في نهاية القرن التاسع عشر اجتمعت عدة دول أوروبية للتفاهم حول اقتسام أفريقيا سلمياً فيما بينها لتفادي نشوب حروب حول الغنائم المتوقعة. بريطانيا وفرنسا وهولندا كانت قد احتلت واستعمرت عدة دول وشعوب في آسيا. بريطانيا سيطرت على كل شبه القارة المعروفة حالياً الهند وباكستان وبنجلاديش وسري لانكا والدول القابعة في جبال الهملايا من حيث تتدفق بعض أهم أنهار المنطقة. وأضافت إليها مناطق أخرى من هناك، وعبر ماليزيا حتى هونج كونج. فرنسا احتلت كل ما سمي بالهند الصينية، وهولندا استبدت من قبل ذلك بالغنيمة الكبرى إندونيسيا. ولما تكالبت الدول الأخرى على الشعوب المنكوبة عقد الجميع مؤتمر باريس واتفقوا على إجراء قسمة “عادلة” وراحوا ينهبون القارة الأفريقية بصورة لم يكن لها مثيل من قبل ولكن قد يكون لها ما يشابهها في المستقبل القريب، وهو شراء بعض الدول التي تفتقر إلى الأراضي الصالحة للزراعة والمياه الغزيرة، وحاجة دول أخرى تمتلك الثروتين وتعجز عن استثمارهما. بدأت الحكاية التي سميت بالاندفاع الأوروبي الثاني بفكرة استحواذ واستئجار دولة غنية مثل كوريا الجنوبية على أراض واسعة تقدر بمليون هكتار أو مليوني ونصف مليون فدان في جزيرة مدغشقر الواقعة في المحيط الهندي المواجهة لموزامبيق على أن تقوم كوريا باستصلاحها وزراعتها والاستفادة من محاصيلها التي قد تعادل خمسة ملايين طن من الذرة بحلول عام ألفين وثلاثة وعشرين، وإنتاج كمية كبيرة من زيت النخيل باستخدام عمال مدربين من جنوب أفريقيا القريبة نسبياً، هذا إذا ما سارت المفاوضات على ما يرام، كوريا لديها المال الوفير وبحاجة إلى الذُرة والزيت بكلفة معقولة ومدغشقر تفتقر المال والخبرة وتود الاستفادة من الاستثمار وطبعاً لديها مساحات واسعة من الأرض وكميات كافية من المياه. مدغشقر جزيرة ضخمة تتميز بالمجاهل والغابات بعضها لم يدخلها بشر حتى الآن. وهي رابع أكبر جزيرة حجماً في العالم ولديها حوالي 15 مليون نسمة وكانت ذاتها مستعمرة فرنسية استقلت عام 1960م، وتضم أندر النباتات والمخلوقات منها المهددة بالانقراض كأصغر قرد في الوجود، وكان يمنيون يهاجرون إليها حيث استقروا ونالوا الجنسية الفرنسية ولعلهم هاجروا بعد الاستقلال إلى فرنسا أو جزر القمر. وليست كوريا الجنوبية وحدها في هذا الاندفاع الجديد إذ معها عدد متزايد من الدول الثرية التي تطمع في أراضي الآخرين كهدف استثماري، وليس كمقصد استعماري مع أن خروجهم بعد عقود لن يكون بسهولة دخولهم كما شاهدنا وعاصرنا الاندفاع الغربي لاستثمار الثروات النفطية عندنا وعند غيرنا، ولما حاول وهدد الرئيس الإيراني الراحل محمد مصدق التحكم في ثروة وطنه أسقطوه بمؤامرة ومظاهرات مدفوعة الثمن، والقصة متوافرة في عدة كتب منها “لعبة الأمم” المعروفة. حالياً تفاوض شركة عربية حكومة إندونيسيا على الاستحواذ على أراض واسعة جداً لزراعة الأرز البسمتي الذائع الصيت لجودته. وفي الوقت نفسه اشترت أبوظبي عشرات الألوف من الهكتارات في باكستان والسودان وكازاخستان لضمان مصدر وفير ومنتظم من المواد الغذائية. وليست الدول العربية الغنية الوحيدة في هذا الاندفاع الجديد، بل أن الصين التي تعادل قارة في مساحتها تسعى لضمان أراض زراعية ومشبعة بالمياه في جنوب شرق آسيا لأنها بدأت تفتقر إلى المياه في بلادها نظراً لزيادة الاستهلاك في ظل النهضة الصناعية الكبيرة وحالات الجفاف الضارب أطنابه في بعض أجزائها. وقد حققت بعض النجاح في لاوس المجاورة لها ولفيتنام إذ انها أجرت بين مليونين وثلاثة ملايين هكتار أو ما يعادل 15 في المائة من مواردها الزراعية أو الأراضي الصالحة للزراعة للصين. وتحاول الكويت وقطر تأمين أراض في كمبوديا المجاورة. وتسعى ليبيا ومصر إلى استئجار أراض في أوكرانيا الأوروبية، كما تجاهد السودان وأثيوبيا إلى اجتذاب مستأجرين لأراضيها، وليس في كل ذلك ما يشين فنحن نبيع النفط ونشتري الحبوب والملابس والعصائر والأخشاب والحديد بل أن كافة أراضينا الغنية بالنفط شبه مؤجرة للشركات الأجنبية، وهناك مؤسسات أجنبية ظلت زمناً تعرض علينا بيع مياه صالحة للشرب محملة على ناقلات النفط التي تحمل ثرواتنا المباعة لها. وبدلاً من العودة إلينا فارغة ستملأ خزاناتها بعد تنظيفها وتعقيمها بالماء الزلال ليصب في بلادنا بأسعار متهاودة، وكانت هناك فكرة قديمة لم تنفذ تقوم بموجبها العراق ببيع مياه من شط العرب للكويت المتاخمة لها. وإلى الآن تصدر بعض الدول الأوروبية الكهرباء إلى دول مجاورة كما تحاول دولة نيبال إقناع الهند بتصديرها إليها، وكندا فعلاً تصدرها لمناطق أمريكية قريبة منها. لكن خبراء غربيين يحذرون من العواقب السيئة التي سيعانيها فقراء المزارعين في الدول التي ستؤجر أراضيها الزراعية لمستأجرين أثرياء لأنهم لن يتمكنوا من المنافسة على أرض هي ملك لهم في الأصل امتنعت حكوماتهم عن استصلاحها حتى وجدت من سيدفع أكثر. وفي هذا الصدد يقول دنكان جرين من مركز أبحاث أوكسفام البريطاني الشهير بتقديم المعونات وصنوف النجدة في العالم الثالث أنه يخشى على صغار المزارعين من عواقب الاندفاع القادم، ويؤيده في ذلك ألكس ايفانز من جامعة نيويورك بقوله أن صغار المزارعين قد بدأوا يعانون بالفعل إذا لم تحرص الحكومات على حماية وضمان حقوقهم وإلا تحول الاندفاع إلى ما هو أسوأ رغم حسن نية المشتري أو المستأجر. ماذا عن البلاد العربية؟ من غير المحتمل أن يأتيها مستثمرون لزراعتها لأنها لا تمتلك الأراضي الكافية ولا المياه اللازمة لاستصلاح وري ملايين الأفدنة، وإذا كانت الجمهورية اليمنية أو العربية السعيدة سابقاً لغزارة مياهها قد أضحت من أفقر البلدان بسبب التغيرات المناخية وتزايد الاستهلاك الآدمي واستنزاف القات للمياه إلى أعلى نسبة في تاريخها، فإن البلدان الأخرى تجد نفسها في أوضاع مروعة ستدفعها آجلاً أم عاجلاً إلى الاستثمار في تحلية مياه بحارها بإنفاق نسبة عالية من مداخيل النفط.