لم تعد بعض دول العالم الإسلامي اليوم عرضة فقط لثقافة التعصب بعد العصبية: الأسرية والقبلية وغيرها من صنوف العصبيات الأخرى التي لم تتجاوزها كثير من بلدانه بعد، بل وأصبحت اليوم تعيش بعض دول هذا العالم موجة من التعصب التي انتقلت من حالة القتل الفردي إلى الاقتتال الجماعي المنظم الذي يطل برأسه ما بين آونة و أخرى، وتعاني منه بعض هذه البلدان على تفاوت فيما بينها، وفي مدى حدته ووطأته عليها وعلى أفراد مجتمعاتها. هذه الظاهرة التي غدت اليوم تقلق راحتنا ، وتنال من سكينتنا وأمننا الفردي والمجتمعي هي في حاجة ماسة إلى التعاطي الجاد معها من الداخل، بدلاً من انتظار الوافد القادم إلينا من الخارج تحت ما يسمى بمحاربة الإرهاب والمنطلق من دوافع الحفاظ على المصالح التي للخارج عند الداخل أما مجرد الحديث عن سماحة هذا الدين الإسلامي وقيم التعايش النبيلة التي يحملها في طياته وغيرها من الصفات السامية فلم تعد بمقدورها اليوم معالجة هذه الظواهر السلبية التي تقع وطأتها على المجتمع من ذلك النوع السلوكيات المدمرة للذات والآخر، حيث تطل كثير من التصرفات التي يقدم عليها بعض المنتسبين إلى الإسلام مما يمثل مجافاة صارخة لقيم الإسلام وتعاليمه السمحة، والتي كثيراً ما نرددها لكنا نرى بعض الممارسات الخارجية عليها تصدر عن أبناء هذا الدين. بعيداً عن المعارك الدائرة منذ ما يزيد عن الثلاثة أسابيع في «نهر البارد» والتي أطلت برأسها علينا فجأة من دون مقدمة ولا إنذارات مسبقة.. مما يشير بأصابع الاتهام إلى شيء من الغيبوبة الرسمية والشعبية التي نعيشها إزاء بعض قضايا حياتنا المصيرية إذ كيف لمواجهة مسلحة تظهر فجأة على هذا النحو، ومن أين لها بكل ما تستلزمه المواجهات العسكرية من رجال مدربين وحيازة المال الذي يمكن من الحصول على العتاد والسلاح وخطوط الامدادات التي لا يقوى على توفيرها سوى الجيوش النظامية التي تملكها الدول بامكاناتها المادية والبشرية غير أن شيئاً شبيها بهذا أو مقارباً قد ألفنا ظهوره اليوم بيننا فجأة فكيف يمكن لنا تفسير ذلك؟ بعيداً عن تلك المواجهة الدائرة في ذلك النهر الذي لم يعد له اليوم من مسماه نصيب نسلط الضوء هنا على واقعتين من بين وقائع عدة حدثت في هذا الأسبوع تشير على العواقب المدمرة على النفس الإنسانية التي اختصها الله بمكانة متميزة وفرض لها حرمة خاصة مهما كان جنسها أو لونها ودينها أو غير ذلك من الصفات الخلقية أو المكتسبة هذه العواقب هي نتيجة منطقية لثقافة التعصب. من الشرق وبالتحديد من دولة باكستان المسلمة حملت لنا وسائل الإعلام الخبر الخاص بهجوم جماعة إسلامية تنتمى إلى إحدى المدارس الدينية على أحد المراكز الرياضية، وأسر من تصادف وجوده فيه في ذلك الوقت، بحجة أن ذلك المركز يشهد اختلاطاً ويقدم الرذيلة تحت مسمى الترفية والرياضة، وفي الواقعة تفاصيل كثيرة لا داعي للخوض فيها ، غير أن صورة السيدة المنقبة التي ظهرت على شاشة التليفزيون للحديث عن تلك الواقعة والصور المصاحبة لذلك الحديث من الجماعة المنتمية إلى تلك المدرسة الدينية لاناس ذوي لحى طويلة وقمصان قصيرة ونساء منقبات.. كانت تحمل في طياتها من الرسائل ما يغني عن سرده في كم كبير من الكلمات لنا فقط أن نتأمل وقع ذاك في المجتمعات غير المسلمة وأثره على صورة الإسلام والمسلمين لدى الآخر، مما قد لا يعني كثيراً تلك الجماعة وغيرها غير أنة في المحصلة النهائية يسهم من زيادة الصورة السلبية عن الإسلام في المجتمعات الغربية! أما الواقعة الثانية، فقد تمثلت في ذلك الاعتداء الذي أقدم عليه أحد الحراس على أنفس «مستأمنة» تعمل في بلادنا، ولا أتصور أن "الجاني"" قد نمى إلى سمعة هذا المصطلح الراقي من أساسه أو أنه يعرف الوضع الديني لمن دخل بلاد الإسلام من غير المسلمين وصيانة دمه وماله وعرضه، والغلظة التي حملها الدين على من ينكث بعهد «المستأمن» الذي هو عهد الله ورسوله ، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد أجار من أجاره الآخرون رجالاً ونساء. لا يمكن الحديث هنا عن أية مبررات للإقدام على مثل هذه الأعمال مهما كانت المحبطات فالأخطاء مهما كانت جسامتها لا تبرر الوقوع في أخطاء مثلها، أو معالجتها بشيء من هذا القبيل، فقتل النفس أمر عند الله والناس عظيم ، ومن غير الوارد الحديث عن هذا الفعل الإجرامي بغير الحق الذي نص عليه القرآن ولا غيره يبيح قتلها ومن ثم فإن ثقافة «التعصب» هي المتهم الأوحد في هذا المجال فهي التي تدفع بأصحابها إلى ممارسة أفعال من هذا القبيل عن قناعة تامة ورضا بل وربما تصور هؤلاء الناس واعتقدوا أنهم بأفعالهم تلك إنما يمارسون "قربى " يتقربون بها إلى الله، وتوردهم إلى جناته في حين أن الواقع أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قد برأ إلى الله ممن يقدم على فعل من هذا النوع ضد مستأمن! ان مواجهة ثقافة التعصب التي تشيع اليوم في كثير من المجتمعات الإسلامية هي الخطر الذي يواجه هذه المجتمعات مالم يتم التنبه إليها وهي المعركة التي تحتاج هذه المجتمعات إلى مواجهتها اليوم وليس غداً، فأي انتظار في هذا المجال من شأنه إحداث الضرر ومضاعفته ومن ثم فالجدير بهذه المجتمعات أن تبدأ في اتخاذ الخطوات اللازمة لمواجهة الحالي منها للحد من آثارها من ناحية وبما من شأنه أن يحول دون نشأة أخرى جديدة من هذا النوع بقدر الإمكان، وهذه ليست مهمة رسمية تناط بالدولة القيام بها فحسب، بل هي أيضاً مهمة يشترك فيها سائر أفراد المجتمع فضلاً عن دور الأسرة المبكر في هذا المجال. قد يكون من غير المعروف على نحو كاف أن اليمن قد بدأت عملاً هاماً من هذا النوع وقطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال غير أنه لم ينل حتى اليوم ما يستحقه من الإشهار والإعلام وكأن هناك شيء من الخوف ينتابنا إزاء بسط مثل هذه القضايا على بساط المناقشة والبحث فهذه القضية هي واحدة من أولوياتنا المجتمعية وهي في حاجة إلى حوار جاد حولها، من سائر قوى المجتمع ومؤسساته المختلفة وأفراده كما ينبغي أن يكون لنا عين على ما يقدم لأبنائنا في مؤسسات تشكيل الذهن في سنوات العمر الأولى، بدلاً من الانتظار حتى مرحلة الشباب لنبدأ معه الحديث عن ثقافة التسامح في «الكتاب» في الوقت الذي يكون فيه الذهن قد شحن ب قنابل» موقوتة، و"طلقات" تتحين الفرصة لانطلاقها،وتتربص بإطلاقها على تلك مسألة لا تهم «المتعصبين».