وتأكيداُ لما أشرنا اليه سابقاً فقد نمت أخبار تشير إلى أن القبائل العسيرية قد تجمعت من جديد في أبي عريش, وشنت هجوماً على العثمانيين المتمركزين في مناطق الساحل اليمني وقد أشيع في الدوائر العثمانية حينذاك أن هذا التمرد إنما حدث نتيجة لتآمر خديوي مصر إسماعيل باشا مع قبائل عسير ضد الأتراك العثمانيين في اليمن، بل أن علي باشا حاكم تهامة قد أخبر (سيراليون) السفير البريطاني في الآستانة في مقابلة تمت في 28 ديسمبر1870م أن مشاكل عسير كلها بسبب تأمر الخديوي إسماعيل واتفاقه مع شريف مكة وأمير عسير ولذلك فقد قرر الباب العالي هذه المرة عدم اللجوء إلى مصر لإخماد الثورة خوفاً من نوايا إسماعيل وطموحه من جهة, ولأن الثورة هذه المرة أكبر بكثير من تلك التي شارك إسماعيل في إخمادها قبل ثلاث سنوات ويبدو أن الدولة العثمانية قررت أن تسكت هذه الثورة وإلى الأبد حتى تتخلص من مشكلة الثورات المتكررة التي تهدد سيادتها في المنطقة لاسيما وأن ثورة عسير هذه المرة قد قامت في فترة تطلعت أنظار العالم فيها إلى منطقة البحر الأحمر كطريق تجاري هام, وخاصة بعد افتتاح قناة السويس .والجدير بالذكر أن القنصل البريطاني العام في الإسكندرية كان قد سأل إسماعيل باشا عن معلوماته عن ثورة قبائل عسير, وجاءت إجابة إسماعيل على أنه ليس لديه أي معلومات عن هذا التمرد, وأنه لم يحدث أي تدخل من جانبه في تلك المشكلة غير أن القنصل البريطاني قد أوضح أن الخديوي قد بدت عليه علامات الضعف والاضطراب عندما علم بإرسال جيش عثماني لإخماده ثورة عسير مما يؤكد حسب وجهة نظره نوايا إسماعيل المعادية للباب العالي.. ولقد أدت مخاوف الباب العالي من تآمر إسماعيل باشا ضده مع الثوار إلى قيام حاكم تهامة علي باشا بطلب المساعدات العسكرية من المقيم السياسي البريطاني في عدن, وهو الجنرال راسيل في تلك الفترة غير أن راسيل تردد في إجابة هذا الطلب بحجة أخذ موافقة رؤسائه في الهند.. إلا أنه عقب سماعه بسقوط مدينة أبي عريش في يد القبائل بادر من نفسه بإرسال مدد من البارود إلى علي باشا الذي كان يبالغ كثيراً في تصوير حجم الهجمات المعادية ومهما يكن الأمر فقد أرادت الدولة العثمانية في هذه الفترة أن تفرض سيطرتها الفعلية, وبسط نوع من السلام في المنطقة, ولذلك قررت إرسال حملة عسكرية إلى اليمن سواء كانت ثورة عسير قد هدأت أم لم تهدأ, ولقد ساعدت حركة الإصلاح التي شهدتها أنظمة الدولة العثمانية منذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي والتي أتت ثمارها في أواسط القرن التاسع عشر لاسيما في مجال الجيش ساعدت في إحكام توجيه إمكانات الدولة العثمانية نحو تحقيق سيادتها في استعادة سيطرتها الفعلية على المناطق التي كانت تكاد أن تكون سيطرتها عليها اسمية , والجدير بالذكر أن حملة العثمانيين في عام 1872م مكنتهم فقط من السيطرة على تهامة إلا أن تهامة أصبحت المركز العثماني لمراقبة ما يدور في اليمن وقاعدة تمكن العثمانيون منها من احتلال صنعاء في1872م وإقامة حكومة عثمانية فيها . ولقد أسهمت قنات السويس بالتأكيد في تقريب المسافات بين المنطقة والإستانه التركية مما سهل نقل الإمدادات إلى المنطقة بحجم أفزع البريطانيين, ولقد علق تريمنهيد المقيم السياسي البريطاني في عدن عام 1872- 1870م بانه يتصور أن هذه الحملة العثمانية الكبيرة تكون مهمتها قاصرة على إخماد ثورة عسير.. هذا ولقد كتب ريمنهيد فيما بعد إلى حكومة بومباي يفيدها بأن تقدم العثمانيين في المناطق المجاورة لعدن سيكون له أثر كبير على عدن نفسها من الناحيتين الاقتصادية والسياسية, وكان العثمانيون قد حاولوا في أواخر عام 1872م أن يتوغلوا في داخل اليمن حتى وصلوا إلى مقربة من نواحي عدن ثم بدأوا يحرضون الأمراء والسلاطين والمشايخ على الثورة ضد البريطانيين المتمركزين في عدن, وإعلان ولائهم للسيادة العثمانية..