بحث مقارن لحملات الغزاة المتعاقبة على اليمن عبر التاريخ خلص إلى أن الغزاة لايستفيدون من التجارب بخروج المسعود الكامل تعددت الثورات اليمنية على الأيوبيين وتعرضوا في أوقات متلاحقة لهزائم ساحقة تبنى الأيوبيون في محاولة إخضاعهم لليمن سياسة العنف والقسوة حتى لقد أقدموا على ارتكاب عدة مجازر بشعة بحق اليمنيين نستكمل حلقتنا لهذ العدد عرض الفصل السابع من هذا البحث والذي تناولنا في حلقات سابقة استعراض الجزء الأكبر منه والذي خصصه الباحث للغزو الأيوبي لليمن في القرن الحادي عشر الميلادي لنضع القارئ أمام صورة مكبرة ومقربة لتصرفات الولاة الأيوبيين وفسادهمومجازرهم الفضيعة الذي أدى إلى ثورة الشعب اليمني عليهم في معارك عديدة، فإلى الحصيلة: عرض/ امين ابو حيدر فساد الأيوبيين والصراع على الحكم : اتسمت تلك الفترة بالمؤامرات بين القادة التابعين للأيوبيين وقد امتدت حتى قدوم سليمان الأيوبي الذي أصبح الحاكم، وتذكر مراجع تاريخية أن زوجة الملك الناصر استدعته إليها في حصن تعز وطلبت منه أن يقوم بشؤون الحكم في الدولة الأيوبية في اليمن قائلة له: « إنا نخشى أن يطمع فينا العرب ونحن نساء لاحيلة لنا وقد ساقك الله إلينا فقم بملك ابن عمك واستولِ على ملك اليمن» فأجابها إلى طلبها وجلس على سرير الملك وحلف له الجند وكان ذلك يوم الخميس 22ربيع أول وأضاف الجندي قائلاً:«فقام الملك قياماً ضعيفاً واشتغل باللهو واللعب واللذات مع النساء حتى تضعضع الملك وكان إذا سكر يرقص ويقول: أنا مشغول بأيري فانظروا للملك غيري» . وكان سليمان الأيوبي ظالماً شاذاً واستمر في الحكم حتى قدوم المسعود الكامل وتعليقاً على ذلك فإن الكثير من المراجع التاريخية لم تتطرق إلى الفساد الأخلاقي للأمراء والقادة والولاة الأيوبيين عدا بعض المراجع غير أن رسائل الإمام عبدالله بن حمزة تشير إلى أن من أهم أسباب الثورة المظالم والمنكرات منها رسالة إلى ورد سار قال فيها: وشد على نوابك في تهامة واظهر في صنعاء العدل ولسنا نجهل ما في وجهك من شحنة الأجناد وهم لايغنون عنك شيئا ولاينفعونك إلا في الأمر الخفيف وهل دافعوا عنك يوم خرجت من عدن خائفاً على نفسك من إسماعيل واعلم أن الخمر جماع الإثم والقمار تلف المال وسير السفهاء وإن كان من الملوك من يشرب الخمر ففيهم من لايشربها ويرفع قدره عنها وقد بايعتنا طائعاً غير مكره فاعتمد طريق الوفاء بما عاهدت الله عليه . وفي رسالة أخرى يقول: وإذا كانت بيوت الخمر مقبلة والضرائب على الفواسد مثقلة والنفوس بنغمات الأوتار معللة ويدعي من يرتكب ذلك أن الحق له هيهات هيهات ما أجهله وأغفله . ثورات في جبل صبر وتهامة والمخلاف السليماني : في عهد (سليمان الأيوبي) ثار أبناء صبر على الأيوبيين ورغم أن المراجع التاريخية لم تذكر أسباب هذه الثورة إلا أن ما يمكن قوله إن ظلم الأيوبيين وفسادهم لم يقتصر على منطقة دون أخرى بل كان يشمل جميع اليمنيين، ونظراً لما تحتله منطقة صبر من أهمية عسكرية نظراً لقربها وإطلالتها على تعز عاصمة الغزاة الأيوبيين قرر سليمان الأيوبي إرسال حملة عسكرية لقمع الثورة وذلك بقيادة أبي شامة وصالح بن هشام وما إن وصلت الحملة إلى جبل صبر حتى خرج الأهالي مؤكدين رفضهم وسخطهم ومعلنين ثورتهم، وتقاتل الطرفان قتالاً شديداً أدى في النهاية إلى هزيمة الحملة العسكرية الأيوبية ومقتل قائديها وكانت الهزيمة ساحقة فقد قتل إلى جوار القائدين مائة فارس من قادة الجيش وفي نفس الفترة خرج أهالي منطقة السهلية بتهامة على الأيوبيين وقرروا مواجهتهم فأرسل إليهم سليمان الأيوبي حملة عسكرية بقيادة الأمير سيف الدين بن عصبة وتمكن من القضاء على الثورة. واندلعت ثورة في المخلاف السليماني بقيادة الأمير المؤيد بن القاسم الذي هاجم الأيوبيين وشن الغارات على المحاليب في تهامة وكان قد أعلن بيعته للإمام .وعندما تمكن الأيوبيون من أسر المؤيد تمكن الجيش المنصوري التابع للإمام من أسر عدد من الأمراء الأيوبيين منهم آخر عامل على صعدة مع سبعين فارساً من أتباعه أما في المناطق الشمالية فقد تمكنت المقاومة بقيادة الإمام عبدالله بن حمزة من استعادة صنعاء وتحرير ذمار ومناطق واسعة وذلك في العام 1214م، وكانت قبائل إب وعلى رأسها بني حبيش قد مالت إلى الهدنة والصلح مع الأيوبيين بعد عدة حروب بينهما فبعث الإمام إلى بني حبيش يحثهم على مواصلة الجهاد ضد الغزاة وظلت قبائل برع ترفض الخضوع للأيوبيين رغم محاولاتهم استمالة مشائخها الذين كانوا يمتنعون عن الاستجابة، وكانت مناطقهم عصية على الأيوبيين . حملة الملك المسعود الكامل : أثار توسع المقاومة اليمنية بقيادة الإمام عبدالله بن حمزة فزع الأيوبيين وغيرهم من خصوم الإمام حتى أن أصداء هذا التوسع بلغت مقر الخلافة العباسية في بغداد، وتشير بعض المراجع إلى أن رسالة وصلت الخليفة العباسي من أحد أتباع المطرفية في اليمن تحذره من الإمام عبدالله بن حمزة وتوسع نفوذه وهو ما دفع الخليفة إلى حث الأيوبيين في مصر على قتال الإمام وقد جهز الأيوبيون حملة عسكرية كبيرة بقيادة المسعود الكامل قوامها ألف فارس وخمسمائة من الرماة والجاندرية وسارت الحملة بنفس خط سير الحملات الأيوبية السابقة خاصة حملة توران شاه وما إن وصلت إلى زبيد قادمة من حرض حتى وصلت المؤن لها عن طريق البحر . وتشير بعض المراجع أن الحملة كان يقودها كل من (المسعود الكامل) و(جمال بن فليت) الذي سيتوجه على رأس قوة عسكرية إلى المناطق الشمالية لشن الحرب على الإمام، وبالفعل قاد (ابن فليت) حملة عسكرية قوية اتجهت إلى المناطق الشمالية وكان الإمام قد أمر بهدم دور الأيوبيين في صنعاء حتى لايستفيدوا منها وقرر اللجوء إلى الحصون القريبة من صنعاء . معارك سنحان : في سنحان المتاخمة لصنعاء من جهتها الجنوبية الشرقية خرج الأهالي بقيادة الشيخين الفضل وراشد ابني المظفر بن الهرش السنحاني عن الأيوبيين بإعلانهم الولاء للإمام، وسيطروا على حصن (كنن) وقاموا بقطع طرق الإمدادات عن الجيش الأيوبي المتواجد في صنعاء، وبعد ذلك اتجهوا للسيطرة على حصن (براش) المطل على شرق صنعاء وطلبوا من الإمام مدهم بالجند فأرسل إليهم تعزيزات عسكرية بقيادة ابنه عز الدين محمد وذلك في العام 1217م وتظهر الخلافات بين القبائل ومراكز النفوذ مجدداً فقد انحاز بنو حاتم للأيوبيين نكاية بالإمام وأتباعه في سنحان ومن أجل إخضاع سنحان وصلت القوات الأيوبية وعسكرت في (بئر الخولاني) وذلك لمحاصرة جبل (كنن) وجرت عدة معارك بين الطرفين . وقد دفعت وفاة (جمال بن فليت) القائد الأيوبي (المسعود الكامل) إلى قيادة حملة عسكرية أخرى توجهت إلى سنحان وقامت بتشديد الحصار على كنن وفي نفس الفترة تُوفي الإمام عبد الله بن حمزة وقد انتهى الحصار بالمصالحة بعد أن تمكن الأيوبيون من السيطرة على حصن (براش).. و اتجه المسعود الكامل إلى قيادة حملات عسكرية إلى المناطق الشمالية كما كان يفعل من قبله القادة الأيوبيون وكانت أول حملة يقودها إلى مناطق شمال صنعاء في نوفمبر 1218م ، حينها كانت الخلافات قد أدت إلى إشغال اليمنيين عن مواجهة الغازي الذي تمكن هذه المرة من السيطرة على مناطق شمال صنعاء وغربها ومن ثم اتجه نحو شمال الشمال وعلى وقع الخلافات أيضا وصلت الحملة الأيوبية في تلك الفترة إلى منطقة حوث التي أمر القائد الأيوبي بهدمها ، وقاومت بعض القبائل الغازي الأيوبي سيما في مناطق حاشد بظفار ذيبين من بلاد ظليمة ، وقبل أن يتوجه المسعود على رأس حملة إلى حوث والجوف واجه تمرد مخلاف الشوافي في بلاد إب، الذي كان قد تحرك على الأيوبيين فيما يبدو . معارك يريم ومعركة عصر : بخروج المسعود الكامل من اليمن تعددت الثورات على الأيوبيين ففي 1226م تعرض الأيوبيون لهزيمة ساحقة في منطقة يريم وذلك على أيدي أتباع (مرغم الصوفي) من أبناء قبائل بني مسلم وبني سيف وقبائل عتمة وعنس وجنب ، وكان الأيوبيون قد أعدوا حملة عسكرية للقضاء على ثورة (مرغم) بقيادة (نور الدين عمر بن رسول) وما إن وصل الجيش الأيوبي حتى بدأت المعركة التي انتهت بهزيمة الأيوبيين وتمكنت القبائل من مطاردة قائد الحملة الأيوبية وبعض جنوده الفارين ومن ثم محاصرتهم في حصن ذروان وأثناء الحصار تمكن (نور الدين) من بعث رسائل إلى أخيه في صنعاء الذي جهز جيشاً كبيراً توجه إلى يريم وتمكن من هزيمة القبائل وفك الحصار على الحصن ، وفي منطقة سنبان اعترضت القبائل الجيش الأيوبي ووقعت المعركة التي انتهت بانتصار الأيوبيين ، ولم يكتف الأيوبيون بفك الحصار والتنكيل بالأهالي في يريم وفي سنبان فبعد عودة المسعود الكامل من مصر قاد بنفسه حملة عسكرية أخرى وتوجه بها إلى يريم وتحديداً إلى بني يوسف وارتكب فيها الجرائم ضد البشر والحجر. وكانت القبائل قد احتشدت بقيادة عز الدين عبد الله بن حمزة في منطقة عصر غرب صنعاء ونشبت المواجهات التي أبلى فيها أتباع الإمام بلاءً حسناً بحسب المؤرخين إلا أن وقوف بني حاتم إلى جانب الأيوبيين كان وراء هزيمة أتباع الإمام. نهاية الحكم الأيوبي : نلاحظ أن فترة المسعود الكامل شهدت ثورات عدة وفي أوقات متقاربة إن لم تكن متزامنة وقد امتدت تلك الثورات من المناطق الشمالية إلى الوسطى بل وحتى تهامة والمخلاف السليماني، وكان الملك المسعود قد قرر مغادرة اليمن فاصطحب الهدايا والأموال والتحف وأناب عنه نور الدين عمر بن علي بن رسول الذي استمر في حكم اليمن لمدة عامين باسم الأيوبيين ثم استقل بالحكم، وحتى يقتربوا من اليمنيين أكثر وأضفوا على حكمهم الشرعية الوطنية يقول بعض المؤرخين إن بني رسول ادَّعوا اليمنية فقالوا بانتسابهم إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك دولة الغساسنة اليمنية فيما يشير المؤرخ الشماحي إلى أن بني رسول بالفعل ينتسبون إلى جبلة بن الأيهم وأنهم يمنيون وفي اليمن حالياً الكثير من أبنائهم . وقد استفاد عمر بن رسول من فترة الأيوبيين وتعرف على طبائع اليمنيين فعاملهم بالعدل كما تتحدث أغلب المراجع التاريخية بل قرَّب إليه الكثير من اليمنيين واستعان بهم في إدارة الدولة وتمكن من كسب مراكز النفوذ في اليمن من خلال مصاهرتهم وإشراكهم بالحكم، وكذلك بقايا الأيوبيين وكانت علاقته بالأئمة أفضل مما كانت عليه علاقة الأيوبيين بهم وقد شهدت فترة الدولة الرسولية اضطرابات وثورات منها ثورات قبلية في تهامة وإب إضافة إلى تمرد حضرموت ولم يستقر الوضع لهذه الدولة إلا لفترات بسيطة ، واتجهت الدولة الرسولية إلى الاستفادة من الموقع المهم لليمن من خلال تنشيط حركة التجارة وكذلك الاتجاه إلى البناء والعمران وشهدت فترتهم رغم الاضطرابات إنجازات على الصعيدين العلمي والتجاري، وعلى أنقاض الدولة الرسولية تأسست الدولة الطاهرية والتي انتهى عهدها بقدوم الغزوين البرتغالي والمملوكي كما سنتابع ذلك في الجزء الثاني. نتائج السيطرة الأيوبية على اليمن : تبنى الأيوبيون خلال فترة محاولة إخضاع اليمن سياسة العنف والقسوة ولهذا نجد أن مرحلتهم شهدت ارتكاب عدد من المجازر البشعة بحق اليمنيين واستخدموا وسائل جديدة في التعذيب منها الحرق وعصر الرؤوس والأرجل إضافة إلى الوسائل التقليدية كهدم القرى والقصور والقلاع والحصون وإتلاف الأراضي الزراعية ، وإعدام المناهضين والنفي ومصادرة الأموال ومما يميز مرحلتهم عسكرياً استخدامهم المجانيق وفي تعاملهم مع اليمنيين لم يترددوا على تصفية علماء حضرموت وممارسة ابشع اعمال النهب والسلب ناهيك عن الفساد المالي الكبير الذي لم تتمكن المراجع التاريخية المنحازة من تجاهله أو التغطية عليه فقد كان الفساد هو السمة البارزة للأيوبيين وولاتهم وقادتهم في اليمن الذين نهبو الأموال وبشكل لايتصور وهو ما سنعرفه من خلال الكنوز القارونية للولاة في عدنوزبيد وبقية المناطق إضافة إلى ما كانوا يجنونه من أموال جراء الجبايات المرتفعة ،محاولة مصادرة الأراضي الزراعية ،استغلال ثروات الأرض اليمنية ومنتجاتها بروح انتقاميه طالت عرق أبنائها وكدهم وتعبهم واتضحت النوايا المبيته للأيوبيين من خلال استقلال ضعف وتفرق اليمنيين فيعملون على معاقبتهم عقب كل ثورة أو تحرك ضد الغازي بفرض غرامات مالية كبيرة كما حدث لأهل صنعاء. وقد قاوم اليمنيون الغزاة في زبيد وفي تعز وفي إب وفي ذماروصنعاء وصعدة وعمران والمحويت والجوف وريمة وعدن وفي حجة وفي حضرموت بمعنى أن غالبية المناطق اليمنية شهدت مقاومة للأيوبيين كانت المقاومة تتصاعد وتختفي في فترات مختلفة وهذا يؤكد أن الشعور اليمني الممتد إلى ما قبل التاريخ اليمني والمتمثل في رفض الغازي ظل حاضراً في وجدان اليمنيين وإن كان قد برز في تلك الفترة كحالة ردة فعل على جرائم وفساد المحتلين ، وظلت منطقة صبر في تعز عصية على الأيوبيين من عهد توران شاه إلى سليمان الأيوبي وكذلك حصون الدملؤة وجبل حبشي وبعدان وكوكبان وبراش وكنن وأشيح وغيرها من الحصون ظلت شاهدة على رفض اليمنيين للغزاة ورغم بعض التناقضات في مواقف بعض القبائل إلا أن غالبية القبائل اليمنية قاومت وبشراسة العنف الأيوبي ولم تخضع له وسجلت قبائل ذمار حضوراً مهماً من خلال تصديها المستمر واستماتتها في المقاومة وكذلك كان هناك حضور لقبائل وصاب وعتمة في تسجيل معركة انتصار للإرادة اليمنية بعد أن حاول الأيوبيون إرغام أبناء تلك المنطقة على قتال الإمام عبد الله بن حمزة وبعد أن فرضوا عليهم الجبايات والضرائب المرتفعة وفي صنعاء والمناطق الشمالية تكبد الغزاة مرارة الهزيمة وتحولت مناطق غرب صنعاء إلى مقابر حقيقية للأيوبيين وكذلك في جبل صبر بتعز ، وفي حضرموت أيضاً تلقى الغزاة صفعات مدوية أدت بهم إلى الرحيل والمغادرة . صعوبة السيطرة العسكرية : حاولنا الاطلاع على أغلب المراجع التاريخية التي تحدثت عن تلك الفترة ووجدنا أن السيطرة العسكرية الأيوبية على اليمن لم تشمل كل اليمن لا الحالي ولاالتاريخي وظلت في مناطق معينة تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر وفي غالبية المناطق لم تكن السيطرة كاملة ومستقرة . ويمكن تقسيم تلك المناطق إلى مناطق السيطرة الكاملة وهي تهامة وتعزوعدن ولحج وأبين وأجزاء من إب ومناطق سيطرة جزئية وهي التي دخلها الجيش الأيوبي إلا أنه لم يستقر فيها وظلت مناطق صراع بين الغزاة والأهالي وعلى رأسها صنعاء ومحيطها وذمار ومحيطها ومناطق دخلها الجيش الأيوبي لفترات قصيرة جداً قد لاتتجاوز الأسابيع بل الأيام وهي كافة المناطق شمال وغرب صنعاء كعمران وحجة وصعدة والجوف. إضافة إلى مناطق دخلها الأيوبيون لأشهر فقط وهي حضرموت.. وبشكل عام لم يتمكن الأيوبيون من إخضاع اليمن بأكمله فقد ظلت فترة بقائهم غير مستقرة حتى في تلك المناطق التي تكاد تكون الأقل من حيث مستوى المقاومة والرفض. لقد ظل الغازي في حالة قلق دائم حتى أنه لم يشهد سنة واحدة من سنوات احتلاله إلا وشهد فيها أحداثاً عدة ما بين ثورة وانتفاضة وتمرد وغيره ،فمثلاً بلغت عدد الحملات العسكرية الأيوبية لإخضاع ذماروصنعاء ما بين العشر والعشرين حملة وبلغت الحملات العسكرية القادمة من مصر ما بين ثلاث أوأربع حملات خلال طول الفترة الأيوبية في اليمن واحتاج الأيوبيون من أجل إخضاع حضرموت أكثر من حملة ومع ذلك فشلوا وفي المناطق الشمالية كان القادة الأيوبيون يعدون حملات عسكرية سنوية تقوم بالمرور من المناطق الملتهبة وذلك لتأكيد السيطرة فقط وتكلف هذه الحملات الكثير من المال والجهد وما إن تعود إلى المناطق الجنوبية حتى يتحرر الشمال مجدداً، ولهذا لم يُبقِ الأيوبيون على حاميات عسكرية تضمن السيطرة الدائمة على المناطق الشمالية بسبب العمليات الهجومية التي كانت تتعرض لها الحملة العسكرية خلال فترة اختراقها للمناطق الشمالية ومن ثم عودتها إلى المناطق الجنوبية. كل ذلك يؤكد أن الأيوبيين سيطروا على السواحل واستفادوا من عائدات النشاط التجاري في الموانئ وجنوا الأموال الهائلة في الوقت الذي سيطروا فيه بشكل شبه دائم على بعض المناطق الداخلية واستفادوا من محاصيلها وثرواتها والضرائب والزكوات أما بقية المناطق فلايمكن الجزم باستفادتهم منها بل خسروا فيها كثيراً من الجهد والمال والرجال وظل الغازي في حال استعداد دائم للمواجهة وهذا مكلف جداً ناهيك عن حاجته الدائمة لتعزيزات عسكرية من مصر ولتجنيد المرتزقة اليمنيين وغيرهم . النيل من المقاومة اليمنية : تكاد تكون الكثير من المراجع التاريخية منحازة للأيوبيين بشكل كبير جداً وتحاول أن تظهرهم في موقع البطولة وفي جانب الحق وتريد أن تصور لنا أن ما حدث من جانب اليمنيين ضد الأيوبيين لم يكن إلا تمرداً يستوجب العقاب وليس غير ذلك ، والأشد أنها تحاول أن تقول لنا إن فئة أو طائفة واحدة من اليمنيين هي التي قاومت الأيوبيين وإن بقية اليمنيين استجابوا للوحدة الإسلامية ورحبوا بالغزاة ،ونحن هنا نتساءل إذا كان الأمر كذلك فلماذا خرجت حضرموت عن بكرة أبيها لطرد ودحر الأيوبيين الذين ارتكبوا فيها المجازر الدموية الفظيعة ،ولماذا قاوم أبناء وصاب وعتمة وتعز وقبلهم زبيدوعدن كما كانت صعدة والجوف وحجة وعمران تقاوم ببسالة وتصمد حتى اعتبرت صعدة عصية على الأيوبيين ؟! وحتى نكون منصفين فإن المقاومة اليمنية للأيوبيين لم تكن لتحدث لولا الجرائم الأيوبية وانتهاكهم لعادات وأعراف المجتمع اليمني المحافظ بمعنى أن اليمنيين لم يقاوموا الأيوبيين ترفاً أو بحثاً عن استقلال وطني كما هو مفهوم الحاضر بل كان واجباً دينياً وأخلاقياً ودفاعاً عن النفس والكرامة فأي موقف ننتظره من أهالي قرية من القرى وهم يشاهدون جنود الأيوبيين وقد أمعنوا في الهدم والقتل والتشريد والنهب وقطع الزرع بالتأكيد فلن يقفوا مكتوفي الأيدي بل سيهبون بكل ما أوتوا من قوة للدفاع عن منازلهم وقراهم ومزارعهم ،وماذا نتوقع من أهل مدينة تعرضوا لصنوف العذاب هل الخضوع أم الانتصار لآدميتهم وكرامتهم؟ بالتأكيد سنتوقع منهم الكفاح والنضال بل والاستشهاد من أجل عدم البقاء لحظة واحدة تحت سطوة القهر والعذاب ، ومن هنا وببساطة تشكلت المقاومة وتنامت وتضاعفت من واقع حقوقي بحت وبهدف رفع المظلومية وإزالة الظلم . ويمكن القول هنا إن ما في هذه السطور المكتوبة عن تلك المرحلة ما يتناقض مع هدف المؤرخين وتبريراتهم ، وما بين الصفحات ما يثير الدهشة ويستدعي الغرابة ويستوجب التوضيح والرد والتفنيد، وحرصاً على أن تصل الصورة كما هي إلى القارئ الكريم فقد اعتمدنا في إعداد هذا الجزء من مقبرة الغزاة على مؤلفات ومراجع تاريخية متعددة لكتَّاب ومؤلفين من مختلف التوجهات والمشارب الفكرية والمذهبية حتى نستطيع الوقوف على تلك المرحلة بما يفضي إلى الاستفادة منها ضمن قراءة تاريخ اليمنيين مع الغزاة والمحتلين. الخلاصة : من خلال تتبع ما كتب عن التواجد الحبشي في اليمن والعلاقة بين اليمن والحبشة في القرون الأولى بعد الميلاد يمكن تقسيم مراحل هذا التواجد أو بالأصح الاحتلال والنفوذ إلى ثلاث مراحل : الأولى : مرحلة ظهور مملكة أكسوم وتوسعها وأطماعها في مد نفوذها إلى اليمن (الجهة الشرقية من البحر الأحمر) وكانت هذه المرحلة في نهاية القرن الأول الميلادي والنصف الأول من القرن الثاني الميلادي وتحضر في هذه المرحلة قصة الصراع المحتدم بين مراكز النفوذ في اليمن أو بين الدويلات اليمنية والممالك وسعي مراكز بعينها للسيطرة على الحكم وكيف أن هذا الصراع مكن الأحباش من التدخل في الشأن اليمني بتغذية تلك الخلافات والوقوف لجانب طرف ضد آخر وذكرت المصادر التاريخية قصة علهان بن نهفان واستعانته بالأحباش والصراع بين سبأ وحضرموت من جهة والريدانيين من جهة أخرى وكيف أن الأحباش تحالفوا فيما بعد مع الحميريين ضد الهمدانيين السبئيين، وشهدت هذه الفترة مقاومة للتواجد الحبشي بدرجات متفاوتة وذلك عبر الغزوات والهجمات على المناطق الغربية وتميزت هذه المرحلة بأن الاحتلال الحبشي كان يركز على السواحل الغربية فكانت السيطرة الحبشية تتسع تارة وتتقلص تارة أخرى غير أن السواحل الغربية بحكم أهميتها التجارية ظلت خارج سيطرة نفوذ الدولة اليمنية أو الحميرية وقتها واتسعت السيطرة الحبشية في أوجها لتشمل سواحل جيزان شمالاً وحتى عدن جنوباً. الثانية : مرحلة ممتدة من النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي وحتى الربع الأول من القرن السادس الميلادي وفيها استمر النفوذ الحبشي خلال هذه المرحلة وبمستويات مختلفة في المنطقة الساحلية الغربية لليمن غير أن الدولة الحميرية تمكنت من استعادة قوتها وحضورها في الإقليم والعالم ونشطت الحركة التجارية والعلاقات السياسية ، وقد أدى التسامح الذي أبدته الدولة الحميرية لأغراض اقتصادية بحتة إلى بروز جالية مسيحية حبشية ورومانية إضافة إلى اعتناق يمنيين للمسيحية كل ذلك أدى إلى نفوذ كبير للأحباش والرومان على حساب حضور الدولة اليمنية وقوتها. عادت الغزوات الحبشية للساحل الغربي مستفيدة من تعاون المسيحيين اليمنيين ومن الخلافات اليمنية اليمنية وبدأت المقاومة اليمنية لتلك الغزوات وتطهير البلاد من الطابور الخامس سيما على يد الملك يوسف أسأر يثأر وبعد تلقي الأحباش وأتباعهم خسائر كبيرة في ثورة يوسف أسأر أثأر تؤكد الكثير من المصادر منها الغربية والعربية أن قضاء الملك الحميري على أتباع الحبشة كان وراء تحرك بيزنطه التي دفعت بالحبشة إلى تجهيز حملة عسكرية كبيرة قدمت عبر البحر ووصلت إلى المناطق الساحلية بين المخا وباب المندب. المرحلة الثالثة : منذ هزيمة ذي نواس 525م ودخول الحملة الحبشية الكبيرة والتي تمكنت من السيطرة على عدد من المدن وتدمير القصور والقلاع وإشاعة الخراب وبث الفوضى واستمرا المقاومة اليمنية واشتعالها حتى 575م حين تمكن اليمنيون من طرد الأحباش وهزيمتهم لتدخل اليمن في مرحلة جديدة. وخلال المرحلة الثالثة التي يطلق عليها الكثير من المؤرخين الاحتلال الثاني حدثت ثورات أهمها ثورة الأقيال بقيادة يزيد بن كبشة وثورة ضد أبرهة في مأرب الذي تمكن من الإطاحة بالملك اليمني الصوري التابع للأحباش وكذلك القضاء على قائد قوات الحبشة أرياط ونصَّب نفسه ملكاً على اليمن وتلقب بلقب الملوك الحميريين وحدثت قصة الحملة العسكرية المتجهة صوب مكة حتى قُتل أبرهة وتولى بعده ابنه يكسوم فمسروق وفي عهد الأخير طُرد الأحباش من اليمن.