لدى محاولة التكهن بما يمكن أن يسفر عنه المؤتمر الذي دعا اليه الرئيس بوش الابن لمعالجة النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي في تشرين الثاني- نوفمبر المقبل، تظهر حاجة ملحة إلى الاستفادة من التجارب السابقة. تبدو هذه الحاجة ملحة في حال كانت هناك نية صادقة وحقيقية للتوصل الى تسوية معقولة ومقبولة تضع نهاية للنزاع بدل السقوط في اللعبة الاسرائيلية التقليدية التي اسمها التفاوض من أجل التفاوض... هناك اشارات مشجعة ظهرت بعد اللقاء الأخير بين رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عبّاس (أبو مازن) ووزيرة الخارجية الأميركية «كوندوليزا رايس» في رام الله. قريبون من (أبو مازن) معروفون بحذرهم الشديد حيال كل ما يصدر عن الجانب الاميركي، يتحدثون عن مواقف ايجابية «لرايس» وعلى غير عادته، بدا رئيس السلطة الوطنية في المؤتمر الصحافي المشترك مع رايس مرتاحاً. ولا شك أن الكلام الذي أدلت به وزيرة الخارجية الأميركية، فيما رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية إلى جانبها- يوحي بتغيير طفيف في الموقف الاميركي في اتجاه الاقتراب من الموقف الفلسطيني، فقد تحدثت رايس عن ضرورة أن يبحث المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس الاميركي في قضايا "جوهرية" على طريق "اقامة دولة فلسطينية" فيما لا يزال الاسرائيليون يسعون ألى صيغة لاتفاق تكتفي بالحديث عن العموميات. هل يكفي الاقتراب الأميركي، ولو قليلاً، من الموقف الفلسطيني كي يكون هناك مجال لبعض التفاؤل؟ ربما كان الجواب عن هذا السؤال أن ثمة حاجة إلى اقتراب أميركي أكبر من الموقف الفلسطيني، أي من الفكرة القائلة أن الموضوع لا يتعلق بصياغة اعلان عام للمبادئ بمقدار ما أنه مرتبط بالتوصل ألى أطار محدد للمفاوضات يتضمن مواعيد محددة والدخول في تفاصيل التفاصيل بالنسبة إلى نقاط الخلاف. هذا أمر مهم بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني الذي عانى الكثير من كون اتفاق «أوسلو» ترك نقاط الخلاف الأساسية، أي القدس واللاجئين والحدود النهائية معلقة. وتبين لاحقاً أن «أوسلو» في حاجة إلى سلسلة من الاتفاقات الجديدة وجولات من المفاوضات معروف متى تبدأ وليس معروفاً متى تنتهي. كان اتفاق «أوسلو» الذي وقع في حديقة البيت الأبيض قبل أربعة عشر عاما في غاية الأهمية. لكنه لم يفض إلى النتائج المرجوة نظراً إلى تركه الأمور الأساسية إلى مرحلة لاحقة. ومع الوقت استطاعت الجبهة المتضررة من فكرة السلام التي تضم متطرفين من العرب والأسرائيليين وغير العرب اغراق الأراضي الفلسطينية في الارهاب. جعل ذلك استمرار المفاوضات الفلسطينية – الأسرائيلية مستحيلا. انتصر ارهابي اسرائيلي اسمه «ييغال عمير» قتل «أسحق رابين» في نوفمبر – تشرين الثاني من العام 1995 على اتفاق أوسلو ووضعه في الثلاجة ألى أجل غير مسمّى... وتولى بعد ذلك ارهابيون من مشارب مختلفة استكمال مهمة «ييغال عمير» تمهيدا لوصول «بنيامين نتانياهو» الذي لا يؤمن باتفاق أوسلو، إلى موقع رئيس الوزراء في مايو – أيار من العام 1996م. وتوجت الجبهة الرافضة للسلام سلسلة الانتصارات التي حققتها بوضع «أرييل شارون» ابتداء من العام 2001م نظرية جديدة موضع التنفيذ. تقوم هذه النظرية على أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. وكانت العمليات الانتحارية التي نفذتها "حماس" ومن على شاكلتها خير ظهير لشارون والمطالبين بفرض أمر واقع جديد على الأرض يتمثل ب"الجدار الأمني" الذي لا يزال قيد البناء والذي لا هدف له سوى تكريس الاحتلال لجزء من الضفة العربية بما في ذلك القدس الشريف. يمكن قبل الذهاب إلى المؤتمر الجديد ذي الصيغة الغامضة السعي إلى فهم الأسباب التي أدت إلى فشل أوسلو على الرغم أن في أساسه فكرة سليمة هي الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة اسرائيل. ولكن ما قد يكون أهم من ذلك هو السعي إلى تبيان الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل قمة «كامب ديفيد» التي أنعقدت في يوليو – تموز من العام 2000 وضمت الرئيس كلينتون وياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني،- رحمه الله- «وأيهود باراك» رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك الذي يتولى حقيبة الدفاع في الحكومة الحالية. يمكن تعداد عوامل عدة قادت ألى فشل أوتوماتيكي لقمة كامب ديفيد. يمكن البدء برفض الجانب الاسرائيلي الاعداد الجيد لها وذلك لأسباب لا يعرفها غير «باراك» والفريق المحيط به. وقبل الرئيس كلينتون للأسف الشديد مراعاة رئيس الوزراء الاسرائيلي غير آبه باعتراضات "أبو عمار" الذي سيق به إلى كامب ديفيد سوقاً. وقد شدّد الزعيم الفلسطيني وقتذاك على ضرورة الانتهاء من مفاوضات سرية كانت تدور بين طواقم فلسطينية واسرائيلية بغية التوصل الى تفاهمات في شأن مسائل معقدة قبل عقد قمة على مستوى قمة «كامب ديفيد» لم يكن ياسر عرفات راغبا منذ البداية في التوصل إلى أتفاق في «كامب ديفيد» نظرا إلى أنه كان مقتنعا بأن باراك ينصب له فخّاً وأن الأميركيين غير بعيدين عن الاجواء الاسرائيلية. لذلك كان الزعيم الفلسطيني حذراً كل الوقت ولم يجد فيما عرضه رئيس الوزراء الاسرائيلي ما يمكن أن يدفعه إلى الإقدام على خطوة حاسمة في اتجاه "إنهاء النزاع" وهو ما كان يطالب به باراك. وثمة في صفوف الوفد الفسطيني من يؤكد أن الإسرائيليين لم يعرضوا سوى أفكار عامة في كامب ديفيد وأن ليس صحيحاً أن باراك "عرض القمر" على عرفات. هناك عامل آخر لا يمكن الاستخفاف به أدى إلى فشل قمة كامب دايفيد. يتمثل هذا العامل في ذهاب "أبو عمار" ألى القمة من دون غطاء عربي. وهذا يعني أنه لم يكن في استطاعته أتخاذ قرار نهائي في شأن القدس أو حتى قضية اللاجئين. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى عامل آخر جعل الزعيم الفلسطيني غير مهيء لأي نوع من الحلول الوسط. يعود هذا العامل ألى أن قمة كامب ديفيد لم تنعقد من دون الإعداد الجيد لها وللملفات التي ستبحث فيها فحسب، بل إلى أنها جاءت أيضاً بعد أسابيع قليلة من الأنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تنفيذاً للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1978 وذلك بناء على وعد قطعه باراك لناخبيه والتزم به بعد انتصاره في الانتخابات. ذهب "أبو عمار" إلى كامب ديفيد مقتنعاً بأنه سيكون كافياً مقتل مائة أو مائتين جندي إسرائيلي في الضفة الغربية كي تتكرر تجربة جنوب لبنان غير مدرك أن كلاً من الموضوعين لا علاقة له بالآخر وأن جنوب لبنان شيء وما يسميه الأسرائيليون يهودا والسامرة ويعتبرونه جزءاً من "ارض إسرائيل" شيء آخر. لم يكن الخطأ خطأ عرفات بمقدار ما كان خطأ باراك الذي لم يكن يعي، أو ربما كان يعي جيدًا، أن ما كان مقبولاً فلسطينياً قبل الانسحاب من دون قيد أو شرط من جنوب لبنان، لم يعد مقبولاً، أقلّه في الفترة التي تلي مثل هذا الانسحاب مباشرة. تعتبر كل هذه العوامل مع غيرها دروساً يمكن الاستفادة منها كي لا تتكرر سلسلة الأخطاء التي أدت إلى فشل قمة كامب ديفيد. وإذا وضعنا جانباً قضية المقارنة بين الانسحاب من جنوب لبنان والانسحاب من الضفة وهي مقارنة لم يؤمن بها "أبو مازن" يوماً، لا مفر من تكرار أن الاجتماع المقبل الذي دعا أليه الرئيس الأمريكي لا يمكن أن ينجح من دون الإعداد الجيد له من جهة ومن دون توافر الغطاء العربي للوفد الفلسطيني من جهة أخرى. هذا الغطاء أكثر من ضروري من أجل أن يتمكن الفلسطينيون من اتخاذ قرارات شجاعة بما في ذلك البحث عن صيغة مرنة لموضوع اللاجئين، صيغة تأخذ في الاعتبار أن حق العودة يجب أن يكون مضموناً لكل فلسطيني يرغب في العودة الى الدولة الفلسطينية وأن التوطين غير مقبول لا في لبنان ولا في غير لبنان. كلّ القضايا قابلة للحل والدليل أن الجانبين توصلا إلى حلول تتناول ما يزيد على تسعين في المائة من المسائل الشائكة في المرحلة التي تلت مباشرة فشل قمة كامب دايفيد. وقد جرت آنذاك معظم هذه المفاوضات في طابا. هل في استطاعة الإدارة الامريكية تذكير الجانب الاسرائيلي بأن في الإمكان التوصل إلى حلول وسط والانطلاق منها لتحقيق تسوية شاملة؟ في حال تذكير الاسرائيليين بأن ذلك ممكن، يمكن أن يكون المؤتمر المقبل منطلقاً لمرحلة جديدة تمهد لطي صفحة النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. في غياب أقدام الأمريكيين على مثل هذه الخطوة مستفيدين من دروس الماضي القريب، في الإمكان القول من الآن أن المؤتمرات شيء والحلول شيء آخر. هناك مؤتمرات من أجل القول بأن هناك عملية سلام مستمرة كما هناك مؤتمرات لتحقيق نتائج على الأرض. هناك فرصة لتحقيق مثل هذه النتائج. الكرة في الملعبين الأمريكي أولاً والإسرائيلي ثانياً من دون أدنى شك... شرط الاستفادة من الأسباب التي أدت إلى حال الضياع التي تلت اتفاق أوسلو ومن الشروط التي لم تتوافر لإنجاح قمة كامب ديفيد!