ربما كانت العبارة الوحيدة المفيدة في شهادة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير امام لجنة التحقيق الخاصة بالحرب على العراق، تلك التي يكشف فيها ان المطلوب اميركيا في العام 2003 كان التخلص من نظام صدّام حسين- البعثي، كل ما فعله بلير، في حال كان لا بدّ من تلخيص شهادته امام اللجنة، انه "اقتنع" بوجهة نظر الأميركيين وانصاع عمليا لرغبتهم القائلة بأن المبررات لشن الحرب ليست مهمة ما دام الهدف محدداً سلفاً. كان هناك بالفعل ما يبرر التخلص من نظام ادخل العراق في ثلاث حروب مدمرة، الأولى مع ايران والثانية مع المجتمع الدولي بعد ارتكاب جريمة احتلال الكويت والثالثة مع الولاياتالمتحدة وحلفائها الذين وجدوا في العام 2003 الفرصة المناسبة للأنقضاض على دولة عربية مهمة وتحويلها الى دولة ذات هوية ضائعة، لم يكن نظام صدّام من تسبب بالحرب الثالثة، لكنه فعل كل شيء من اجل تسهيلها بدءا بأتقانه فن تجاهل المعطيات الأقليمية والدولية الى ابعد حدود وعدم معرفته بأهمية موازين القوى في العلاقات بين الدول، كانت كل المبررات التي ساقها بلير لتبرير الحرب غير ذات معنى ولا تستند الى حقائق او الى شرعية ما، وهذا ما دفع بكلير شورت التي كانت وزيرة في حكومته الى وصفه ب"الكذاب" لدى ادلائها قبل ايام قليلة بشهادتها عن ظروف اتخاذ بريطانيا قراراً بالمشاركة في الحرب على العراق. لم يعد ما يقوله بلير مهما بالنسبة الى اهل المنطقة، قد يكون مهما للبريطانيين وحدهم، خصوصاً ان بينهم من لا يزال يبحث عن الحقيقة واسباب مقتل كل هذا العدد من الجنود وخسارة مليارات الجنيهات الأسترلينية من دون تحقيق نتائج تذكر بأستثناء رفع توني بلير لشعارات من نوع أن غزو العراق "جعل العالم اكثر امانا"، هل كان صدّام حسين في السنوات الأخيرة من حكمه يهدد احدا غير العراقيين؟ كل ما في الأمر ان رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي بقي في السلطة بين العامين 1997 و2007 شارك في اعادة رسم خريطة الشرق الوسط وتغيير موازين القوى فيه لمصلحة ايران بشكل مباشر واسرائيل بشكل غير مباشر، لعل الميزة الأهم للعراق اليوم انه دولة ذات مستقبل غامض تتحكم بها احزاب مذهبية ولاؤها الأول، وان بنسب متفاوتة، لأيران من جهة واحزاب كردية تعرف جيداً من اين تؤكل الكتف من جهة اخرى، همّ الأكراد يبدو محصورا في العمل من اجل بناء دولة مستقلة في كردستان متى تسمح الظروف بذلك، يتحرك الأكراد حاليا بطريقة تدل على نضج سياسي كبير، استفادوا ويستفيدون من العراق الموحّد الى ابعد حدود في غياب الظروف الموضوعية التي تسمح لهم بأقامة دولتهم التي يبنونها حجراً حجراً، العراق اليوم مساحة جغرافية واسعة في بطنها ثروات نفطية هائلة، لكنه ايضا "ساحة" تستخدم قاعدة انطلاق لتدمير المنطقة العربية عن طريق اطلاق الغرائز المذهبية من عقالها، لو لم يكن الأمر كذلك كيف يمكن فهم قرار ما يسمى"هيئة المساءلة والعدالة" القاضي بمنع نحو خمسمائة شخص من الترشح للأنتخابات النيابة المقررة في السابع من آذار- مارس المقبل، استندت الهيئة الى قانون "اجتثاث البعث" الذي اقر في عهد بول بريمر الحاكم العسكري الأميركي للعراق في مرحلة ما بعد الأحتلال، صحيح ان الهيئة تراجعت عن قرارها وسمحت للجميع بالترشح على ان يبت امر شرعية انتخاب هذا النائب او ذاك في مرحلة لاحقة، لكن كل ما يمكن قوله ان القرار القاضي بمنع ترشح اشخاص معينين بتهة انتمائهم الى البعث.. او بجعل نيابتهم مشكوكا فيها حتى لو فازوا في الأنتخابات، انما يصب في اثارة الغرائز المذهبية. هذا على الأقل ما يقوله اي عراقي عادي يمتلك حداً ادنى من الوعي السياسي في تفسيره لقرار"هيئة المساءلة والعدالة"، هناك سياسيون عراقيون يذهبون الى ابعد من ذلك عندما يقولون ان الأحزاب المذهبية تريد بكل بساطة وضع يدها نهائيا على العراق ليس مطلوبا تصفية البعث بمقدار ما ان المطلوب تهميش السنة العرب نهائيا ومعهم كل شيعي عربي يؤمن بأن المطلوب اجتثاث الفتنة المذهبية وليس السنة العرب. ربما كان افضل رد على بلير وادعائه ان العالم "صار اكثر امانا" سؤال من خمس كلمات: هل تغيّر شيء في العراق؟ لم يتغيّر شيء على الأطلاق، في السنة 2010، هناك من يمارس الأجتثاث على طريقة البعث. الم يقر مجلس قيادة الثورة في اذار- مارس من العام 1980 قانونا يقضي ب"تحريم" حزب الدعوة الذي ينتمي اليه رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي؟ ربما كان الفارق ان لا اعدامات بالجملة هذه الأيام، خصوصا ان الجيش الأميركي لا يزال في قواعده داخل العراق، يقتصر الأمر على الأنتقام من شخص ضعيف هنا او هناك ليس هناك عشيرة تحميه مثل السيد طارق عزيز الذي ذنبه الوحيد انه مسيحي وانه تصدى باكرا لأيران, ان المعاملة التي يلقاها طارق عزيز في سجنه، خصوصاً بعد اصابته بجلطة ونقله الى مستشفى اميركي لا تبشر بالخير. تشير الى الكيدية في التعاطي مع رجل لم يكن يمتلك اي صلاحية على صعيد اتخاذ القرار، رغبة في الأنتقام لا اكثر, لم يتغيّر شيء في العراق. الجديد الوحيد هو النفوذ الأيراني الواسع الذي تؤكده معاملة طارق عزيز, هذه المعاملة جزء لا يتجزأ من عملية تهجير مسيحيي العراق من بيوتهم وارضهم والتأكيد انه لم يعد لهم مكان في العراق "الديموقراطي".. يستطيع توني بلير ان يقول ما يشاء. لن يدخل السجن بسسب ما ارتكبه في العراق, الشيء الوحيد الأكيد ان على كل عربي ان يدرك ان المنطقة دخلت مرحلة جديدة وان السؤال الكبير ما الذي سيحصل عند انسحاب الجيش الأميركي السنة المقبلة حسب وعد الرئيس اوباما؟.