مع كل عيد أضحى ( العيد الكبير ) عادة ما تبدو صنعاء خالية من ساكنيها ومرتاديها من المحافظات الأخرى بعكس ما تكون عليه في الأيام العادية وخاصة في ساعات النهار فتهجرها الآف الأسر لقضاء أجازة العيد في مدن أو مناطق تنتمي إليها فيلاحظ من يبقى فيها الفرق بينها قبل العيد وخلال أيام العيد وقد صارت مدينة هادئة تنفض شوارعها عنها دخان السيارات الكثيف وأصوات الضجيج وتتخلص من ذلك الازدحام الذي عادة ما يحولها إلى علبة كبريت تتزاحم فيها العيدان إلى أن يأتي مشعلها فيخفف عنها الحمل قليلا إلى أن يحل العيد التالي , غير أن ظاهرة الهجرة العيدية من صنعاء إلى المحافظات الأخرى وخاصة إلى عدن والمدن الساحلية الأخرى لوجاز التعبير لم تعد تقتصر على عيد الأضحى فقط ففي السنوات الأخيرة أخذت هذه الظاهرة في التزايد خلال أيام عيد الفطر حتى من أولئك الذين يجدون صعوبة مالية في الإنفاق على تكاليف الترحال والانتقال إلى مدينة أخرى أو منطقة مسقط الرأس لقضاء إجازة العيد , فإذا كان في صنعاء خلال الأيام العادية نحو مليون ونصف المليون سيارة تجوب شوارعها كل يوم فانه لو تم إحصاء ما بقي من السيارات خلال أيام عيد الفطر هذا فلن يصل إلى الثلث إن لم يكن أقل كما أن نصف بيوتها بدت مهجورة باستثناء تلك التي بقي فيها من يحرسها أو تركت لعناية الله ورجال الأمن والجيران ليقوموا بذلك الدور واختفت بالتالي تلك المظاهر المسلحة التي عادة ما تجعل هذه المدينة البريئة أشبه بغابة موحشة تشوهها المواكب المفخخة والسيارات الملغمة بكل ما هو مناقض لجمال المدينة ومركزها على مستوى البلاد ومكانتها في موسوعة الحضارة اليمنية والتراث العالمي والذي يفرض أن تظل عاصمة سياسية وثقافية وحضارية وسياحية بمبانيها وثقافة ساكنيها واحترامهم لها ولكل معلم فيها ولعل ذلك الهدوء الذي أعقب مغادرة ذلك العدد من الناس والذين يعتقد أن أغلب من قصدوا مدينة عدن لقضاء إجازة العيد والمقدرين بنصف مليون شخص هم من صنعاء قد أغرى في المقابل من كانوا يودون الانتقال بدورهم إلى مدن أخرى لنفس السبب على البقاء فيها لأنهم لم يعودوا يجدون مدينتهم الجميلة ويكتشفونها ويحسون بدفء حضنها رغم برودة الطقس هذه الأيام فيها ويتمكنوا من المشي في شوارعها ويخرجوا مع أبنائهم إلى ما توفر من حدائقها وضواحيها والانتقال من بيت هذا القريب إلى ذاك وبكل سرعة وراحة إلا عندما تحل أيام العيد أو أية مناسبة أخرى يغادر فيها الموظفون وغير الموظفين إلى خارجها وعندما تساعدهم مدة الإجازة ومستلزماتها على الانتقال إن لم يكن إعطاء المدينة نفسها فرصة للتنفس ولو ليومين أو ثلاثة بعد ذلك الجهد والتعب الذي أضناها ومن أولئك الناس الذين يتزاحمون في حواريها وأزقتها وأسواقها والتسابق على ضواحيها وكأنهم في سباق مع الزمن لملء كل شبر باق منها كمتنفس أو مخطط لحديقة أو روضة دون رأفة أو رحمة بها كما أن القادم من خارج اليمن إلى صنعاء تقله طائرة خلال أيام العيد سيجد فرقا عما هي عليه خلال الأيام العادية , فبإمكانه مشاهدة مباني صنعاء القديمة من الجو ورؤية تلك المناظر الخضراء التي مازالت فيها وسيتمكن من التقاط أكثر من صورة رائعة لها بعكس ما تكون عليه في أيام الدوام الرسمي فلا يمكن رؤية أي حي منها بشكل واضح فتبدو مختفية تحت سحب كثيفة من أدخنة السيارات ومخلفات المعامل والأفران ودخان السجائر والمدائع وغبار الشوارع غير المسفلتة بل وحتى المسفلتة بل إن تلك الأطنان من الآلاف من أطنان القمائم التي تخرج يوميا من بيوت صنعاء وما يرمى بدون حساب أو وازع من ضمير أو احترام للذوق العام في شوارعها العامة خفت إلى درجة كبيرة وتوفر لعمال البلدية نصف المجهود الذي يبذلونه في تنظيف صنعاء والمرور على منازلها لجمع مخلفاتها ، ومن المفارقات الغريبة أن تجد من يقول لك بأنه قبل العيد يقطع المسافة من التحرير وسط العاصمة إلى منطقة بئر عبيد بالسيارة أحيانا أكثر من ساعة ومن منطقة بئر عبيد إلى مدينة ذمار البعيدة عن صنعاء 100 كيلومتر بنفس الزمن وخلال العيد تتغير المعادلة إلى الوضع الصحيح حتى إذا ما كان ليلا صار بإمكانك وأنت في بيتك أو في مكان عام أو تمشي مترجلا في زقاق من أزقتها الاستمتاع بهدوء عجيب وغريب , لا ضجة ولا صوت منفر من هذه السيارة أو تلك وإشارة المرور تكاد تبحث عن ذوات الأربع عجلات لتسمح لها بالمرور فتقول في نفسك ليت صنعاء تبقى هكذا خالية هادئة ليكون للسكنى فيها سحره الحقيقي وللنوم فيها طعمه ولذته وللتجوال في شوارعها مذاقه الخاص بل ليت ليت كل أيام صنعاء دون غيرها من المدن أيام عيد فطر أو أضحى وان كان ذلك ممكنا وبأيدينا إذا ما كان لدى الغالبية شيء من الاحترام تجاهها وشعور بقداسة هذه المدينة وعراقتها وأن السكن فيها يعني التشرف والتفاخر بالعيش والتمتع بعبق حضارتها ومكانتها وليس التعامل معها وكأنها ميدان لسباق السيارات وضجيجها وصراخ الأوادم ومسرحا للفوضى واللامبالاة والعبث بكل ماهو جميل فيها وساحر .