لأول مرة أشعر أن الدم يتجمد في عروقي، وأعجز عن تمييز ما كان موجوداً أمامي ومن حولي , ولأول مرة وأنا أعمل في «26سبتمبرنت» مصدر إعلان خبر الوفاة عبر الهواتف الجوالة أشكك في ما أرسل وأقوم بالاتصال بأكثر من زميل آملاً في تخطئة تلك الرسالة وسماع من يقول لي بأن خالد عنتر ما يزال حياً يرزق .. لكن كل ذلك بعد فوات الأوان لأن " خالد " كان قد رحل بالفعل ولم يكن أمام جسده سوى ساعات فقط للرحيل والى الأبد مخلفاً وراءه أسرة كبيرة بينهم ثلاثة أطفال صغار كان يعاملهم كأخ أكبر، ودائما ما كان يتحدث عنهم وبشدة تعلقه بهم .. " خالد عنتر " الذي جعل من نفسه " عنتراً للصدق والصراحة والجرأة والشجاعة والمواجهة والمجابهة أحياناً والعناد أحياناً " .. حياته كلها كانت مفاجآت , منها ما كان يفاجئه ويقلقه أو يفرحه ومنها ما كان يفاجئ به غيره , ومثلما كانت حياته كذلك كان موته مفاجئاً له ولنا. خالد الأخ والصديق , المكابر الذي لايمانه بمبدأ مع امتلاكه الحجة لم يكن يهمه في سبيل ذلك خسارة أي شيء وأحيانا قد يخسر كل شيء مادام مؤمناً بأنه على حق .. كنا نختلف كثيرا لكنا كنا نتفق أكثر حول أغلب الأمور , وإن أراد أي من الزملاء في صحيفة 26سبتمبر أن يشكوني فلم يكن يسأل عن " ولي أمري " بل يذهب إلى خالد عنتر ويقول :" شوف صاحبك " أو انصح صاحبك " ومن كان يريد أن يشكو " خالد " كان يأتي إلي ويقول " شوف صاحبك " , واليوم إلى من سيشكوني الشاكي أو يشكوه . لقد كان الأشجع فينا والوحيد الذي يقول ما يجبن الكل عن قوله , وكان الصريح بيننا وان كانت صراحته تغضب البعض لكنهم في نهاية الأمر يجمعون على صواب ما قال وكيف تصرف بدافع حسن النية ولهدف نبيل. قبل ساعات من وفاته اتصل به أحد الزملاء فأخذ يعاتبه لأن البعض ممن شغلتهم أمور العيد والسفر لم يتصلوا به كما هي عادتهم للتهنئة بعيد الأضحى , فانعدم لدى الزميل المبرر , وماهي إلا ساعة أو ربما دقائق حتى جاؤوه جميعاً ولكن ليس للتهنئة بالعيد بل لإلقاء النظرة الأخيرة والوداع الأخير , وربما أنها كانت آخر أمنية له سماع أصوات من شغلوا عنه بظروفهم أو اجبروا على أن يكونوا مشغولين عنه , فاعتقد أنهم جفوه أو تناسوه , فإذا ما شدهم من رقابهم خبر موته إليه أعرض عنهم جميعاً لأنه كان قد انتقل إلى عالم آخر غير عالمهم . في عام 98م كنا " كاتب هذا وخالد عنتر ، ونديم الجمالي، وعبدالحكيم طاهر، وخالد الأشموري " قد ابتعثنا للدراسة في سوريا دورة في الصحافة العسكرية , وكانت الدورة المقررة ثلاثة أشهر فقط , غير أننا بعد الخضوع لاختبار قررت الكلية إلحاقنا بدورة لمدة تسعة أشهر ندرس خلالها تسع مواد أغلبها نظري , وكان المحاضر يدخل القاعة وهناك من يغرس أذنه في جدارها لسماع ما سيقوله المحاضر وما سنقوله , ومعرفة ما إذا كان قد خرج عن نص المحاضرة إلى أمور سياسية , لكن خالد عنتر الذي كان مسئولاً عنا كيمنيين " دارسين" كان يوقع بنقاشاته أكثر المحاضرين حرصا وتحفظا بل " وخوفاً" , في قضايا سياسية خطيرة لايسلم من انتقاده وتهكمه حتى نظام الحكم السوري نفسه ولايوقف ذلك النقاش سوى صحوة المحاضر بأنه قد دخل في المحظور , وأن الأذن " المخبرة " قد تضبطه متلبساً بالحديث عن الرئيس الراحل حافظ الأسد أو عن نظام حكمه أو الحديث عن الوضع العام في سوريا آنذاك . وأذكر ذات مرة أن الثلوج المتساقطة على دمشق حولتنا إلى خمس دجاجات مثلجة ولم يكفنا ارتداء ثلاثة أزواج " جوارب " ولا الملابس العسكرية الثقيلة التي ارتديناها فوق ملابس مدنية فقمنا إلى خالد نستشيره في توفر عذر من السماء لبقائنا داخل الشقة، في ذلك اليوم وقلنا فليسجلونا غائبين أفضل من أن يسجلونا متوفين إذا ماغادرنا الشقة , ولما كان قبل الظهر , ونحن غير مدركين مافعلناه إذا ب" ضابط سوري كبير " ومعه آخر يدقان باب الشقة متسائلين عن سبب تغيبنا عن الكلية , فشرح لهم " خالد " رحمه الله محاولاً اقناعهما وتفهم عذرنا لكنهما أخبرانا بأن غيابنا قد رفع إلى وزارة الدفاع السورية والكلية والى الملحقية العسكرية اليمنية في سفارة بلادنا بدمشق , فإذا بخالد يقول : " لوزد غبنا يومين اعتقد ان حافظ الأسد بكله كان سيخرج بحثا عنا " فتوجهنا إلى الكلية وتعهدنا بعدم الغياب إلا بعد إبلاغ مسؤوليها وبعذر مقبول غير عذر " الثلوج" وختاماً لقد رحل خالد , لكن هناك أشياء كثيرة بقيت من خالد : كان يحلم بحياة أفضل للصحفيين في اليمن , وكان صاحب مشروع لتخليصهم من الجبن والخوف والتهيب والتردد , وكان إلى جانب عمله الصحفي والكتابي ميالا إلى كتابة الشعر والرواية وأعتقد أنه قد أنجز منه الكثير قبل وفاته , وأظنه كان يتمنى أن يكون لكل صحفي في اليمن بيت يؤويه من التشرد والضياع وبيوت الإيجار , كما أظنه كان يحلم مثلما نحن نحلم أن لايبقى الصحفي في بلادنا " دوشان " من الدرجة الثانية أو الثالثة, وأن يكون هناك إيمان برسالته وأن يتعامل معه الجميع وفي مقدمتهم الوسط الصحفي نفسه كانسان بشري وليس «إنسان آلي» لأنه أكثر من يتألم ويتأثر بكل شيء من حوله ويتوجع وقد ينهار أو يسقط في أية لحظة غير مأسوف عليه مادام في مواجهة مستمرة مع الأمواج العاتية وفي مقدمتها ظروف الحياة وطلباتها القاسية والصعبة .. خالد كان يحلم بأمور كثيرة لتتحقق , وربما قد لاتتحقق أبدا لأن صاحب تلك الأحلام والأماني قد وقف قلبه فجأة وذهبت معه أحلامه فجأة، ورحل عنا فجأة! فكان بحق رجل المفاجآت وهو قبل ذلك كان قد فاجأ الجميع بالعمل في الصحافة وهو ضابط تخرج من الكلية الحربية لاعلاقة لتخصصه بالصحافة ولا بالإعلام , ثم فاجأهم ثانية حين تميز وأبدع وتفوق حتى على نفسه في كثير من كتاباته وموضوعاته الصحفية المنشورة في صحيفة "26سبتمبر" إلى حد أنك وأنت تقرأها ستكتشف الإبداع الصحفي النادر فيها رحم الله " خالد" , وليساعدنا الله في امتلاك ولو بعض ما كان لديه من شجاعة وصراحة وجرأة لنقول له ولو بعد فوات الأوان :" قصرنا معك كثيراً ... كثيراً .. كثيراً " وخيبنا ظنك فينا.. فسامحنا.