يبدو أن منظمي مهرجانات ما يسمى بالتسامح والتصالح لم ينجحوا في التسامح والتصالح ولهذا عادوا هذا العام إلى تجديد المحاولة.. فلو كان التصالح قد أنجز فيما بينهم وتصافت نفوسهم وصفّيت من الخبَث والخُبث ولم يعد فيها مخفي ولا متوارٍ لما احتاجوا إلى عام ثان وربما ثالث ورابع وعاشر.. فعندما يتسامح الأفراد وتتصالح الجماعات بعد الخصام فإن كل ما يتعلق بما قبل التلاقي والصلح يقف عند لحظة الاتفاق على طي الماضي.. وعندما يتسامح الناس ينسون ما فات ولا يعودون لذكره ويمارسون حياتهم بشكل سوي وباستفادة من تلك التجربة تنعكس في سلوكياتهم وحينما يجتمع تصالح وتسامح فهذا يعني إغلاق بوابات ما غَبَر بمره وحلوه.. حتى أن المتصالحين يعزفون بعد اتفاقهم عن الحديث بل الإشارة إلى فعل من أفعال حقبة ما قبل الصلح حفاظاً على أجواء السكينة وعلى مشاعر الطرفين المتصالحين اللذين قدما تنازلات متبادلة أفضت إلى الصلح وزادت فوقه العفو.. وهذا شأن التصالح الطبيعي.. لكن حالة البعض تشذ عن هذه المسيرة البديهية.. فيتدافع للعام الثاني إلى الشوارع والساحات تحت دعوى الاحتفال بما أسموه ذكرى التصالح والتسامح .. وكنا نعتقد أنهم قبل عام قد اصطلحوا وانتهى الأمر لكن يبدو أنهم "خدعوها بقولهم حسناء" وأصبح للصلح ذكرى سنوية تستجر الماضي المفترض نسيانه.. فهل كان خصامهم الماضي قبل الاتفاق شنيعاً ووحشياً إلى درجة أن ضمائرهم لا تزال تعذبهم فوجدوا في الاحتفال السنوي إراحة لها؟!!. إذا كان الأمر كذلك فإنهم قد دخلوا التاريخ والتحقوا بقائمة العظماء أصحاب الفضل في العفو.. بل وسجلوا أول حادثة تصالح في التاريخ يحتفل بها سنوياً.. ولكن.. وسأبقى قليلاً مع لكن هذه .. لكن لم نر سرادق احتفالية تقرأ فيها آيات من كتاب الله على أرواح من سقطوا في حرب 1986م التي يحركون اليوم طواحين الهواء عليها وباستخدام وقود قيمة التسامح والتصالح وباستخدام نظريتهم القديمة.. إكذب ثم إكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.. كيف يمكن لأي عاقل أن يسمي التجمعات الرافعة للافتات وشعارات ذات طابع سياسي وتردد عبارات ليس لها علاقة بالصلح والعفو.. كيف يمكن أن يسمي ذلك احتفالاً؟!. وكيف يمكن أن يكون ذلك احتفالاً يرتدي بزة التسامح فيما خطاباته وكلماته لا تدعو إلى سبيل الرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة..؟!! أليس المنطقي أن يكون الاحتفال بتحقيق قيمة أخلاقية عظمية مثل العفو يترجم قيماً أخلاقية أخرى مثل الانضباط واحترام الغير والابتعاد عن كيل السباب والاتهام للغير على الأقل في هذه اللحظة.. لحظة الاحتفال؟ أليس المفترض أن تأتي خطبهم على ذكر ما تحقق في مسيرة التسامح والتصالح خلال الفترة الماضية؟ فالاحتفال السنوي يعني احتفالاً بتحقيق انجازات لها علاقة بالذكرى المحتفى بها.. لكن.. لكن.. لم تقل الكلمات أن ذكراهم الثانية أو بالأصح غيبوبتهم الثانية والمتواصلة تجيء وقد أتعب قيادات التسامح والتصالح أنفسهم قليلاً بالمرور على كل بيت فقد معيله وكل بيت ترملت ربته وكل بيت تيتم صغاره بسبب أحداث 13 يناير 1986م والتي يجلسون اليوم يحتسون التسامح على ذكراها وفي صحتك يا رفيق .. هذا إذا التمسنا لهم الأعذار بأن الوقت لم يسعفهم قبل إعلان ذكرى التسامح والتصالح بأن يفعلوا ذلك أولاً ويعتذرون مباشرة إلى المجني عليهم أو أبنائهم وذويهم ويطلبون العفو منهم الذي إذا صدر كان إنجازهم الفعلي والتاريخي.. وهم لم يفعلوا ذلك بتاتاً.. لم تقل خطبهم الرنانة أن لجان التسامح والتصالح خاصتهم قد استباحت السهر ورفضت النوم وتحركت ليل نهار للبحث عن من لا يزال اليوم مجهول المصير فلا هو حي يعرف أهله مكانه ولا هو ميت معلوم قبره.. وهو ما يعني في لغة المتسامحين احتراماً لذاك الغائب المفقود وتقديراً لمن لا تزال قلوبهم مشغولة عليهم مشغوفة بهم من أهاليهم واحبتهم.. وهؤلاء هم أصحاب الحق والطرف الرئيسي في مسألة العفو.. يا جماعة.. لم تسجل الكاميرات أي زيارة قام بها هؤلاء الرافعون لأخلاقيات التسامح والتصالح على أسنة ذكراهم الثانية لقبور ضحايا حرب 1986م وأحداثها.. لم تسجل زيارة من أي نوع لا لقبور فردية ولا لقبور جماعية .. لا لقراءة الفاتحة ولا لوضع زهور فوق قبورهم وأجزم حتى أنهم لم يفكروا في إقامة ضريح للضحايا المعلومين والمجهولين وبحيث يذهبون إليه في كل عام وبهذا يلتفون على إفراد كل ضحية في قبره بزيارة خاصة.. أجزم أيضاً أن معظم ضحايا تلك الواقعة بلا قبور. في اعتقادي أن هذه هي المظاهر الحقيقية التي تعبر عن الاحتفال بذكرى تحقيق خصلتي التسامح والعفو، وبها لا سواها يظهر الندم الحقيقي على أخطاء الماضي وجرائمه.. وبها لا سواها يتجلى الاحترام لآدمية من مضوا من الضحايا الذين لم تكن لهم لا ناقة ولا جمل، وكذلك احترام لآدمية ذويهم.. لقد اغفلوا هذه اللمسات اللازمة فهم إما غير مدركين لقيمتها المعنوية وضرورتها الأخلاقية أو أنهم يدركون أن تأديتها خوض في تفاصيل الجروح والمساءلات التي إذا بدأت لن تنتهي خاصة وأنهم لا يجيدون الاعتذار إلا لأنفسهم وللجاني أكثر من المجني عليه.. احتفالاتهم لم تكن سوى تسخين سياسي يخلط البر بالشعير والحابل بالنابل ويجمع بين الاقتباس من المتصفوين تسامحهم ومن الديمقراطيين لافتاتهم وشعاراتهم وبين الباحثين عن تحقيق ذاتهم الخاصة بالرقص فوق قيم جميلة ورائعة مثل التسامح والتصالح.. إنهم يخرجون بموضة تسامح حديثة ذات قصة شعر خاصة تلغي علم الدولة وترفع أعلاماً تشطيرية ... فبالله.. هل هذا تسامح وتعبير عن صفاء النفوس التي يصدر عنها؟ أم أنه فوهة مدفع واستغلال قبيح لقيمة رفيعة لا يكرهها أحد ولا يبغضها إلا منافق إذا ما تحققت بإخلاص وصدق نية؟. نريد تصالحاً وتسامحاً إنسانياً أولاً.. ثم تصالحاً سياسياً شاملاً وجامعاً بين كل المختلف.. أما الاجتزاء فإنه إغراق في الكذب ليس بعد إشعار آخر.