زائر بيروت هذه الأيام لا بد أن يخضع شاء أم أبى لسجال اللبنانيين المستمر منذ أشهر حول ملفات عديدة من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الوصاية الأجنبية, الحرب الإسرائيلية على لبنان، حرب نهر البارد، العلاقات اللبنانية- السورية... الخ. وبقدر ما تبدو هذه الملفات لبنانية خالصة بنظر اللبنانيين بقدر ما تبدو للناظر إليها من الخارج عربية بمعنى من المعاني مع تغيير في بعض التسميات فالوصاية الأجنبية قد تصح موضوعا للسجال في هذا البلد العربي أو ذاك ومثلها العلاقات الثنائية مع جار عربي قوي أو تحديد العروبة وان كنت أشك بان يتخذ السجال حولها خارج لبنان طابع التراشق الحاقد وأحيانا الشتائم كما هي الحال أحيانا كثيرة في لبنان. أكبر الظن أن هذه الملفات تحتاج إلى نقاش هادئ داخل وخارج لبنان لتحريرها من الأثقال الزائدة التي تراكمت عليها دون سبب وجيه وأضفت عليها تعقيدات كانت بغنى عنها. الوصاية الأجنبية ملف الوصاية الأجنبية يظهر لي أن المعارضة تستخدمه هذه الأيام للرد على اتهامها من طرف التيار الحكومي بالخضوع لما كان يسمى ب " الوصاية السورية" وبالتالي القول أن الوصاية السورية أفضل من الوصاية الأجنبية أو الأمريكية الفرنسية أو للقول أن الذين رفضوا الوصاية السورية بحثاً عن الاستقلال والسيادة والحرية ارتموا بأحضان الأجنبي وأن لا استقلال ولا سيادة ولا حرية إذا كان ساسة الوطن يتلقون تعليمات مباشرة من السفيرين الأمريكي والفرنسي في لبنان، والحق فإن تصريحات السفير الأمريكي في بيروت تصب الماء في طاحونة المعارضين فهو يعرب عن رفضه علناً لمطلب المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية في وقت يعرب رئيسه جورج بوش صراحة عن نيته معاقبة كل رجل سياسي يعارض الحكومة اللبنانية ويقول أن مصير هذه الحكومة يتصل بالأمن القومي الأمريكي. عندما تعتبر الدولة الأقوى في العالم أن حكومة في بلد صغير لا يتعدى سكانه الأربعة ملايين نسمة مصلحة استراتيجية أمريكية، فهي تضع هذه الحكومة في موقع مكشوف يصعب الدفاع عنه وطنياً وديموقراطياً وسيادياً, وبالتالي تزود خصوم الحكومة من غير قصد بحجة وطنية صلبة للتخلص منها وتحين الفرص لإسقاطها بالمقابل ترهن مصير الحكومة نفسها بقرار أمريكي وليس بإرادة لبنانية ديموقراطية. هكذا خرجت حكومة لبنان المتهمة من نصف اللبنانيين بالنقص في شرعيتها خرجت بقرار أمريكي من سياق التداول وصار غيابها أو بقاؤها يحتاج إلى قرار أمريكي. إن لم تكن هذه الحال تعبيرا عن الوصاية الأجنبية فماذا تكون؟ .. وهكذا يبدو أن واشنطن تعمد أحيانا إلى تحطيم حلفائها في معرض الحديث عن انقاذهم. الحرب الإسرائيلية على لبنان يختلف اللبنانيون على وصف الحرب العدوانية الإسرائيلية على بلدهم صيف العام الماضي.. تقول بعض أوساط الحكومة أن الحرب المذكورة هي من صنع المقاومة اللبنانية وتجمع أوساط المعارضة على القول أنها من صنع إسرائيل.السجال لم يتوقف والمرجح انه لن يتوقف لان الأمر يتجاوز حدود الوصف إلى الطعن بنوايا كل طرف والتشكيك بموقفه. المدهش في هذه الحال أن إسرائيل تقر بعدوانها على لبنان وتقول أنه كان معدا منذ زمن طويل وانه كان يحتاج إلى ذريعة فجاءت عملية خطف الجنديين الإسرائيليين كمدخل للحرب بل ذهبت بعض الأوساط الإسرائيلية إلى حد القول أن تل أبيب كانت تنتهز المناسبة لمباغتة المقاومة خلال مهرجان جماهيري ومن ثم الانقضاض عليها عبر حرب جوية طويلة دون ذريعة ولا من يحزنون . رغم أن صاحب الحرب يقول حربه العدوانية صراحة وجهارا دون لبس أو إبهام رغم ذلك يرفض بعض اللبنانيين هذا القول ويصرون على اتهام المقاومة بإشعال الحرب ومن ثم يطالبونها بتسليم سلاحها و بالتنازل عما يسمى ب" قرار الحرب والسلم " في لبنان فهل تملك المقاومة هذا القرار؟.. العارفون بالشؤون العسكرية يعتقدون جازمين أن أحدا في المنطقة لا يملك قرار السلم والحرب غير إسرائيل بوصفها الأقوى عسكرية والأقوى هو الذي يقرر وليس الأضعف. هنا أيضا يستمر السجال حول هذا الملف رغم انتفاء حججه الموجبة. حرب نهر البارد دخلت الحرب في مخيم نهر البارد ساحة السجال اللبناني اللبناني ولم يكن دخولها مفاجئا فلا ملف خارج السجال في بلد مأزوم. مختصر القول أن الفريق الحكومي يعتبر أن الحرب في المخيم من صنع حلفاء المعارضة في سوريا في حين تعتبر المعارضة أن الفريق الحاكم اخطأ التعاون مع جماعة العبسي فانقلبوا عليه فاضطر لتحطيمهم بواسطة الجيش في حرب مستمرة منذ أكثر من شهرين وقد تسببت حتى الآن بتدمير مخيم نهر البارد الفلسطيني في شمال لبنان وسقوط عشرات الضحايا من افراد الجيش وضباطه فضلا عن مصرع القسم الأكبر من عناصر الجماعة المذكورة.. ما لا يريد أحد الاعتراف به في لبنان هو أن جماعة العبسي وغيرها من الجماعات لا يمكن أن تنمو وان تتحول إلى ظاهرة إلا من خلال الانقسام اللبناني وتصدع الوحدة الوطنية قد يتمكن الجيش من الانتصار في حرب نهر البارد لكن ماذا لو اضطر لخوض حروب متعددة من هذا النوع؟ هذا السؤال لا يشغل أحدا في لبنان ولو كان يشغل المعنيين لربما تم التوصل إلى حكومة اتحاد وطني قبل تلك الحرب بزمن طويل. العلاقات السورية- اللبنانية لا بد من الاعتراف بان العلاقات اللبنانية السورية كانت وهي الآن وستظل تطرح مشاكل صعبة على البلدين ما لم يتم البحث عن حلها جذريا عبر الأخذ بعين الاعتبار موجبات الجغرافيا والتاريخ والصراع العربي الإسرائيلي وبغياب حل عقلاني من هذا النوع ستظل العلاقات بين البلدين مصدر قلق للبنان أكثر من سوريا.وتفيد آخر تطورات هذا الملف أن الاستراتيجية الفرنسية التي اعتمدها الرئيس السابق جاك شيراك والتي كانت تقول بإسقاط النظام في دمشق بمساعدة بعض اللبنانيين هذه الاستراتيجية قد وصلت إلى طريق مسدود ما أدى إلى تغيير ملحوظ في السياسة الخارجية الفرنسية مع انتخاب الرئيس نيكولا ساركوزي فتحولت فرنسا من طرف في الأزمة إلى وسيط.. المشكلة المطروحة اليوم أن الذين راهنوا على الدور الفرنسي السابق لا يريدون السير مع السياسة الجديدة في حين يرجح ألا تقبل سوريا بطي الصفحة مع من تعاونوا مع المساعي الأمريكية الفرنسية لإسقاط النظام فيها. هكذا يبدو أن الأجنبي ينتقل بسهولة من موقع الخصم إلى موقع الوسيط ونقبل بانتقاله ونعترف ضمنا بحقه في ذلك بينما نرفض هذا الحق لأبناء جلدتنا ونصر على أن يدفعوا ثمنا باهظا قد يصل إلى وجودهم نفسه, نحن لا نكتفي بهزيمة الخصم بل نطلب رأسه وبالتالي ندفعه دفعا إلى القتال حتى الرمق الأخير.