الأفارقة على الأقل يحتل الوضع في الصومال محل الصدارة ويلقى الاهتمام والأولية الذي يستحقه. وأخيراً.. المريض له مئات الأطباء والمستشارون فهو لا خيار له يقبل النصح من كل أحد عسى أن يجد فيها شفاء لدائه المزمن، فإذا استحق العثمانيون لقب رجل أوربا المريض في القرن التاسع عشر فإننا معشر الصوماليين استحققنا عن جدارة لقب رجل إفريقيا المريض في نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين منه. ما نريده هو أن يتكامل الدوران العربي والإفريقي تحقيقاً لهوية شعبنا المزدوجة ونرفض موقف الأحادي الهوية الذي نشم منه تصرفات القوى السياسية المتصارعة على السلطة فلتكف الحكومة عن التضايق بوجود أي دورعربي، كما أن المحاكم يجب أن تتوقف عن إبعاد الشعب عن محيطه الإفريقي. ثم إننا ندعو المنظمات الإقليمية عربية كانت أو إفريقية أن تنسق جهودها الرامية إلى إنهاء حالة التشرذم والاقتتال الأهلي في الصومال مراعاة لمصالح شعبنا الذي عاني الأمرين وأن تكف عن الوقوف إلى جانب طرف ضد طرف آخر مما يعقد في إيجاد حل سياسي سلمي دائم لأزمتنا العويصة. * كاتب صومالي [email protected]