يمكن القول بأن ما قام به فخامة الرئيس في زيارته لواشنطن للقضية الفلسطينية سيفتح المجال امام تعامل جديد معها من قبل القيادة الامريكية والرأي العام الامريكي بل والعالمي.. لقد خاطب فخامته الرأي العام الامريكي بما يفهمه و هو ان للفلسطينيين حقوقا، وان الاسرائيليين قد ظلموهم وان على كل انسان منصف وشريف ان يعمل لإعطائهم حقوقهم وإزالة ما لحق بهم من ظلم كبير.. ان طرح القضية على هذا النحو سيضعها في منعطف جديد ربما يكون اكثر فعالية واسرع حسماً. لم يستطع العرب حسم الصراع العربي- الاسرائيلي او ما يسمى في الوقت الحاضر الصراع الفلسطيني في البداية او هم العرب انفسهم بأن اسرائيل لا يمكن ان تستمر في البقاء حتى لبعض سنوات وانه في امكانهم رميها في البحر بأسرع مما يعتقده الكثيرون.. لكنهم اكتشفوا بعد حرب 1948م ان الامر اصعب من ذلك بكثير ومع ذلك فإنهم لم يجرؤا على مصارحة شعوبهم بذلك.. وانتظرت الشعوب العربية تسع عشرة سنة حتى اكتشفت حقيقة ان هذا الصراع ليس صراعاً عادياً. وبعد حرب 1967م رفع العرب شعار ضرورة العمل على تحقيق التوازن العسكري بين العرب واسرائيل بهدف إنهاء هذا الصراع.. لكنهم لم ينجحوا في تحقيق هذا التوازن حتى بعد ان خاضوا حرب عام 1973م على الرغم من الموارد الاقتصادية الكبيرة التي وجهت نحو ذلك. وبعد حرب 1973م ظهر مصطلح جديد هو تحقيق التوازن السياسي لإنهاء هذا الصراع.. على الرغم من اعلان بعض العرب بأن زمن الحرب قد ولى وان استعادة الحقوق سوف تتحقق من خلال السلام فإنه وبعد مرور حوالى 33 سنة فإن الصراع مازال يراوح مكانه والحقوق بعد لم يتم استعادتها. فعلى المستوى الاسرائيلي فإن تفوقها العسكري والسياسي لازال واضحاً في ظل ذلك فإن القيادة الاسرائيلية لا تستطيع تبرير تقديم اية تنازلات يتطلبها القبول بالمبادرة العربية. في الجانب الفلسطيني فإن هناك انقساماً واضحاً بين مختلف القوى الفلسطينية الفاعلة في الساحة حول متطلبات انهاء هذا النزاع.. فبعض هذه القوى مثل (حماس و الجهاد) مازالت في الوقت الحاضر ترفع شعار ضرورة السعي الى تحقيق توازن عسكري لإنهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.. وعلى الرغم من تمسك بعض القوى (فتح) بالتفاوض كخيار استراتيجي لحل هذا النزاع الا ان تحمسها له قد تراجع بشكل كبير. ولذلك فإن نجاح اية محاولة لحل هذا النزاع يحتاج الى خلق توازن جديد .. ان ذلك يتطلب البحث عن توازن واسع لا يقتصر فقط على التوازن العسكري ولا السياسي.. فمن وجهة نظرنا ان هذا التوازن يتمحور حول فكرة تحقيق خليط مناسب من عناصر إدارة الصراع يهيئ للحل العادل. ويجب ان نؤكد هنا ان العرب والفلسطينيين معاً هم المعنيون بالسعي لمثل الحل العادل بالتالي فإن عليهم جميعاً البحث عن هذا التوازن الذي يؤدي الى ذلك و من المهم ان يقوم هذا التوازن على اساس توضيح وشرح الآثار الانسانية البغيضة التي ترتبت على تشريد شعب بكامله وما تلى ذلك من اجهاض لعملية التنمية والتطور في العالم الاسلامي والعربي. فمعاناة الفلسطينيين في الداخل والخارج واضحة لكل انسان منصف.. غير ان الفلسطينيين والعرب فشلوا في ايقاظ الضمير العالمي حول الممارسات الاسرائيلية غير الانسانية ، وبالامكان في الوقت الحاضر استخدام ذلك لخلق توازن جديد اكثر عدلاً وانصافاً. وكذلك فإن ما تحمله العالم العربي من جراء تبعات هذا الصراع كان كبيراً جداً فباسم تحرير فلسطين تم تبرير ايقاف المسارات الديمقراطية في العديد من الاقطار العربية وتم هتك الحريات وتبديد الثروات واشعال الحروب الاهلية والحروب العربية العربية. واذا كان اهتمام العالم والقوى الكبرى بالعالم العربي قد زاد بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر فإنه يمكن استثمار هذا الاهتمام لاضعاف التوازن العسكري الحالي الذي يصب في مصلحة اسرائيل.. وهذا ما فعله الاخ الرئيس خلال زيارته لواشنطن.. فقد اوضح للقيادة الامريكية وللرأي العام الامريكي والعالمي بأنه من الضروري إنهاء هذا الصراع بأسرع وقت ممكن.. باعتبار ان تحقيق ذلك هو الشرط الضروري والكافي للخروج من كل الازمات التي يعاني منها العالم العربي، وفي مقدمتها الحرب على الارهاب. ما من شك بأن ما طرحه الاخ الرئيس في واشنطن سيعمل على تغير التوازن الحالي وخلق توازن جديد اكثر مواءمة لنجاح أية محاولة لإنهاء هذا النزاع، وبالاضافة الى ذلك فإن على العرب والفلسطينيين تبني مزيج من استراتيجيات إدارة الصراع تتناسب مع مزيج استراتيجيات إدارة الصراع المتبع في اسرائيل بمثله.. واذا ما تحقق ذلك فإنه يمكن القول بأن أمة تقابل أمة. وينبغي ان يعتمد هذا المزيج اما على تقوية الامة الاسلامية الى نفس درجة قوة الامة الاسرائيلية واما على اضعاف مزيج الاستراتيجيات الاسرائيلية (اضعاف الموقف الاسرائيلي مقابل ضعف الموقف العربي) واما على مزيج من الاثنين (اضعاف الموقف الاسرائيلي وتقوية الموقف العربي). ولمعرفة ما ينبغي على العرب والفلسطينيين فعله اولاً التعرف على مزيج استراتيجيات إدارة الصراع الاسرائيلي وتقييم نقاط قوته وضعفه.. ان القيام بعملية استقراء لأهم الاستراتيجيات التي اتبعتها اسرائيل لإدارة هذا الصراع سيجعلنا نحصل على اهم الاستنتاجات التالية: على الرغم من ان السبب الاهم لهذا الصراع هو التنازع بين مجموعتين من البشر على مساحة محدودة من الاراضي فإن الاسرائيليين قد نجحوا بإضافة اسباب اخرى لا علاقة بها بموضوع النزاع لا من قريب ولا من بعيد.. وبما ان هذه الاراضي لا تكفي لتلبية متطلبات العيش الكريم للمجموعتين فإن الفلسطينيين هم السكان الاصليون احق من غيرهم بها.. انهم هم الذين سكنوا هذه الارض منذ القدم و بدون انقطاع .. وللتغطية على هذه الحقيقة الناصعة فإن استراتيجيات اسرائيل للتعامل مع هذا الصراع قد تجاوزت موضوع الارض الى موضوعات اخرى فقد تعمدت اسرائيل استخدام التاريخ، الدين، القومية ، العلم، والسياسة في إدارة هذا الصراع، وعلى الرغم من ان هذه العوامل لا تؤيد وجهة النظر الاسرائيلية بقوة الا انها قد نجحت في استثمارها بشكل كبير. فقد نجح الاسرائيليون في تلفيق التاريخ لصالحهم على الرغم من ان الحقوق التاريخية للفلسطينيين ثابتة بالاجماع .. فجميع المصادر التاريخية تتفق على تواجد الفلسطينيين في هذه المنطقة من الارض منذ القدم وبدون انقطاع الى يومنا هذا.. اما الادعاءات التاريخية الاسرائيلية لا تستند على حقائق تاريخية. صحيح ان الكتب الدينية السماوية (التوراة، والقرآن والانجيل) قد اشارت الى ان الاجداد الذين ينتسب اليهم الاسرائيليون قد تواجدوا في هذه الاراضي او بعضها قبل عدد من آلاف السنين لكنهم يتفقون على ان تواجدهم هذا قد انقطع منذ آلاف السنين ايضاً ، وذلك حسب الابحاث الاثرية المركزة التي تم القيام بها في هذه المنطقة والتي لم تسجل العثور على اية ادلة تثبت تواجد هؤلاء في الماضي.. وعلى الرغم من هذه الحقائق فإن الاسرائيليين استطاعوا ان يوهموا العديد من شعوب الارض بحقهم التاريخي في حين فشل الفلسطينيون في ذلك.. ان ذلك يثير العديد من الاسئلة حول هذا النجاح وحول هذا الفشل. اما فيما يخص الدين فإن الاسرائيليين قد استخدموه لتبرير تهجير الفلسطينيين وانكار حقهم التاريخي الثابت.. فقد نجح الاسرائيليون في استخدام الدين بدرجة تفوق كثيراً ما حققه الفلسطينيون في هذا المجال.. فقد استطاعوا جعل العالم يقبل بمبدأ ان يكون الدين هو الذي يحدد حق العيش في هذه الاراضي.. فقد اعطت الدولة الاسرائيلية الحق لكل من يعتنق اليهودية بالهجرة الى فلسطين والحق في اكتساب الجنسية الاسرائيلية وفقاً لذلك، ولاشك ان ذلك يتناقض مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومع كل الاعراف الدولية المتحضرة. حتى الكتب اليهودية لا تعترف بهذا الحق العنصري، فعلى الرغم من ان الكتب الدينية اليهودية قد تحدثت عما يسمونه بحق العودة لكنها قد حددت مواعيد وشروط مختلفة لذلك، فالكتب اليهودية تعتبر العودة مرتبطة بحدوث امور خارقة للعادة مثل ظهور نبي جديد وحدوث معجزات ان ذلك يتناقض كلياً مع الاسلوب الذي اتبعته دولة اسرائيل والمتمثل في استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من ان التصور الديني للصراع ضعيف لدى الاسرائيليين فإنهم قد نجحوا في استخدامه في الصراع بدرجة تفوق ما نجح الفلسطينيون في تحقيقه ، فقد استطاع الرأي الديني غير الموثقف لدى الاسرائيليين على التغلب على الرأي الموثق.. ولذلك فقد استطاعت اسرائيل ان تقنع غالبية اليهود بأن الهجرة الى فلسطين تلبية لمتطلب ديني. أما فيما يخص الجانب الديني لدى العرب والفلسطينيين فإنه للاسف لم يستثمر بطريقة فعالة، فعلى الرغم من ان المسلمين يعتقدون بأنه سيكون هناك صراع بين المسلمين واليهود وستكون الغلبة في النهاية للمسلمين، لكنهم لم ينجحوا في تحويل ذلك الى واقع فعال.. فالمسلمون حتى اليوم مازالوا يختلفون في مؤشرات حدوث هذا الصراع.. حيث كانت غالبيتهم تعتقد ان ذلك مرتبط بعودة عيسى الى الارض وظهور إما مهدي السنة او مهدي الشيعة. اما الفلسطينيون فلم ينجحوا في تحويل التعاطف الدين الاسلامي الى دعم فعلي.. صحيح ان الاسلام لا يعادي اليهود المسالمين بل ولا يحرم عليهم العيش في فلسطين ولكن يحرم تهجير السكان الاصليين سواء كانوا مسلمين ام مسيحيين. على الرغم من تداخل الدين اليهودي مع القومية اليهودية فإن انتشار اليهود في جميع مناطق العالم قد اضعف من اعتبارهم يمثلون قومية متجانسة.. وعلى الرغم من ذلك فإن الصهيونية العالمية ودعايتها الكبيرة قد نجحت في خلق قدر معقول من التجانس بين الذين هاجروا الى فلسطين. لكن في المقابل فعلى الرغم من وضوح الانتماء العربي تاريخياً ولغوياً وثقافياً فإنه لم يلعب دوراً بارزاً في الصراع، صحيح انه في بداية الصراع تم اللجوء الى العامل القومي بقوة من خلال التدخل العربي العسكري وغيرها في الدفاع عن الفلسطينيين ، لكن ذلك لم ينجح في منع قيام اسرائيل. لقد استغل الاسرائيليون تواجدهم في العديد من الحضارات لأن يؤثروا على الرأي العام من اتباع هذه الحضارات.. انهم نجحوا في تصوير انفسهم على انهم قوم متعلمون وفي نفس الوقت سعوا بجد الى تصوير الفلسطينيين بصفة خاصة والعرب بصفة عامة انهم معادون للعلم ومتأثرون بالخرافة والجهل.. ونتيجة للدعم الدولي غير المحدود فإن الاسرائيليين قد نجحوا في تطوير الاراضي التي يسيطرون عليها مما مكنهم من ايهام الكثيرين بتفوقهم العلمي والحضاري وان تواجدهم في المنطقة ضروري لاخراجها من التخلف ولحقوقها في قطار التقدم والحضارة. والاكثر غرابة بأن اسرائيل قد نجحت في تصوير نفسها على انها دولة ديمقراطية قائمة على المؤسسات وانها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تطبق المبادئ الديمقراطية، وهي بذلك فقد نجحت في جذب تعاطف المجتمعات الديمقراطية لها. لقد نجح الاسرائيليون في استخدام كل هذه الجوانب في حين فشل العرب والمسلمون الفلسطينيون مما مكن الاسرائيليين من التفوق ومن ثم الاصرار على فرض الحل الذي تريده حتى وان كان غير مقبول من الجانب الآخر وغير عادل. ولذلك فإنه لا يمكن اجبار اسرائيل على القبول بأي حل عادل الا من خلال تغير التوازن الحالي.. لذلك فقد عمل الاخ الرئيس على لفت انظار العرب والفلسطينيين والامريكان بل والعالم بأسره. لذلك فإن على العرب والفلسطينيين الاستفادة من الآفاق الجديدة التي فتحتها زيارة فخامة الرئيس للسعي الى استغلال التاريخ والعلم والدين والقومية والديمقراطية وحقوق الإنسان لإظهار الإسرائيليين أمام العالم بأسره على حقيقتهم.