خير الله خير الله نظراً إلى ان المفاوضات المباشرة تحافظ على المشروع الوطني الفلسطيني وهو البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الذي اقرّه المجلس الوطني في العام 1988، لا مفرّ عندئذ من الترحيب بها ايا تكن كمية التحفظات عن بيبي نتانياهو وسياسة حكومته التي تعتبر الاكثر تطرفا في تاريخ الحكومات الاسرائيلية. باختصار شديد، ليس امام الفلسطينيين في المرحلة الراهنة سوى المحافظة على البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية نظرا الى انه تتويج لسنوات طويلة من النضال اوصلتهم الى ان يكونوا موجودين على الخريطة السياسية للشرق الاوسط. هذا المشروع هو ثمرة نضال سياسي وعسكري طويل يزيد عمره على نصف قرن اوصل في العام 1974 الى احتلال منظمة التحرير الفلسطينية مقعد مراقب في الاممالمتحدة والى وجود تمثيل سياسي وديبلوماسي لها في كل العواصم المهمة على الكرة الارضية. اكثر من ذلك، مكّن البرنامج السياسي الذي اعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية والذي يقوم على خيار الدولتين ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، من دخول البيت الابيض، ويكفي ياسر عرفات انه اول زعيم للشعب الفلسطيني يستعيد ارضا ويكفي انه اعاد ما يزيد على ربع مليون فلسطيني الى ارض فلسطين بعدما كان هؤلاء في الشتات. من السهل الكلام عن حق العودة، من اجل المتاجرة بالفلسطينيين وبقضيتهم، ولكن من الصعب ممارسة هذا الحق. ما نجح به "ابو عمّار" في الفترة التي اعتمد فيها الواقعية، مستندا الى البرنامج السياسي لمنظمة التحرير بديلا من الشعارات والمزايدات، يتمثل في عودة فلسطينيين الى فلسطين. ما الذي يحصل الان؟ لم يعد امام السيد محمود عبّاس (ابو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية سوى الانتقال الى المفاوضات المباشرة مع رئيس الوزراء الاسرائيلي نظرا الى ان الادارة الاميركية مصرة على ذلك. من الصعب التكهن بما ستؤول اليه المفاوضات بعد سنة من الآن. لكن الثابت ان القبول بالمفاوضات يعني اول ما يعني المحافظة على العلاقة مع الادارة الاميركية. من دون هذه العلاقة تصبح القضية الفلسطينية معزولة والقيادة الفلسطينية مطوقة. كان انقطاع العلاقة مع واشنطن وراء تمكن ارييل شارون من محاصرة ياسر عرفات في المقاطعة (مقرّ الرئاسة الفلسطينية في رام الله) طوال ما يزيد على سنتين ما تسبب في وفاته. من دون هذه العلاقة، سيسهل على اسرائيل جعل الحصار الظالم الذي تمارسه على قطاع غزة ينسحب على الاراضي الفلسطينية كلها وعلى كل فلسطيني مقيم في هذه الاراضي اكان ذلك في القطاع او في الضفّة. الاهم من ذلك، ان الذهاب الى المفاوضات المباشرة يسمح بابقاء المشروع الوطني الفلسطيني الذي يقبل به المجتمع الدولي على الطاولة. بكلام اوضح، انه يسمح بابقاء القضية الفلسطينية حيّة ترزق. ولذلك، يمكن الحديث صراحة عن شجاعة "ابو مازن" كونه رفض الانقياد للشارع وللحلول السهلة. فمثلما أن بيبي نتانياهو يسعى الى التفاوض من اجل التفاوض، كان في استطاعة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المزايدة من اجل المزايدة استرضاء لما يسمّى الجماهير التي كانت ستصفق له طويلا وتمجده لو رفض الذهاب الى واشنطن تلبية لدعوة من الرئيس باراك اوباما. اختار رئيس السلطة الوطنية ان يقود الشارع بدل الانقياد له بغض النظر عما سيقوله الجهلة والمزايدون هنا وهناك وهنالك، من عرب وغير عرب. ليس امام الجانب الفلسطيني سوى التمسك بالمشروع الوطني. انه المشروع الوحيد القابل للحياة. انه المشروع الوحيد الذي يشكل ضمانة لبقاء القضية الفلسطينية على الخريطة السياسية للشرق الاوسط. انه المشروع الوحيد الذي يمكن ان ينتصر على الاحتلال الاسرائيلي. كل ما تبقى سقوط في لعبة لا طائل منها تعكس غياب القدرة على التعلمّ من تجارب الماضي القريب. فالكلام عن العودة الى استخدام السلاح كلام مرحب به اسرائيليا. الدليل على ذلك ما اسفرت عنه حرب غزة الاخيرة. قبل الحرب، كانت صواريخ "القسام" التي تطلقها "حماس" من القطاع قادرة على تحرير فلسطين. بعد الحرب صار اطلاق الصواريخ "خيانة وطنية" ومن يتجرّأ على ذلك يتعرض للملاحقة والقمع. اليست الحرب درسا كافيا للامتناع عن العودة الى السلاح وممارسة نوع آخر من المقاومة يقوم على بناء المؤسسات الفلسطينية على اي بقعة ارض تكون فيها السلطة الوطنية... لن تؤدي المفاوضات المباشرة الى معجزة. لكنها اللعبة الوحيدة المتاحة في المرحلة الراهنة. ولذلك، لا مفرّ من السير في هذه اللعبة الى النهاية بدل اطلاق النار على مستوطن اسرائيلي هنا او آخر هناك. في نهاية المطاف، لا يمكن اطلاق النار من دون مشروع سياسي واضح. فماذا لو تدهور الوضع في الضفة وخرج عن سيطرة السلطة الوطنية؟ ما الذي سيمنع اسرائيل عندئذ من تدمير قسم لا بأس به من البنية التحتية للضفة الغربية كما فعلت في غزة فيما العالم يتفرج عليها تمارس ارهاب الدولة. بعض التروي يبدو اكثر من ضروري في هذه المرحلة. يفترض في من يقف في وجه المفاوضات المباشرة ويعترض عليها عن طريق التهديد بالسلاح القول: ما هو البرنامج السياسي الذي يمتلكه والذي يريد تحقيقه وما هو المشروع الوطني الذي يريد اقناع العالم به؟ هل هناك دولة في العالم، وفي المنطقة العربية والشرق الاوسط عموما، على استعداد للمشاركة في حرب على اسرائيل عن طريق آخر غير طريق الشعارات الكبيرة؟ ما الذي سيفعله الشعب الفلسطيني بالشعارات؟ هل الشعارات تطعم خبزا وتحرر ارضا او تعيد لاجئاً الى فلسطين... أو تفك الحصار الظالم على غزة؟!