يبدو السيد محمود عبّاس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية على حق عندما يعتبر قضية الانتخابات المبكرة محاولة للخروج من المأزق. أنه المأزق الذي أوقعت فيه «حماس» الشعب الفلسطيني عندما نفّذت انقلاباً، بكل ما لكلمة انقلاب من معنى، في قطاع غزة الذي سبق لأسرائيل أن انسحبت منه قبل عامين. أياً تكن الظروف التي انسحبت في ظلها أسرائيل منهية احتلالها لغزة، فقد سقط الفلسطينيون في الامتحان عندما عمت فوضى السلاح القطاع بدل أن يصنعوا منه نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية مستقلة في المستقبل. سقطوا في امتحان غزة وهاهم الآن في المأزق الذي يهددالقضية الفلسطينية ومستقبلها. لا بدّ للشعب الفلسطيني من الاحتكام الى صناديق الاقتراع مجدداً كي يحدد خياراته السياسية بدل أن يبقى أسير الشعارات التي حوّلت غزة الى سجن كبير في غياب أي نوع من الرؤيا السياسية لدى «حماس» وكل من لف لفها. من دون خيارات سياسية واضحة، سيتكفل الفلسطينيون بالقضاء بأنفسهم على قضيتهم. في غياب الخيارات السياسية الواضحة سيتكرس وضع غزة سجناً كبيراً ذا سقف مفتوح. وحدها الخيارات السياسية الواضحة التي تتولى المناداة بها سلطة وطنية فلسطينية تنبثق عنها حكومة متجانسة يمكن أن تعيد بعض الأمل للفلسطينيين، في حين أن الدعوات الى حوار بين «فتح» و «حماس» أو بين الرئاسة من جهة والسيد اسماعيل هنية رئيس الحكومة المعزول من جهة أخرى، لن تقود سوى الى اضاعة الوقت واضاعة القضية. في أحسن الأحوال، لا يمكن أن ينتج عن الحوار سوى حكومة جديدة يمكن تسميتها من الآن حكومة شلل وطني لا يستفيد منها سوى الاحتلال الأسرائيلي. والواضح أن الاحتلال على استعداد للذهاب بعيداً في سعيه الى الاستفادة من غياب الخيارات السياسية الواضحة التي يقبل بها المجتمع الدولي، هذا المجتمع الذي يبدو على استعداد لبذل محاولة أخيرة للتوصل الى تسوية على أساس الدولتين، أي أن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة «قابلة للحياة»، الى جانب دولة أسرائيل. لا مفر من امتلاك الجانب الفلسطيني ما يكفي من الشجاعة لتفويت الفرصة على الأحتلال الأسرائيلي وذلك عن طريق التخلي عن الشعارات البالية وعزل «حماس» في غزة في حال لم تقبل فكرة الانتخابات المبكرة تمهيداً لتشكيل حكومة تضم شخصيات قادرة على التعاطي مع استحقاقات المرحلة المقبلة. في طليعة الاستحقاقات تحرك رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بصفة كونه المبعوث الجديد للجنة الرباعية، والمبادرة الجديدة للرئيس بوش الابن الذي دعا الى مؤتمر دولي في واشنطن بعد أسابيع بهدف تحقيق حلم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. بغض النظر عن رأي الجانب العربي بالرئيس الأميركي الحالي وادارته، لا يمكن في أي شكل تجاهل أن بلير ما كان ليتولى الدور الجديد الذي كلّف به لولا حدّ ادنى من الضمانات الأميركية بأنه سيُسمح له بتحقيق انجاز ما. صحيح أن اللجنة الرباعية لم توافق على توسيع صلاحيات مبعوثها الجديد، على الرغم من أنه رئيس سابق للوزراء وليس مجرد موظف كبير كسلفه جيمس ولفنسون الذي كان رئيساً للبنك الدولي قبل ارساله الى الشرق الأوسط، الاّ أن الصحيح أيضاً أن كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية وقفت شخصياً ومن خلفها بوش الابن وراء تعيين بلير مبعوثاً للجنة الرباعية. وكان ملفتاً تشديد رايس في تصريحاتها الأخيرة على أهمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة معتبرة ذلك أمراً حيوياً. من حسن الحظ أن هناك وعياً لدى الرئاسة الفلسطينية لأهمية الأيام والأسابيع المقبلة ولضرورة أن تكون هناك حكومة متجانسة قادرة على التحرك سياسياً وقادرة على التعاطي مع المستجدات بدل الانشغال بحوار عقيم مع «حماس»، حوار لا أفق له يكرس حال الشلل التي سادت منذ انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة التي انتصرت فيها «حماس». لقد امتلكت الرئاسة الفلسطينية ما يكفي من الجرأة لتسمية الأشياء بأسمائها ولرفض أن تكون أسيرة ما فعلته «حماس» في غزة. هذا شيء مهم. سيكون هناك تحرك فلسطيني في المجال السياسي وسيكون هناك سعي لتشكيل مجلس تشريعي جديد بغض النظر عن رد فعل «حماس». اذا أحبت المشاركة في الانتخابات، فمرحباً بها. واذا أرادت مقاطعة الانتخابات، فمرحباً بمثل هذا الموقف أيضاً. كل ما تستطيع عمله عندئذٍ هو منع الغزاويين من المشاركة. والأكيد أن مجلساً تشريعياً يقتصر على ممثلي الضفة الغربية من دون ممثلين لغزّة، لن يمنع السلطة الوطنية من التفاوض مع اسرائيل من أجل قيام الدولة الفلسطينية. عاجلاً أم آجلاً، ستعود «حماس» الى حضن الشرعية الفلسطينية. المهم الآن عدم السقوط في الفخ الأسرائيلي عن طريق الدخول في متاهات حوار فلسطيني – فلسطيني لا أفق سياسي له. نعم لحوار فلسطيني ما دام الأفق موجوداً وما دامت الأهداف السياسية واضحة. مرة أخرى، وحدها الخيارات السياسية الواضحة المدعومة من المجتمع الدولي، يمكن أن تخرج الفلسطينيين من المأزق الذي وقعت فيه قضيتهم التي كانت الى ما قبل فترة قصيرة قضية العرب الأولى قبل أن يحل مكانها (الاحتقان المذهبي). هذا الاحتقان الذي صار الهم الأول في المنطقة والذي تسببت به السياسة الأميركية في العراق من جهة والتدخل الايراني في هذا البلد العربي سابقاً. من هذا المنطلق، يبدو منطقياً ألا تشعر الرئاسة الفلسطينية العاملة تحت مظلة منظمة التحرير بأن عليها أن تكون أسيرة غزة وما أرتكبته «حماس» في غزة. على العكس من ذلك، يفترض أن تكون الأولوية في هذه المرحلة للمبادرات السياسية المتحررة من شعارات «حماس» ومن عقدة غزة وذلك من أجل فلسطين وقضية فلسطين. في النهاية الى أين ستذهب غزة والى أين يمكن أن تذهب؟ هل يمكن أن تذهب الى غير فلسطين؟ هل صدفة ان اسرائيل لم تعرف كيف تتخلص من القطاع وهمّ القطاع، فنجحت في تحويله الى عبء كبّل السلطة الوطنية والرئاسة طوال سنتين