احتفلت اسرائيل قبل ايام بالذكرى الثانية والستين لقيامها. تبجحت الصحف الأسرائيلية وعدد لا بأس به من كبار المسؤولين بالإنجازات التي تحققت منذ اعلان الدولة في الرابع عشر من ايار- مايو 1948 بعد صدور قرار التقسيم الصادر في العام 1947، وهو القرار الذي لم يعرف العرب استغلاله أو أدراك معناه في تلك المرحلة المهمة من تأريخ المنطقة. كان كلام اسرائيلي كثيراً عن نجاحات تحققت خصوصاً في مجال التقدم العلمي والمشاركة في الثورة التكنولوجية وتطور الاقتصاد الاسرائيلي وزيادة عدد السكان. كان التركيز على ارتباط هذا الإقتصاد بالعالم وعدم حاجته الى العالم العربي. فاسرائيل تبيع تكنولوجيا عسكرية الى تركيا وروسيا وحتى الصين. كان هناك سيل من الكلام عن التفوق الاسرائيلي ولكن من دون أن يطرح أي مسؤول في الدولة اي سؤال من أي نوع كان في شأن معنى هذا التفوق وهل في الإمكان توظيفه في خدمة السلام والاستقرار في المنطقة؟.. لعلّ اهمّ ما غاب عن احتفالات اسرائيل بذكرى اعلان الدولة، حسب التقويم اليهودي، الكلام عن مشروع سياسي محدد وواضح المعالم. تحدث وزير الدفاع أيهود باراك، وهو زعيم حزب العمل ورئيس سابق للوزراء، عن الحاجة الى الأعتراف بأن للفلسطينيين الحق في دولة. نسي باراك أن أي دولة تحتاج حدودا وأن لا أهمية لكلامه في غياب الوضوح وترسيم حدود الدولة الفلسطينية استنادا الى مرجعية تستند الى الشرعية الدولية. ترك باراك الأمور غامضة واعطى حقا لكل الذين يقولون إن اسرائيل لا تريد سوى استمرار الاحتلال للأرض العربية وانها تفضل الاحتلال على السلام. وهذا يفسّر الى حدّ كبير اعطاء اسرائيل الأولوية لتشجيع اي حركات متطرفة في المنطقة على دعم السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة المنبثقة عنها. هناك بكل بساطة حلف غير معلن بين المتطرفين في الشرق الأوسط من عرب وغير عرب واسرائيليين. هدف هذا الحلف استمرار حال اللاحرب واللاسلم الى ما لا نهاية. انها حال تخدم كل من يسعى الى المتاجرة بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في وقت يعرف، كل من يمتلك حداً أدنى من المنطق، ان في الامكان التوصل الى تسوية وان عناصر هذه التسوية موجودة ان بالنسبة الى الحدود أو القدس أو اللاجئين. ولكن هل تريد اسرائيل تسوية؟ هل تبحث عن حل؟ أم أنها دولة ذات مجتمع مريض لا يعرف ماذا يريد، مجتمع يتجاهل أن الاحتلال لا يمكن أن يكون سياسة او ان يؤسس لسياسة ما. إلى جانب السعي إلى تكريس الأحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية التي من دونها “لامعنى للدولة الفلسطينية المستقلة” على حد تعبير رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس (ابو مازن) في الكلمة التي القاها في القمة العربية الأخيرة في سرت، هناك سعي اسرائيلي الى محاربة كل من يدعو الى الاعتدال واعتماد المنطق. اكثر من ذلك، هناك سياسة اسرائيلية تقوم على تشجيع التطرف في كل بؤرة يسودها التوتر في المنطقة. من يصدق مثلا أن اسرائيل، باصرارها على الاستمرار في حصار غزة، تدعم عمليا حركة “حماس” التي تسيطر بالقوة على القطاع وتساهم بذلك في اضعاف السلطة الوطنية التي اظهرت من خلال اجهزتها وحكومتها انها تسعى بالفعل الى حل معقول ومقبول وانها لا تريد بأي شكل العودة الى العنف وتؤمن في الوقت ذاته بأن المقاومة للأحتلال مقاومة سلمية. من يصدق التجاهل الاسرائيلي للنصائح المصرية، علما ان مصر كانت اول دولة عربية تتوصل الى معاهدة سلام معها وقد فتحت الباب عمليا امام تخلي كل دول المنطقة عن فكرة الحرب... من يصدق ان اسرائيل- بيبي نتنياهو- تبذل كل ما تستطيع من أجل إحراج الأردن. انها تتعامل مع الأردن كعدو وهو ما تنبه اليه كبار المسؤولين في المملكة على رأسهم الملك عبدالله الثاني الذي لم يتردد في اظهار مدى استيائه من رئيس الوزراء الاسرائيلي في مقابلة أجراها حديثا مع “وول ستريت جورنال”. قال العاهل الأردني في تلك المقابلة:” المؤسف، أنه للمرة الأولى منذ ابرم والدي (الملك حسين رحمه الله) السلام مع اسرائيل (في العام 1994)، ان علاقاتنا في ادنى مستوى” مؤكداً أن “الثقة السياسية غير موجودة كما لا توجد علاقة اقتصادية حقيقية بين الأردن واسرائيل”. هناك تغيير تام في لهجة الخطاب السياسي الأردني ترافقه مخاوف حقيقية من دفع الفلسطينيين في اتجاه الأراضي الأردنية بما يخرق مبادئ القانون الدولي والواجبات المترتبة على سلطات الاحتلال في الضفة الغربية، فضلاً عن الواجبات الناجمة عن بنود معاهدة السلام الأردنية- الاسرائيلية. من الواضح أن اسرائيل تحتفل ببلوغها السنة الثانية والستين من عمرها على طريقتها. كل ما تفعله يصب في مصلحة التطرف والمتطرفين. تراهن اسرائيل على تفتيت المنطقة. تراهن على ان الإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن وقف الاستيطان وعن دفعها الى طاولة المفاوضات على اسس واضحة في مقدمتها تحديد مرجعية المفاوضات. اذا كان مطلوباً في نهاية المطاف اختصار الحالة الأسرائيلية بعبارة، ليس ما يفي بالغرض غير وصف هذه الحالة بالمرضية. انها الدولة الوحيدة في العالم التي تبني سياستها على الاحتلال واحراج كل من يتعاطى معها أو يسعى إلى تحقيق تسوية. خذلت مصر وخذلت الأردن وخذلت السلطة الوطنية. انها تدفع في اتجاه انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية كي تتمكن من افراغ الضفة من اكبر عدد ممكن من سكانها في انتظار اليوم الذي تتمكن فيه من طرد عرب اراضي 1948، اي عرب اسرائيل من ارضهم وبيوتهم. إلى أين تأخذ اسرائيل المنطقة؟ هل يوجد من يستطيع وضع حد للسياسة العبثية التي تتبعها وافهامها أن كل ما تفعله حكومة نتنياهو يصب في جرّ الشرق الأوسط الى حرب جديدة؟ المؤسف أن حلف المتطرفين في الشرق الأوسط يشجع على السير في هذا الأتجاه. ليست اسرائيل وحدها التي تدفع في اتجاه الحرب والعنف... ما دام ثمن هذه الحرب وهذا العنف سيدفعه الفلسطيني واللبناني اوّلاً!