لا جدال في أن الثوار الشبان في ميادين الحرية في مصر وتونس كانوا يأملون مع انتصار الثورة أن يحصلوا على الضمان الاجتماعي والصحي والمنحة الدراسية في الخارج لمن يرغب وان تحظى المرأة الحامل بدار للحضانة بالقرب من منزلها وان يحوز خريج الجامعة على وظيفة مرموقة وان يجمع الطبيب ثروة صغيرة ويحصل المهندس على مشاريع عمرانية وان يتمكن الموظف من قضاء إجازته في الخارج وان يتقاضى العاطلون عن العمل رواتب حتى يتمكنوا من الاندماج مجددا في سوق الشغل. ويأمل الثوريون بأن تنمو هذه الفئات كما تنمو الفئات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في المدن الأوروبية وان يتسع الاختلاط بين الجنسين ويكون حرا أكثر وان تغرق الأسواق بالمواد الاستهلاكية و تتكاثر دور السينما والمسرح والنوادي والمكتبات والمراكز الثقافية وتنهض ورشة صناعية وأخرى سكنية وثالثة زراعية وان تفتح صناديق الاقتراع على مصراعيها فيحتل الشبان الثوار قاعات الحكم ومجالسه التمثيلية. ويأمل الشبان أيضا وأيضا بأن تنهمر مليارات الدولارات بعد تغيير النظام وان يبدأ عهد جديد من العدالة والثروة والمساواة والإخاء والتضامن... هكذا يحلم المهمشون عادة ولهذه الأحلام يضحون بأرواحهم بيد أن هؤلاء قد اكتشفوا مع حكومة عصام شرف في مصر وحكومة الباجي قائد السبسي في تونس وربما سيكتشفون أكثر بعد حين أن الثورة لا تعني الديمقراطية لأنها ببساطة تقوم على تغيير نظام والمجيء بآخر. وان الجمهورية(بالنسبة للملكيات) لا تعني الديمقراطية أيضا وان الملكية الدستورية ليست جنة الله على الأرض وان الديمقراطية كما تلوح من السوق الأوروبية وأسواق الغرب عموما هي ديمقراطية الأغنياء وأنها ما كانت يوما ديمقراطية الفقراء منذ روما القديمة وصولا إلى فقراء المدن المهمشين في أوروبا والولايات المتحدة واستراليا وكندا ما يعني أن الديمقراطية التي يحلم بها الشبان لا تتم بلا ثروة طافحة يسهل توزيعها على أوسع الشرائح في المجتمع. ولا أدري في أي وقت سيكتشف الثوار في مصر وتونس أن المصري والتونسي يصبح غنيا أي قادرا على تأسيس البنية التحتية للديمقراطية عندما يصبح سيدا على موارده ومصيره. فالنظام المحلي التابع لا يراكم ثروة حرة بل يتبع النظام الأجنبي السيد في أحواله المختلفة فان قال السيد أن ثمن برميل النفط يجب ألا يعلو فانه يبقى حيث هو وان قال السيد الأجنبي أن على التابع أن يشتري سلعا غربية بأموال النفط فسيشتريها لا أن يصنع مثلها وان صنع تعاقبه منظمة أوروبية تسهر على حقوق الملكية ويعاقبه ابن جلدته وكيل الشركة الأوروبية الحصري . وهذا يعني في معادلة العلاقات الدولية الراهنة أن على التابع أن يظل تابعا وعلى النظام المصري والتونسي أن يعاد تشكيلهما بعد الثورات وفق شروط تبعية محسنة تنطوي على فساد أقل وعلى إفادة شرائح جديدة من الثورة في البلاد وانهيار مصالح الفئات التي كانت مستفيدة من الحكم السابق. ولعل السقف الذي دارت تحته الثورة في تونس ومصر بات واضحا تماما لكل ذي بصيرة فقد كشف النقاب عنه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عندما قال:" لم نسمع من الثورات العربية مرة واحدة شعار الموت للغرب . ولم نسمع منها شعار الموت لإسرائيل وما سمعناه هو تلخيص لمنظومة القيم الغربية قيمنا التي ندافع عنها . نعم إنها قيمنا فلماذا لا ندعم هذه الثورات ولماذا نعاديها؟" ولان سقف الثورة في مصر وتونس هو ما تحدث عنه الرئيس ساركوزي فقد بادر إلى دعم الثورة الليبية بالقوة المسلحة بل بواسطة الحلف الأطلسي دون أن يعني ذلك أن نظام القذافي ليس تابعا بل هو تلميذ نجيب للتبعية المعطوفة على غطرسة قبيحة وسلوك دموي ينتمي إلى القرون الوسطى. وفي السياق جاءت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلنتون إلى القاهرة لترسم مع الثوار الجدد سقف العلاقات الثنائية وبدا من كلامها أن لا جديد في الأمر سوى تحسين شروط العلاقة بين الطرفين لصالح مصر الثورة الجديدة. وقد انتقلت كلنتون نفسها من بعد إلى تونس لتحيي الثوار ولتتحدث عن سقف العلاقات بين البلدين بعد الثورة وليتضح من حديثها عنا أيضا أن سقف الثورة في تونس هو ما تحدث عنه الرئيس ساركوزي . بكلام آخر أن الثورة التي اندلعت في البلدين من أجل تغيير النظام ليست معنية بغير هذه المهمة أي تداول السلطة مع النظام بالقوة طالما أن النظام نفسه كان يرفض تداولها بالحسنى وبصناديق الاقتراع. وبما أن الأمر لا يتعدى تداول السلطة فهو لا ينطوي على تغيير في علاقات السلطة الخارجية أي في الهرمية الدولية التي تعين الغرب والدول العظمى في رأس الهرم ومصر وتونس وبقية دول العالم في قاعدة الهرم وفي هذه المعادلة ستكون قدرة البلدين على الانتقال من موقع التابع في العلاقات الدولية إلى موقع الشريك محدودة للغاية بل معدومة تماما ولو كانت الثورة في البلدين تضمر غير ذلك لما غامر الحلف الأطلسي بخوض حرب إلى جانب ثوار ليبيين يسيرون على خطى من سبقهم. والثابت أن تغيير أحوال المصريين والتونسيين وفق طموحات الثوار الجدد لا يتم بغير انتقال مصر وتونس والعالم العربي برمته من نظام التبعية إلى نظام الشريك الدولي فالشريك وحده يمكن أن يراكم ثروة ويمكن أن يحمي هذه الثروة ويضاعفها ويوزع دخلها على شعبه بما يرضي هذا الشعب ويحقق طموحاته المشروعة. أما في غياب الشراكة فيمكن للحركة الثورية في مصر وتونس وربما في ليبيا أن تحمل إلى الحكم فئات جديدة وان توسع قاعدة السلطة والمستفيدين منها وان تخفض نسبة الفساد وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة للأحزاب والقوى الثورية وربما أمكننا القول بهذا المعنى أن الثورتين المصرية والتونسية تختزن طاقة إصلاحية مهمة لكن سقف الثورة في البلدين يظل إصلاحيا ما لم يقرر الثوريون شيئا آخر هو بالضبط ما يستدعي الثورة والتضحيات التي تليق بها.