أجزم أن هذه الكلمة "الثقافة" الخفيفة على اللسان الثقيلة في ميزان الحياة الإنسانية هي من تتجسد فيها وفي جوهرها طلاسم شفرة أسرار الحياة الإنسانية المتعاقبة جيل بعد جيل وكلما استطاع جيل إنساني الكشف عن سراً من أسرار شفرتها المعقدة كلما استطاع كتابة عنوان جديد لاسم نهضة حضارية إنسانية تقوم على أنقاض حضارة إنسانية بالية تدرج ضمن ملفات النسيان التي مصيرها كسابقاتها إلى أرشيف الزوال للماضي الإنساني السحيق اللا نهائي حتى أننا أصبحنا نسلم اليوم بأن الإنسان ما هو إلا مجرد منتج طبيعي لثقافته ويخضع مجبراً في تصرفاته في أمور حياته اليومية وفقاً لمعيار تطبعه الثقافي المكتسب لديه من بيئته الاجتماعية المحيطة به ابتداء بمحيطه والمتمثل بالأب والأم وأفراد أسرته أو عالمه الخارجي والمتمثل بالبيئة الاجتماعية المدرسية أو مجتمع قريته أو مدينته و....إلخ. من هذه المراحل العمرية للفرد.. والتي تعتبر من الحتميات القدرية المفروضة على كل مولود بشري تقبلها كواقع حتمي لا مهرب منه، وبالتالي فإننا إذا ما أدركنا أهمية التنمية الثقافية ودورها في حياتنا نكون بذلك قد استطعنا أن نصل إلى مرحلة الوعي المتقدمة في تشخيص المشكلة الحقيقية التي تقف وراء تخلفنا حضارياً ....، وبهكذا توجه فحسب يمكننا فعلاً استدراك بدء أولى عتبات السلم الحضاري وإيجاد موقع قدم لنا حتى نتمكن من تحقيق الخطوة الأولى على طريق السباق الحضاري والإنساني الحاصل اليوم في بدايات القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه. إذ أن واقعنا الثقافي وخصوصاً في العالمين العربي والإسلامي اليوم هو واقع متردي ولا وجه للمقارنة بيننا والعالم الغربي والأوروبي الذي يشهد طفرة ثقافية ، بينما نعاني من انفصام واضح وجلي بين أمسنا في الريادة الحضارية والثقافية وحاضرنا البائس وما نعانيه من رجعية ثقافية كانت سبباً رئيساً فيما نحن فيه من تخلف حضاري..."في كافة المجالات" سواء منها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية والمعيشية أو الصناعية أو الزراعية وإلخ.. من هذه المقومات الأساسية لتحقيق النهوض الحضاري والمساهمة في تسجيل أي انجازا حضاريا يستفيد منه إنسان القرن الحالي إذ أننا ينبغي علينا التسليم هنا بأن نهضتنا الحضارية مرهونة بمستوى تطور وتنمية ثقافتنا واعتبارها أي "التنمية الثقافية"في سلم أولوياتنا في مجال التنمية الشاملة والدائمة لأن التنمية الثقافية تعني تنمية الإنسان كأهم ثروة على الإطلاق باعتبار بناء الإنسان أهم بكثير من بناء الأبراج العملاقة وناطحات السحاب والقصور الفارهة . فهل أدركنا اليوم أنه لا ديمقراطية حقيقية وتطور نظام سياسي واحترام الحقوق والحريات الإنسانية دون تنمية ثقافية حقيقية كذلك بالمثل لا يمكن أن يتحقق أيضاً السلم الاجتماعي وانتهاء الصراعات الاثنية والطبقية والعنصرية في جيل يعاني من الأمية الثقافية بالإضافة إلى أنه لا نهضة إنتاجية وصناعية في ظل أمية ثقافية يعاني منها شبابنا لأنه وباختصار شديد فإن أصل نواة الحضارات الإنسانية هي مجموعة قيم إنسانية نبيلة ومثالية وأخلاقية تستكمل بالقيم الدينية والتي لا يمكن توفرها في أوساط أجيال لازالت تعاني من الأمية الثقافية المطلقة وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فأنني هنا أود الإشارة إلى حقيقة مفادها أن أميتنا الثقافية في العالمين العربي والإسلامي كانت بفعل فاعل إذ تعمدت السلطات الحاكمة لهذه الشعوب المغلوبة على أمرها إهمال التنمية الثقافية وجعلها في ذيل الاحتياجات التنموية وليس هذا فحسب بل أن كثير من الأنظمة العربية تنظر إلى التنمية الثقافية من أنها مجرد احتياجات إنسانية ترفيهية وتندرج ضمن الكماليات الغير ضرورية للإنسان العربي المعاصر وحصر اهتمام هذه الأنظمة في التشييد للبنى التحتية في مجال البناء والعمران للمدن السياحية وبعض مباني الوزارات السيادية والحكومية العملاقة ضاربة عرض الحائط بكل ما له صلة بالتنمية الثقافية وهذا ماهو حاصل اليوم في كل وطننا العربي مع الأسف إذ قل ما تجد من الأنظمة العربية الحاكمة من يعير التنمية الثقافية اهتماما حتى ولو شكليا ربما أن مرد ذلك لدى بعض الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي إدراكهم المسبق انه في حال القضاء على الأمية الثقافية في شعوبهم فان ذلك يعني ببساطة تهديدا مباشرا لاستمرار بقائهم على عروشهم مزيدا من عشرات السنين إذ انه لا يمكن لأي شعب من الشعوب الخالي من الأمية الثقافية أن يقبل على نفسه أن يحكم بغير الأنظمة الديمقراطية الحقيقية ناهيك عن أن الشعوب المثقفة والناضجة ثقافيا تصبح متحررة من كل قيود الخوف ومن السهل عليها تعبيد اقصر الطرق للوصول إلى تحقيق حريتها الكاملة الغير منقوصة ومن مقتضيات تحقيق مثل هذه الأهداف أن تحكم الشعوب نفسها بنفسها من خلال قيام الدولة المدنية الحديثة التي تحدد فيها دساتير الأمم والشعوب المتحررة أن لا تزيد فترة الحاكم المنتخب عن بضع سنوات فحسب وان مقولة من القصر إلى القبر قد عفا عليها الزمن وذهبت إلى غير رجعة وخصوصا بعد انتفاضات الربيع العربي وعليه فان بعض الأنظمة الملكية غير الدستورية في الوطن العربي قد لا تجد فيها حتى إدارة للثقافة ناهيك عن إنشاء وزارة لهذا الأمر وبالتالي فنحن لا نستغرب مثل هذه السياسات والتوجهات من قبل هذه الأنظمة لكونها معذورة فيما تفعله ولكننا نلوم وبشدة الأنظمة الجمهورية في الوطن العربي والتي تسلك نفس هذا المسلك في إهمال التنمية الثقافية مع إدراكها انها لايمكن أن تحقق لشعوبها أي نهضة حضارية في كل المجالات دون القضاء على الأمية الثقافية أولا [email protected]