تفيد الانباء الواردة من إسرائيل أن الرأي العام يقف خلف الحرب الوحشية على غزة بنسبة تفوق ال 80 بالمئة وذلك رغم الصور المذهلة التي تبثها الفضائيات العربية والاجنبية عن القتل العشوائي للنساء والاطفال والمدنيين في احياء ومناطق غزة المختلفة. واذا ما اخذنا بالتفسير الذي يقول ان التأييد الشعبي الاسرائيلي يحمل الجيش الصهيوني على اطالة امد الحرب فهذا يعني ان الاسرائيليين عموما يحبذون المذبحة الدائرة في القطاع الفلسطيني معتبرين ان حرب غزة هي "حرب وجودية" ككل حروب اسرائيل ضد العرب والفلسطينيين. والثابت ان هذا التفسير للحرب ليس قاصرا على العامة في الدولة العبرية فهو من اثر نخبة النخبة كما سنلاحظ للتو في تصور المؤرخ اليهودي بني موريس استاذ الشرق الاوسط في جامعة بن غوريون في تل ابيب الذي اعتبر في احدى مقابلاته عام 2004 ان "العرب برابرة العصر" وان الديموقراطية الامريكية ما كان يمكن ان تقوم الا على ابادة الهنود الحمر وان دافيد بن غوريون ارتكب خطأ تاريخيا عندما ارتضى بقاء جزء من عرب فلسطين في ارضهم التاريخية. اما نحن واما هم!! هذا ما يمكن استخلاصه من مقال نشره المؤرخ اليهودي في جريدة "نيويورك تايمز" وذلك بعد مضي اسبوعين على الحرب الصهيونية على غزة.ليس المؤرخ المذكور عضوا في حزب يميني "متطرف" في الدولة العبرية فهو كان حتى عهد قريب مندرجا في خانة ما يسمى ب" المؤرخين الجدد" الذين فتحوا عددا من الصفحات التاريخية العبرية المظلمة فاستدرجوا مديحا طافحا من مثقفين عرب راهنوا( ويراهنوان بعد ؟) على "سلام" بتنازلات عربية متناسبة مع الشروط الاسرائيلية. واستدرج بني موريس وزملاؤه مديحا مماثلا في اوساط ثقافية غربية واسعة قبل أن يعود ادراجه سريعا إلى المربع الصهيوني الاول على اثر الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 ويستقر حيث هو الان بعد حرب تموز يوليو عام 2006 الاسرائيلية على لبنان. ومن غير المستبعد ان يعتذر ثانية وثالثة عن الصفحات التي فتحها ولعله لا يحتاج الى ذلك طالما انه لا يفوت فرصة ليعبر عن تماثله مع السيرة السياسية الصهيونية التقليدية حول العرب عموما والفلسطينيين خصوصا. في مقاله المذكور يذكر بني موريس ما يسميه " التهديدات الوجودية" التي تعترض اسرائيل وهي التالية:1 تبرم الرأي العام والحكومات الغربية جراء السياسات الاسرائيلية تجاه العرب والفلسطينيين( المقصود مصادرة الاراضي وبناء المستوطنات وانتهاك الحقوق .. الخ) 2 تراجع مستوى الانشغال الغربي بالمحرقة.3 حصول العرب على المزيد من النفوذ في الغرب. 4 نهوض المقاومة اللبنانية وتسلحها بصواريخ بعيدة المدى وهي تدعو لزوال اسرائيل.5 تسلح حماس ومقاومتها في قطاع غزة وهي تسعى لتحرير كامل فلسطين 6 النمو الديموغرافي العربي في فلسطين التاريخية معطوفا على التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية.7 المشروع النووي الايراني وتصريحات احمدي نجاد حول نهاية الكيان الصهيوني. تفسر هذه "التهديدات" المزعومة الحرب على غزة وهي لاتختلف عن التفسير الاسرائيلي التقليدي لكل الحروب التي شنتها تل ابيب ضد الفلسطينيين او الدول العربية ما يعني ان المؤرخ كما السياسي والعسكري الاسرائيلي يعتبرالفلسطينيين والعرب مصدر تهديد وجودي لاسرائيل ان هم تناسلوا او تمسكوا بأرضهم وبشعورهم الوطني أو أزدادوا نفوذا في الغرب او دافعوا عن أنفسهم ضد الاحتلال او امتلكوا تكنولوجيا نووية. ولعل الجديد في هذا الهراء الوجودي ما يتعلق بتراجع الاهتمام الغربي ب "المحرقة" او الضغط الغربي المحدود كي تحترم إسرائيل القانون الدولي والمواثيق المتعلقة بحقوق الانسان وانهاء الاحتلال ووضع حد للاستيطان. بكلام آخر حتى لا تشعر إسرائيل بتهديد وجودي فإن على العرب والفلسطينيين أن يضبطوا نموهم الديموغرافي عند الحد الذي يرضي اسرائيل وأن يفقدوا شعورهم الوطني وان يقبلوا بمصادرة أراضيهم وأن يكفوا عن طلب النفوذ في الغرب وأن يمتنعوا عن امتلاك الكنولوجيا النووية ولو أردنا السير في هذا المنطق حتى نهايته فلربما يطلب بني موريس من العرب ان يحملوا الغرب على رفع مستوى الاهتمام ب "المحرقة" ويغضوا الطرف عن انتهاك اسرائيل للقوانين الدولية وحقوق الانسان . إن التهديدات الوجودية لاسرائيل كما يراها بني موريس ما هي الا عناصر اولية في التعبير عن الوجود العربي الطبيعي فأن يحمل الفلسطيني شعورا وطنيا وان يدافع عن ارض يعيش عليها هو الشرط الاول لوجوده في عالم تنتظمه الوطنيات والدولة الامة.وان يكتسب العرب نفوذا في الغرب على تواضعه وعلى قصوره فهو أضعف الايمان في عالم تحكمه قوانين الغرب وتديره سياسات الغرب وبالتالي من الصعب على العرب ان يحافظوا على وجودهم كما يحلو لهم دون ان يحملوا الغرب على توفير الحد الادنى من الاحترام لمطالبهم. أما ان يكف الغرب عن الانبهار بما يسميه المثقف اليهودي "فنكلشتاين" صناعة الهولوكوست" فذلك حق من حقوقه الاساسية وان يرفض بعض الغربيين انتهاك اسرائيل الثابت للقانون الدولي فهو اقل القليل عندما يصر الغرب على خضوع العالم لهذا القانون. خلاصة القول ان اسرائيل تريد قبل حرب غزة وربما بعدها ان يكون وجودها في المنطقة مشروطا بلا وجود العرب وايران وبحضن عاطفي غربي رفيع المستوى وبالتحرر من كل قيد قانوني دولي. بعبارة اخرى تريد اسرائيل عربا وفلسطينيين خاضعين تافهين لاقيمة لهم ولا نفوذ كي تضمن وجودها وتطمئن مستوطنيها وهي تقول للعرب صراحة إن وجودكم على هذه الارض مشروط بضعفكم و تخلفكم وخضوعكم وانخفاض نسلكم والا فالحرب والابادة لكم. في معادلة اما نحن واما هم!! تحمل إسرائيل قصدا او عفوا لافرق العرب والفلسطينيين على التعاطي معها بوصفها تهديدا مصيريا يتوجب دفعه بكافة الوسائل في معركة مستمرة عنوانها البقاء على هذه الارض بشروط عربية وفلسطينية ولعل حرب لبنان عام 2006 وحرب غزة اليوم تبين للوحوش الصهاينة ان العرب الذين يجابهونها على خطوط القتال محكومون بهم وجودي وبعقيدة وجودية لاتفيد معها اسلحة الدمار الجزئي والشامل على حد سواء. في هذه المعركة التي يرونها وجودية تحت شعار "اما نحن واما هم" لا مجال للاختيار..سنكون "نحن" كما كنا عبر تاريخنا الطويل أمة تعيش بشروطها ومن لا يصدق فليتأمل في مصير الغزاة الذين اجتاحوا اراضينا من الصليبيين والمغول والامبراطوريات الاستعمارية وسائر المعتدين في العصور الحديثة.