للشعراء حاسة خاصة تجعلهم يشتمون بروق الخطر قبل هجومه ويهرعون إلى دق أجراس الإنذار لتهيئة المجتمع لمواجهته { الأدب النضالي ليس نغمة واحدة وإنما هو سيمفونية من عدة أصوات وهو انعكاس للواقع الذي له عدة مؤثرات { الأدب يتخذ موقفاً وسطاً بين التحذير والتبشير مشخصاً المرحلة التي يعيشها كما هي بأبعادها ومؤثراتها وأسباب تكوينها يأتي هذا العدد متزامناً مع ذكرى رحيل أديبنا ومفكرنا الكبير الشاعر عبدالله البردوني في يوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس 1999م .. بعد مرور عشرين عاماً كيف نظر شاعر الاستشراف إلى مستقبل زمانه الذي يعيشه اليوم في مراحله المتأزمة وكيف رأى دور الأدب في معالجة الأزمات.. في هذه المقالة التي نشرها في صحيفة 13 يونيو في سبعينيات القرن الماضي دق البردوني جرس الإنذار لمواجهة الأخطار بتشخيصه دور الشعر والأدب في مواجهة كل الأخطار والثقافة التي ينبغي أن تكون لمعالجة أية أزمة بتفعيل دور الكلمة كنفير عام كانت هي المقدمة لأية ثورة عبر التاريخ. عرض/ المحرر الثقافي من المقولات الشهيرة ان صنفاً من البشر وصنفاً من الحيوانات هما أول من يعرف الخطر أما الصنف الأول فهو الشعراء لأنهم بحاسة خاصة يشتمون بروق الخطر قبل هجومه، وأما الصنف الثاني فهو الفئران فهي أول من يشتم روائح الطاعون، والفرق بين الشعراء والفئران أن الشعراء يشتمون روائح الإخطار فيلحون في دق أجراس الإنذار أما الفئران فتهرب إلى البحر فالأدب يتخذ موقفاً بين التحذير حتى يتهيأ الاستعداد لمواجهة الخطر، وبين التبشير لتهوين الخطر أمام المواجهة القوية لاعتقاده بقدرة الإنسان على اشد الأخطار إذا عرف من أين يبدأ وأين يقف، وهذه أزكى أمانات الأدب، فهل من الخيانة للتفاؤل والأمل أن يعكس الشاعر المرحلة المشئومة في أدب التشاؤم؟ وهل من المغالطة أن يحزن الأديب في مهرجانات الفرح الجماعي ان اصح الطرق لتبليغ الأمانة ان يعكس الشاعر المرحلة كما هي بإبعادها ومؤثراتها وأسباب تكوينها من منظور مثالي كاشف الواقع المادي ومن خلال هذا التشخيص للمرحلة يعرف المجتمع طريقه، لان معرفة المرحلة السيئة اصح وسائل علاجها، ومعرفة المرحلة البهيجة تدر وسائل حمايتها أما أن يعنى الشاعر والروائي ببشائر الأمل، واليأس مطبق على المرحلة فهذا تجاوز للواقع وتغرير بالافهام فليس الأدب مرح أطفال ولا يأس العجائز، وإنما هو معرفه لطريقة عامه لأسرار الواقع عن طريق ظواهره وعندما يكون الواقع في ذاته شائهاً وحزيناً فلابد أن ينعكس على الأدب بأحزانه ومراراته ولعل المرارة من الواقع أو تشخيص أفكاره أول أسباب أزمته وأول أسباب تبني أفضل منه وقد دلل الأدب الرومنتيكي في بدء فلسفته على سوء الواقع من خلال الذات ودل الآخرين على اكتشاف هذا السوء ومحاولات محوه واستحداث واقع احفل بالهناء والإيحاء الجميل فأغاني الرومنتيكيه الحزينة من فيكتور هيجو وراسين قد دللا على تطورات الواقع وأدى هذا التدليل إلى الثورات السياسية والصناعية تخلصاً من الواقع الحزين الذي أوحى الحزن الى أغاني الشعر وفصول الروايات إن الأدب لا يخلق الواقع وإنما يجسمه ويعد النفوس لمواجهته كما هو. كل ثورات العالم سبقها أدب حزين شديد التبرم والتشاؤم لأن التشاؤم يقظة العقل وأساس لرفض كل شيء وقبل الثورة الشعرية كانت بكائيات إبراهيم ناجي وعلى محمود طه ومحمد عبد الحليم عبدالله أسمى مرايا للواقع الحزين وما يمتد فيه من بؤس انعكس على القلوب الباكية في الدمع والباكية بالإنشاد بالألوان والنغم وقد جاءت الثورة المصرية عام 52 كرد فعل على الواقع الحزين الذي شد أوتار الحزن على النفوس وقبل الثورة السوفيتية كانت تشاوميات كرستوي فيسكي ومرارات بوشكين من خلال تجسيد هذا التشاؤم والمرارة التي تغلغلت في الواقع الخالي من أي بصيص والمملوء بالبصائر والأبصار. لكل أنواع الخوف والرعب لقد كانت مرضيات فوسكي وبوشكين أصفى المرايا التي انعكست عليها وجوه الواقع الكالح وعن طريق معرفة وجوه الواقع تسهل مواجهته أو تحتم مواجهته مهما كانت التضحيات وقبل الثورة العراقية كانت مأسويات السياب ورومنتيكيات البياتي ونازك الملائكة أجهر نواقيس الخطر لأنها جسدت مأساوية الواقع ونبهت إلى ما يحمله من أخطار . فلم تنشأ الثورات من مرحه الأغاني ولا من أغاريد الأمل وإنما جاءت من تكثيف مأساوية الواقع وتلحين مراراته وبإغنيات من بكاء . ولم تتفجر الأحداث في بلادنا إلا من أنفاس الشعر الحزين ونبضات الأغاني المأساوية من أمثال قول الزبيري أمل غير متاحٍ وفؤاد غير صاح . لان الحس بضياع الأمل يحث عن الأمل , لقد إستمرت أغنيات الحزين تدق الأجراس في بلادنا أكثر من عشرين عاماً : ما لليمانيين في نظراتهم بؤساً وفي كلاماتهم آلام والناس بين مكبلاً في رجله قيد وفي دمه البليغ لجام ُ ألم يطرح الزبيري الواقع كما هو دون أن يبشر بخلاص أو يأمل في صناعة ماهو أفضل إنما عرى الواقع لكي تنجلي خفاياه من ثنايا ظواهره ومثل الزبيري والعزب والشامي والحضراني , وتوالت الانتفاضات والثورات نتيجة الحس بسوء الواقع دون أن يبشر الشعراء بغد أبهج أو مستقبل أصفى , وإنما بلوروا صورة الواقع بهوله وإرعابه حتى لا يستسهل المضحون التضحية ولا يعتبرون النضال حفلة عرس , إن تكثيف صورة الواقع المرير أدى إلى التمرد عليه والحشد لمواجهته والتغني بالفجر المقيل مجرد التهيئة بالأحلام إذا لم تستنفر الكلمة لخوض الليل الشائك حتى يكون العمل النضالي صباح الصباح : لقد كانت أولى مراحل الرومنتيكية انعكاس للحزن الواقع وليس عشقاً للحزن العاطفي ولا تغنياً بآهات العواطف لأن الأدب انعكاس ممتد للمرحلة المشرقة والمرحلة الكالحة , ولما تمخض الأدب الواقعي من أرحام الرومنتيكية تجلى في نفسه معاناة الواقع وإمكان التخلص منه فجمع الأدب بين تجسيد المرارة وبين خيوط الأمل بإمكان الخلاص , لهذا كانت قصائد الخمسينات في بلادنا أدعى الى الأمل وأقرب إلى الشحوب الذابل : فاقطعوا ألسنة الكتاب ويحكم ففجرهم يا أعادي مجدهم آتٍ فهذا البيت وأمثاله من شعرنا في الخمسينات يجمع بين صورة الإرهاب ويشير بأصبع وردية إلى جبين الفجر المنتظر وقد توالت القصائد تستند لأحزان الواقع وكثافة إرهابه وتجرئ النفوس على اقتحامه تحت مبدأ ( إن الشعوب لا تقهر ) وقد صدرت مجلات وكتب تعتمد على شفافية المرحلة وعلى أمل الخلاص منها وكانت جريدة (الأمل ) تمثل نقطة ضوء في حمره الظلام المزيج با الإرهاب والتضحية , وتعالت الأغاني بالفجر في أشعار (علي صبرة , عبدالرحمن الامير ., إبراهيم الحضراني , إبراهيم صادق ) التي كانت قصيدته ( عودة بلقيس ) لتضع صور التشؤم على اعتبار ان ثقافة المرحلة تحشد الجهد الشعبي لإنهائها , لا ن المآسي الشعبية طويلة الأعمار إذا لم تستعجلها مبادرة الشعب بنفير الكلمة , كما عبر إبراهيم صادق : هذي صنعاء ذئب يعوي زهر في أكمام يذوي فاس في أشجار تهوي كتب صفر سما تروي ولعل الأدب من بدايات الخمسينيات الى اليوم يعتمد على التحذير والتبشير معاً , التحذير حتى لا يستسهل المناضل صعوبة الشوط , والتبشير حتى لا يقعده اليأس إن صح أن هناك يأساً ويمكن لإشعار الثوار الفلسطينيين أن تقدم أصدق دليل فعلى شده التفاؤل ( محمود درويش ) فأنه لا يغفل الاشاره الى صعوبة طريق النظام ولكنه يبشر بنهاية سعيدة يادامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل نيرون مات ولم تنزل روما بعينيها تقاتل وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل فالشاعر لا يبشر فقط وإنما يهول المرحلة بدم الكفين وزرد السلاسل والموت الذي يلد الحياة كما تلد الحبات المدفونه سنابل الحقول , فقد جمع هذا النص وأمثاله كثير بين صورة الواقع المشئوم وبين الأمل في الخروج منه ولكن عن طريق الأشلاء والدم , فهل في تجسيد المرارة خيانة للأمل أو التفاؤل وإن هذا الجمع بين لون الواقع وجسامه التضحية تبرير الأمل ومشروعية الحلم الجميل باعتبار أن الامل المشروع هو الذي ينبت على أرض اليأس والمرارة كما قال سميح القاسم : أول الغيث دم ثم ربيع فهو لم يتغن بورود الربيع قبل أن تعد بواكره من نقط الدم , لأن تلك النقط الحمراء أول براعم موسم الخصب فليس هناك حزن أو فرح في الأدب وإنما هناك ما يكشفه أدب ويدل عليه الإفهام والأعمال لأن التبشير وحده تناسي للجهد الذي يصنع الأمل الحقيقي والتيئيس وحده تجاهل حركه الفلك بمفاجئه الحياة بقدرة الإنسان فالأدب مبشر ومحذر بحزن مبين يقهر حوله الحياة فيوحي بأغانيه الحزينة إلى المشاعل أن تعقد وترتفع حتى يحترق الحزن وأسبابه ويبشر حين يرى أعراس الأفراح الاجتماعية لا لكي يلهي عن الأخطار المنتظرة وإنما يستفز لحماية الأفراح من مباغتات الانعكاسات المنتظرة والمفاجئة لذى تجد الشاعر الواقعي مبشراً في قصيده وباكي مبكي في آخرى ومحذراً في ثالثة لأن الديوان من الشعر عدت مرايا لوجوه الواقع المتعددة المتقلبة . فليس الأدب النضالي نغمة واحدة ولا مستوحى واحد وإنما عده أصوات لأن للواقع عده مؤثرات .. ومثل الشاعر الروائي فأبطاله في رواية منحلون وفي رواية صامدون وفي آخرى مذنبون بين الطموح والعجز . ولعل زقاق المدق لنجيب محفوظ اصدق صورة لتهافت الأبطال بفعل انهيار واقعهم تحت أضواء العصر المفاجئة قبل عصرية النفس الحميدة تسقط عندما اتسعت أضواء الانتخابات على وجهها ( وعباس الحلو) يسقط تحت أحذية الانجليز حين حاول إنقاذ ( حميدة ) ويتهاوى حي زقاق المدق بيتاً بيتاً لأن أنوار العصر فاجأته قبل أن يمتلك العيون القوية لكنه في رواية ( بين القصرين ) يجمع بين عنف الواقع وعنف مقاومته : فالأدب أجلى صورة الواقع ومادام الواقع كثير الوجوه فلا بد أن يكون الأدب كثير المرايا : والمهم أمانه الكلمة فلا فرح في حزن الواقع ولا ديمومة فرح في ضوء مباهجه . صحيح لأن الأديب أحس بشوق الحياة من ورودها ولكنه على رغم حساسيته بالألم لا يخلو من حس البشرى وأغاني البشائر , لأن الحياة مهما قست لا تخلو من عناء ومهما مرت فلن تبخل بالحلاوة من حين إلى حين , إلا أن الأدب لم يعد محض مزاج شخصي , وإنما هو وجدان جماعي يدلل على الخطر ويهنئ بالفرح ويعكس بمراياه كل وجوه الواقع تحت ضوء الفهم وإرادة العمل .