تشير جميع الندوات والحلقات الدراسية والنقاشات التي سبقت الاحتفال بمرور عشر سنوات على نشوء «مشروع برشلونة» بنهاية الشهر الجاري، إلى إن هذه الشراكة اليورو – متوسطية تواجه صعوبات جدية تصل إلى حد التأثير على مستقبلها. توافقت غالبية الاقتصاديين والباحثين الذين التقوا أخيرا في مدينة مرسيليا الفرنسية في ندوة حول موضوع «إعادة الانطلاقة الاقتصادية في منطقة المتوسط»، على التأكيد بأن تحقيق شراكة فعلية لا تزال غائبة حتى الآن على جداول اعمال الاتحاد الأوروبي. والوصف الأدق لهذه الحالة جاء على لسان الأمين العام لاتحاد دول المغرب العربي الحبيب بولع راس، اذ اعتبر ان عملية برشلونة لا تراوح مكانها فحسب، بل لم تعد قادرة على الدفاع عن مبرر وجودها. من جهته، كان وزير مال فرنسا الأسبق دومينيك شتراوس خان اكثر قساوة في تقويمه للوضع القائم. فقد رأى إن الأمر لا يتعلق فقط بمشروع الشراكة، بل ايضاً بوجود أوروبا مشيراً إلى إن الاتحاد الأوروبي نفسه متعثر نتيجة النقض الموجود في الكفايات السياسية. تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى إن النتائج التي تحققت بعد عشر سنوات على إطلاق هذه الشراكة، لم تصل ابداً إلى إنجاز أي من الأهداف الثلاث المحددة في برنامج «ميدا» الهادف إلى تنمية منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. ويتعلق الأمر هنا بدعم التحول الاقتصادي المترافق مع إنشاء مناطق للتبادل الحر بين الدول الموقعة على اتفاقات الشراكة وأوروبا. كذلك، المساعدة على تحقيق الإصلاحات الشاملة، وثالثاً، تنمية التعاون بين المجتمعات المدنية. لقد لاحظ المشاركون في ندوة مرسيليا، خصوصاً القادمين منهم من دول الضفة الجنوبية للمتوسط، انه بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بدّل شركاء الشمال من توجهاتهم حيال الاولويات المحدد سابقاً إذ استبدلت، وسط دهشة شركاء الجنوب، عبارة التنمية، بالهاجس الأمني، أو بمكافحة الإرهاب أو أيضا، بالتصدي للهجرة السرية. ذرائع دول الشمال * لقد استند ممثلو الاتحاد الأوروبي ولجانه ومؤسساته المختلفة الذين شاركوا في هذه التظاهرات الاقتصادية إلى التقرير الصادر عن بروكسيل تحت عنوان: «فيميز 2005 – المكاسب والآفاق»، بهدف وضع المدافعين عن دول جنوب المتوسط في موقع الدفاع. في هذا الإطار، تعمد الباحثون الذين ساهموا في إعداد هذا التقرير التأكيد بأن الأخير لا يعكس وجهة النظر الرسمية للاتحاد الأوروبي. كما ركزوا على موضوعين رئيسين. اذ تساءلوا أولا، و «ببراءة» لافتة حول أسباب ضعف تدفق الاستثمارات المباشرة باتجاه المنطقة، وبالتالي إلى شرح هذه الأسباب. لقد اعتبر هؤلاء الرسميون بأن السوق المحلية المتوسطية محدودة. إضافة إلى غياب اندماج إقليمي فعلي بين دول جنوب المتوسط.. أما التفسير الثاني، فقد استند إلى كون دول وسط وشرق أوروبا قد نجحت خلال السنوات العشر الأخيرة في عرض توقعات طويلة الأمد. ذرائع لم تقنع البتة الاقتصاديين والصناعيين القادمين من جنوب المتوسط، خصوصاً عندما يكتشف الجميع بأن الدول المتوسطية لم تحصل في معدل وسطي سوى على 8 بلايين من الدولارات على شكل استثمارات خارجية في السنوات الاخيرة، أي ما يوازي ما حصلت عليه بولندا وحدها! في ظل التوجه المستند للملاحظات والانتقادات نفسه، المقدم من ممثلي دول الاتحاد الأوروبي، يذكر هؤلاء بأن الصناعات المتعثرة في دول الجنوب قد تم تخصيصها وإعادة هيكلتها بفضل تشجيع ودعم أوروبا. مدينة برشلونة. من ناحية أخرى، جَهِد المدافعون عن بروكسيل للفت النظر إلى أنه لم يعد ممكناً تطوير الرؤية البعيدة المدى وجعل الفكرة المركزية لإعلان برشلونة واقعاً وواحة «ازدهار مشتركة» لولا مساهمة دول الشمال. ان الوضع الحالي بنظرهم يتطابق من دون شك مع توازن برز نتيجة التحولات التي تطرأ على العوامل الاقتصادية. على أي حال، ينبغي التذكير بأن بعض دول المتوسط قد استفادت من عمليات التخصيص التي أنجزتها في السنوات القليلة الماضية، كذلك من الاستثمارات في البنى التحتية التي في الوقت نفسه عززت تدفق الرساميل الأجنبية في شكل ملحوظ ولو كان ذلك عشوائياً. فعلى سبيل المثال، زاد هذا الدفق في المغرب من 7 في المئة في عام 2002 الى 28 في المئة في 2004. لكن على مستوى الحجم فقد بقي أقل منه في تونس او مصر. في هذا الاطار، يذكر ممثلو بروكسيل في كل مناسبة بأن إسرائيل تأتي في طليعة المستفيدين من تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة باتجاه دول المتوسط. (45 في المئة من المجموع في عام 2004). اما محور الهجوم الثاني الذي استند اليه المدافعون عن مسار برشلونة، فقد تمثل في الضعف الفاضح على صعيد المبادلات الإقليمية.. في هذا السياق، لا يتعلق الامر هنا بالدول المتوسطية جميعاً، بل بالدول العربية المتوسطية تحديداً. اذ تملك هذه الأخيرة تشابهاً شديداً في بنياتها الإنتاجية وفي صادراتها، ما لا يعكس ابداً الحقيقة. اذ يعفي النظر لجدول مقارن للثروات بين دول اتحاد دول المغرب العربي، لاكتشاف أهمية التكامل الاقتصادي في ما بينها. وهو أمر غير موجود بين دول الشمال الأوروبية، وبلدان وسط وشرق اوروبا العشرة التي انضمت أخيراً للاتحاد. في مقابل ذلك، ينبغي الإشارة الى ان من مؤشرات وهن مسار برشلونة، نشوء مبادرات جديدة منافسة، على شكل مناطق للتبادل الحر، كما حصل بين الاردن والولايات المتحدة الاميركية، وهذه الأخيرة والمغرب خلال العام الجاري. ما سيسمح لدول الجنوب المتوسطي هذه بالحصول على ادوات تقنية ومالية. ومن جملة هذه المستجدات، امكان نشوء صندوق لتنمية الاستثمارات تعمل عليه حالياً مجموعات انكلو- ساكسونية متخصصة. استياء دول الجنوب * اذا كان مسار برشلونة ملتقى للحوار والعمل، الا انه لم يتمكن حتى الآن من تأكيد مركزيته الغائبة منذ انطلاقته. وينسحب الأمر نفسه على نظرية «القناعة المشتركة». ويتساءل اهل الجنوب، اقتصاديوه بالدرجة الأولى، عن النيات التي تقف خلف «سياسة الجوار الاوروبية». هذه الرؤية التي لا تزال مبهمة والتي لم يحاول اقتصاديو الشمال تفسيرها في شكل واضح. والدليل هو الفشل الذري لصيغة 5+5 التي جربت العام الماضي في تونس والتي يخشى ان تتحوّل الى صيغة 5+3. ومن المؤشرات على امتعاض ممثلي دول الجنوب بقطاعيهم العام والخاص، هو التوافق في شأن توجهاتهم وخطاباتهم الاقتصادية، اذ لم ينتظر هؤلاء طويلاً بعد مداخلة الامين العام لاتحاد دول المغرب العربي، حتى ردوا بشدة وبالمنطق والحجج على ذرائع ممثلي دول الاتحاد الاوروبي، خصوصاً في موضوع تدفق الاستثمارات والتكافل الاقتصادي بين دول جنوب المتوسط. وفي ردهم على ما اعتبروه استفزازاً، استند هؤلاء إلى الأرقام. فقد أظهروا أن الدول المغاربية المتوسطية، خلافاً لكل ما قيل، تخصص ثلث عائداتها للاستثمار. كما أن نحو 25 في المئة من ناتج دخلها القومي يذهب للاستثمار. وذكّر هؤلاء اوروبيي الشمال بأن دول المتوسط لا تحصل على أكثر من 3 في المئة من ناتج الدخل القومي العالمي على شكل استثمارات خارجية مباشرة، في حين تقدم بلدان الاتحاد الاوروبي 9 في المئة شرق ووسط اوروبا، و1 في المئة فقط لدول جنوب المتوسط. ويتساءل ممثلو الدول المغاربية: «هذا ما تسمونه «شراكة عادلة»! لم يكتف هؤلاء بهذه الملاحظات والردود القاسية والصريحة، بل ذهبوا أبعد من ذلك بالتحذير من مغبة وهن الشراكة الأوروبية – المتوسطية، التي لا تسمح ببروز مسارات منافسة فحسب، بل تدفع بها للفظ انفاسها الاخيرة اذا استثمرت باتباع السياسات المنحازة في المستقبل. وفي محاولة للالتفاف على هذا الهجوم غير المتوقع من جماعات جنوب المتوسط، قام مؤيدو مسار برشلونة بالتذكير بأن الفشل الاقتصادي الحاصل لا يشكل عائقاً كبيراً يلجم التجارة الاقليمية. وأشاروا إلى أن الإرادة السياسية هي المسؤولة عن هذا الخلل وعن التقدم المنقوص للاصلاحات. وخلصوا الى القول إن هنالك ضرورة للتفكير مجدداً بآلية مؤسساتية لادارة الشراكة اليورو – متوسطية، لكنهم اقروا بنهاية المطاف بوهن مسار برشلونة وبضرورة انقاذه قبل فوات الأوان. ان مناخ التشاؤم المسيطر على كل الندوات والنقاشات عشية الاحتفال بالذكرى العاشرة على نشوء هذا المسار، يعكس حقيقة لا يمكن تجاهلها على رغم تبريرات الاوروبيين. على اية حال، ان جميع الدلائل تشير الى ان مستقبل الشراكة اليورو – متوسطية لا يبدو زاهراً، اذ يعني العودة لما قاله العقيد معمر القذافي لأحد المسؤولين الاوروبيين الذين عرضوا عليه الانضمام لمسار برشلونة والتخلي عن تمثيل بلاده بصفة مراقب: «لقد قرأت بنود هذه الاتفاقية بنداً بنداً، ولثلاث مرات متتالية، غير انني اكتشفت بأن الاوروبيين يطلبون منا كل شيء، ولا يلتزمون في المقابل بشيء». * صحيفة الحياة: