فصلت الحكومة اليابانية خلال شهر نوفمبر الجنرال – لواء – توشيو تاموجامي من الخدمة لأنه اعتبر بلاده ضحية للحرب التي اشتعلت في بداية القرن الماضي ودامت خمس سنوات قبل أن تنتهي بهزيمتها عام 1945 بقنبلتين ذريتين أُلقيتا عليها. أثار الجنرال ضجة بقوله إن بلاده لم تكن الطرف المعتدي التي أودى بمئات الألوف خلال الحرب. وقضية الحرب العالمية مع ملاحمها ومآسيها التي دارت في آسيا وبحارها تثير جدلاً حاداً ومستمراً لأنها ترتبط أصلاً بالاستعمار الياباني في الصين وكوريا كلها قبل تقسيمها واستخدام السلاح النووي الذي كان سبباً في تدمير مدينتين على رؤوس أبنائها – مئات الألوف منهم. وظلت اليابان طيلة ستين عاماً بعد الانتصار الأمريكي محجمة عن الاعتذار عن جرائمها العديدة سيما ضد الشعب الصيني الذي احتلت بلاده وخلقت كياناً تافهاً تحت هيمنتها في منشوريا لولا هزيمتها بعد ذلك. كما استعمرت كوريا ثمانين عاماً وتايوان الحالية. لكنها اضطرت عام 1995 إلى التعبير عن ندمها وبعد عشر سنوات إلى اعتذارها. ومنذ انهزامها واحتلال أمريكا أصبحت دستورياً دولة مسالمة وكانت قد انسحبت من كل الأراضي المحتلة واعتمدت النظام الملكي الدستوري – الملك يحكم ولا يأمر – حتى وإن ظلت القوات الأمريكية مسيطرة على أوكيناوا. وهو ما لم تفعله إسرائيل في البلاد العربية ولم تعلن عن استعدادها للتفاوض تحت إشراف دولي لأن أمريكا التي تؤيدها طبعاً لا تزال تفعل مثلها في اليابان. انشغلت اليابان بإعادة بناء وتأهيل وطنها شعباً وأرضاً وبسرعة مذهلة أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي وأصلحت علاقاتها مع جاراتها وضحاياها خصوصاً الصين وكوريا وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وكل المنطقة الممتدة حتى حدود الهند. ومع ذلك فإن الدول الغربية التي تطالبها بالاعتذار لم تقم بأية خطوة مماثلة إلا منذ أسابيع عندما قبلت إيطاليا مبدأ تعويض مستعمرتها السابقة ليبيا عن استعمارها لها قبل الحرب العالمية الثانية، ورغم أن خمسة مليارات دولار لن تقدم سوى طريق دولي إلا أن مؤشرها كان واضحاً نحو المزيد من التعاون مع ليبيا وربما الاعتذار عن استعمارها للآخرين. والمعروف أن مما يسر ذلك هو هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية أمام القوات البريطانية في شمال أفريقيا، مع أن المنتصرين لم يفعلوا شيئاً من ذلك ولا يبدو أنهم سيقدمون مؤشرات مماثلة لما فعله استعمارهم بالشعوب من الغرب إلى الشرق خصوصاً في آسيا وأفريقيا رغم أن الحملة القائمة بين الحين والآخر لاستخلاص اعتذار غربي شامل عن الرق وتجارته على مدى قرنين ربما تفلح يوماً ما في استخلاص اعتراف بالذنب وبعض المعونات. وستظل العبودية التي مارستها الدول الغربية ومنها الولاياتالمتحدة في القارة السوداء وبواسطتها قتلت وعذبت واستعبدت ملايين البشر خلال رحلات العذاب في المجاهل والغابات ثم إلى السفن المرابطة حيث تم تقييد العبيد ومن مات خلال الرحلة أُلقيت جثته في اليم. وبعد صمت القرون نظراً لفرض الاستعمار على القارة بدأ بعض المفكرين في التعبير عن رغبتهم في مقاضاة حكومات البيض أو التفاوض معها على دفع شيء من التعويض على مدى العقود القادمة، وليس غريباً أننا لم نسمع أصوات زعماء أفارقة من السابقين والحاليين تؤيد ذلك المطلب العادل لأن بعضهم على الأقل قد اكتفى بما نهبه من خيرات الشعوب من جهة، ومن رشاوي الشركات الغربية العاملة في مناجم الذهب والألماس والأراضي الزراعية بما لديها من أقطان وكاكاو وغيرها من السلع النقدية. وأخشى أن الدول الغربية لن تستجيب في المستقبل المنظور خصوصاً إثر الأزمة المالية الكبيرة التي نشهدها حالياً، ومع ذلك يجب أن يواصل الأفارقة مطالبتهم بتعويضات عما حدث ولا يزال يحدث. ورغم التعبير الياباني عن الأسى فإن الغزو والاحتلال في الثلاثينيات وحتى نهاية الحرب العالمية عام 1945 لن يمحو الألم الشديد في نفوس الصينيين من آثاره وقد ساعدها في ذلك العديد من الكتب والأفلام التي سجلت فظائع الجريمة. ومن تلك ما جرى في مدينة نانكنج وكنت قد قرأت كتاباً بعنوان "اغتصاب نانكنج" في مكتبة والدي رحمه الله وأنا في ثانوية كلية عدن ظل عالقاً في ذاكرتي حتى اليوم خصوصاً بعدما شاهدت أكثر من تسجيل حي عن المذابح التي دامت عدة أيام راح ضحيتها بدون مبالغة مئات الألوف من الأبرياء. تلك السجلات لن تجعل الصين تغفر لليابان مساوئها، ولا يمكن لشعب مسحوق كما كانت الصين قبل سبعين عاماً أن يتظاهر بالنسيان كما أن العرب لا يمكنهم التظاهر بأن الصهيونية لم تكن عاقدة النية على إبادة العرب كما يدل على ذلك حصارها للشعب العربي في قطاع غزة وانتزاعها للثروات المتواضعة أصلاً في باطن الأرض من مياه وعلى سطحها من الزيتون والبرتقال. كان للولايات المتحدة وروسيا الفضل الأكبر في تحرير الصين وتسليحها حتى استطاعت النهوض من كبوتها وبناء قوة كبرى عسكرياً واقتصادياً، وكان بإمكانها تحقيق نجاحات أكبر إلا أنها فضلت الاعتدال بين الرأسمالية المنفلتة والماركسية المطلقة كما أثبتت الأزمة المالية العالمية، واستطاعت الصين جمع تريليونين من الدولارات في خزائن الاحتياطي. ومع كل ذلك فإن هناك تياراً وطنياً محافظاً في اليابان لا يزال يؤمن، وهو يتداول الفكر المتخلف جيلاً بعد جيل، بأن اليابان لم تكن الطرف المعتدي في ذلك الخضم بل الضحية, "وشر البلية ما يضحك" وإلا من الذي احتل الصين وأنشأ مملكة عميلة اسمها منشوكو (في منشوريا) وقتل فيها أعداداً من الناس تكفي لملء إحدى الدول الصغيرة في آسيا ومنها الشرق الأوسط. وسيأتي صهاينة وأمريكيون من أقصى اليمين ليقولوا للعالم عبر نشراتهم وأفلامهم بأنهم كانوا في الحقيقة ضحايا الفلسطينيين وعلينا تسديد فواتير مظالمنا ضدهم.