وكما هو معروف للجميع ، ففي أعقاب قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 م ، التي أطاحت بالنظام الإمامي الملكي في شمال اليمن بدعم مصري ، حاولت السعودية جاهدة اسقاط الجمهورية الناشئة بدعم القبائل الزيدية في مناطق المرتفعات الشمالية . ومن أجل هذه الغاية ، توجه العاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز آنذاك إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية في زيارة رسمية ألتقى خلالها الرئيس الأمريكي جون كينيدي وكبار المسؤولين في ادارته. وقيل أن فيصل بن عبد العزيز أخبر المسؤولين الأمريكيين الذين ألتقى بهم في تلك الزيارة ، أن النظام الجمهوري الوليد في اليمن لن يصمد طويلا ، دون تدخل خارجي من الإتحاد السوفييتي ، وأراد بذلك استمالة الأمريكيين ضد الجمهورية العربية اليمنية الناشئة .ويعتبر الإتحاد السوفييتي أول دولة تعترف بالنظام الجمهوري في اليمن ، فيما جاء الإعتراف الأمريكي بالجمهورية في 19 ديسمبر 1962 م .وقد نصح الرئيس الأمريكي جون كيندي السعودية والأردن اللتان كانتا تدعمان الجانب الملكي في اليمن ، بإجراء اصلاحات داخلية لتجنب مصير الإمام محمد البدر في اليمن على حد تعبيره . وطالب الرئيس الأمريكي كيندي البريطانيين بدورهم بالإعتراف بالنظام الجمهوري في شمال اليمن حتى يؤمنوا موقعهم في عدن جنوبي البلاد ، وهو طرح لقي قبولا من لندن ، فيما رفضته سلطات الإحتلال البريطاني البغيض في عدن .وكانت الرياض تدعم الملكيين في اليمن بسخاء منقطع النظير ، واشتمل دعم السعودية للملكيين دفع الأموال الكبيرة وتوزيع جنيهات الذهب بغية شراء الولاءات القبلية وضمهم إلى الصف المعادي للثورة والجمهورية ، وقدمت لرجال القبائل من انصار الإمام الأسلحة الخفيفة مثل البنادق والقنابل اليدوية وغيرها . إلا إن تدخل بريطانيا ، ودولة الكيان الصهيوني في الحرب الدائرة في اليمن بين الجمهوريين والملكيين ، في ستينيات القرن الماضي ، قد نقل مايجري في هذا البلد العربي المضطرب من صراع إلى مستوى آخر أكثر خطورة ، حيث حشد البريطانيون آلاف من المرتزقة من مختلف أرجاء أوروبا وزودوهم بالأسلحة المتطورة للقتال إلى جانب الملكيين . ويرى محللون عسكريون إن خوض الجيش المصري لحرب عصابات في مرتفعات اليمن الوعرة والصعبة يعد نقطة استراتيجية لصالح إسرائيل في تلك الفترة ، فضلا عن عدم رغبة تل أبيب آنذاك بقيام نظام معادي للدولة العبرية في اليمن يسيطر على أهم ممرات العالم المائية ، والمتمثل هنا بمنطقة باب المندب .ومما يؤكد التدخل الإسرائيلي المباشر في حرب اليمن آنذاك قيام طائرات سلاح الجو الصهيوني بعبور الأجواء السعودية ، وإلقائها الأسلحة فوق عدد من المناطق اليمنية والمقدمة للجانب الملكي ، وكانت تلك الطائرات الإسرائيلية تتزود بالوقود في جيبوتي وتعود إلى الأراضي ا لمحتلة في فلسطين . وبحسب مصادر إسرائيلية وغربية متطابقة ، فقد كان للأسلحة الإسرائيلية المتطورة التي كانت تل أبيب تقدمها للملكيين في اليمن دورها الكبير في الحفاظ على المواقع الموالية للإمامة أمام الجمهوريين . ووفقا لخبراء استراتيجيين فإن ظهور دور إسرائيل في مجريات الأحداث في اليمن وتورطها في الصراع الذي دار هناك بين المعسكرين الجمهوري والملكي قبل أكثر من 50،عاما، بدا كعامل موازن هدف إلى الحيلولة دون تحقيق تقدم مصري على الصعيد العسكري في اليمن ، وضمان تورط القاهرة في صراع يمني - يمني ، واشغال جيش مصر بمعارك جانبية بعيدة تماما عن حلبة الصراع العربي - الإسرائيلي ومعركة عبد الناصر الأساسية حينها في مواجهة إسرائيل ، ومحاربة التواجد الإستعماري الغربي في عموم المنطقة . واللافت أن الفصائل المعادية للإمامة ، والرافضة لعودة نظامها لحكم اليمن لم تكن موحدة ، إبان حرب الثمان سنوات بين الجمهوريين والملكيين خلال الفترة من 1963 - 1970 م ، فهناك من كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم اسلاميين لاجمهوريين ولا ملكيين على حد تعبيرهم ، وهؤلاء هم مجموعة محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان ، وقد غادر الأول معسكر الجمهوريين ، وأتجه إلى المناطق القبلية يبشر برؤيته لوقف الحرب والتواصل مع رجال القبائل ومشائخهم بغية تحقيق مصالحة وطنية على أسس اسلامية لاجمهورية ، ولا ملكية وفق تعبير الزبيري نفسه الذي كان محسوبا على جماعة الإخوان المسلمين ومؤطرا فيها . وقد شرع الزبيري في تأسيس حزب الله اليمني المنبثق عن الإخوان إلا أنه أغتيل في شهر إبريل من عام 1965 م بمنطقة برط في ظروف غامضة وكان برفقته يوم اغتياله الشيخ عبد المجيد الزنداني القيادي المعروف في حزب التجمع اليمني للإصلاح الإخواني اليوم . وقد أكد الزبيري الذي تولى حقيبة المعارف في أول تشكيل حكومي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 62 م ، اختلافه ، بل ومعارضته لإسلوب الجمهوريين وطريقتهم في الحكم ، وأنتقد ماأعتبره مساوئ وتجاوزات للجمهوريين ، وذلك في مضمون قصيدته الحماسية التي أسماها الكارثة ، ومما جاء فيها قوله : والحكم بالغصب رجعي نقاومه حتى ولو لبس الحكام ما لبسوا يلفقون قوانين العبيد لنا ونحن شعب أبي مارد شرسُ ليت الصواريخ أعطتهم تجاربها فإنها درست أضعاف ما درسوا وقال الزبيىري في قصيدته أيضا: واليوم من أمسه الرجعي ينبجس! وخاطب الشعب اليمني بقوله: لولاكمو ما قام بدرٌ ، ولا حسنٌ إلى أن وصل إلى قوله : والبدر في الجرف تحميه حماقتكم وأنتم مثلما كنتم له حرسُ أي أنه كما يقصد في هذا البيت الشعري لم يطرأ أي تغيير أحدثته الثورة فيكم يا أبناء اليمن ، فما زلتم عسكرا وخدما للإمام اليوم كما كنتم بالأمس القريب . وهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى المخابرات المصرية باغتيال الزبيري وتصفيته ، لكن دون دليل دامغ ، لتبقى حادثة اغتياله غامضة يكتنفها الكثير من الشكوك ، وإن كانت تندرج ضمن مسلسل ولعبة الدم والموت الذي شهدته البلاد، وما زالت ساحة مفتوحة له حتى اللحظة !..