اكد تقرير الكولونيل جاكوب على الأهمية الاستراتيجية لحضرموت خاصة وأن الدلائل كلها تشير إلى وجود امكانيات تعدينية هائلة على ساحلها وخاصة النفط, فضلا عن أهمية المكان عسكريا وتجاريا وهذه العوامل كلها يجب أن تدفع إلى التحرك السريع والعمل على السيطرة والاحتلال الكامل لها قبل فوات الوقت . هذا التقرير أرسله جاكوب المساعد الأول للمقيم السياسي الإنجليزي في عدن عام 1916م لحكومته مع اشتداد الحرب العالمية الأولى, ومع تطلع الدولة العثمانية بالسيطرة على حضرموت وسواحلها لأهميتها الاستراتيجية واشرافها على المحيط الهندي, لذا كثفت بريطانيا من نشاطها في الجزء الشرقي من الجنوب اليمني ففي عام 1918م تم التوقيع على اتفاقية بين إمارتي القعيطي والكثيري الحضرميتين حيث أصبحت حضرموت قلب الجزء الشرقي من اليمن تحت سلطة بريطانيا بموجب اتفاقية الحماية. هدنة السلام ارتبطت الجهود البريطانية في التدخل المباشر في شؤون حضرموت الداخلية بالضابط السياسي البريطاني وليم هارولد انجرامز أحد كبار القادة والساسة البريطانيين, ففي عام 1934م زار انجرامز حضرموت لأول مرة ليقدم تقريرا حول أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لحكومته وكانت الغاية من هذا التقرير الاستفادة منه في وضع السياسة البريطانية الجديدة المتمثلة في التدخل البريطاني المكثف والمباشر في شئون حضرموت موضع التنفيذ. وفي عام 1935م قام انجرامز بزيارة ثانية إلى المكلا وبعد الزيارة قدم توصياته للحكومة البريطانية لتنفيذ السياسة الجديدة لتدخل في شؤون حضرموت الداخلية, وفي عام 1936م عين انجرامز مندوبا ساميا للإنجليز في مدينة المكلا أهم مدن حضرموت . وتكمن أهمية دور انجرامز في حضرموت انه كان مدخلا للاستعمار وأداة توغله وسيطرته, وقد بدأ أعماله بترسيخ هدنة بين القبائل المتنازعة في المنطقة وقد نجح في ذلك مستغلا الصراعات الداخلية بين سلطتي القعيطي والكثيري للتدخل المباشر بشؤون حضرموت وهذا ما عرف ب"سياسة التقدم نحو الأمام" وكذلك اغراء رؤساء القبائل بالمال والسلاح إلى جانب التلويح باستخدام القوة العسكرية كحملات تأديبية والقصف الجوي للمناطق بالطائرات, وأعلن انجرامز بسخرية أن القصف وسيلة طيبة حتى بالنسبة لتلك القبائل التي عانت منه إذ أنه بعد قصفها أصبح بإمكانها الانضمام إلى اتفاقية انجرامز للسلام دون أن تبدو ذليلة في عيون أعدائها. كل هذا سمح للبريطانيين في الوقت نفسه التدخل في شؤون حضرموت الداخلية وتحقيق مصالحهم الاستعمارية ونجح في ابرام 1400 معاهدة صلح مع رؤساء القبائل الحضرمية باسم السلطانين القعيطي والكثيري فرضت مدة تلك المعاهدات لثلاث سنوات, ولاشك أن هذا العدد الكبير من التوقيعات يعطينا مؤشرا عن حالة التجزئة القبلية التي تعيشها حضرموت آنذاك . إن هدنة انجرامز كانت تهدف إلى تبرير العدوان الإنجليزي في حضرموت وبمبادرة انجرامز أقدم الانجليز على التدخل المباشر في حضرموت باحتلالهم للمكلا عام 1938م وقد غطى الانجليز حملاتهم العسكرية بشعار إقامة السلام في حضرموت وكانت تلك العمليات المنفذة من قبل الانجليز في حضرموت بما فيها القصف الجوي والتدخل العسكري المباشر بمصادقة الحكومة الانجليزية والمشاركة المباشرة للمندوب السامي البريطاني في عدن . ومن أجل الوصول إلى اهدافها لم تترفع الأوساط الانجليزية الحاكمة من استخدام مختلف الوسائل فعندما اتضح بأن المعاهدات غير كافية استخدمت القوات المسلحة وحاول المندوب السامي في عدن تبرير الاعتداء الإنجليزي على حضرموت بأن قوات سلاح الجو البريطانية استخدمت في حضرموت في الحالات القصوى. معاهدة الاستشارة وتنفيذا لسياسة التقدم نحو الأمام ولتغيير الأوضاع ومع بداية الحرب العالمية الثانية استبدل الانجليز نظام الحماية بنظام الاستشارة وهو ذلك النظام الذي سمح لهم بنشر مستشاريهم في طول البلاد وعرضها والذين أصبحوا بعد هذا التاريخ الحكام الفعليين للمحميات, وكان السلطان صالح بن غالب القعيطي اول حاكم في المحميات يوقع على معاهدة استشارة وذلك في 13 أغسطس 1937م وطبقا لنصوص هذه المعاهدة التزم السلطان بقبول رأي المستشار انجرامز البريطاني في جميع المسائل ماعدا تلك التي تمس الدين والعادات وأرجع البعض سبب قبول السلطان بهذه المعاهدة المذلة والتي تسمح للمحتل بالتدخل بشؤون البلاد الداخلية مقابل حصوله على عدم ممانعة بريطانيا من تعيين ابنه عوض وليا للعهد. كما جرى توقيع معاهدة مماثلة مع سلطان الدولة الكثيرية عام 1939م, ثم تلاهم بقية سلاطين وشيوخ الامارات الجنوبية كان أخرهم سلطان قشن وسقطرى عام 1953م, وأن طول تلك المدة التي استغرقت التوقيع على هذه المعاهدات دليل على الضغط السياسي الكبير على السلاطين من قبل المحتل الانجليزي ومقاومة السكان لهذه الاتفاقيات, وبذلك أصبح انجرامز مستشارا رسميا للسلطتين القعيطية والكثيرية بالإضافة لوظيفته كمعتمد بريطانيا لمحمية عدن الشرقية كلها وتركزت مقاليد الأمور كلها في حضرموت بيده . ولذلك, فبريطانيا قد تدخلت في كل شؤون حضرموت تدخلا أرغم السلاطين على رفع أيديهم عن كل مقدراتها فالفرق بين اتفاقية الحماية ومعاهدة الاستشارة يكمن في أن اتفاقية الحماية حددت صوريا مسؤولية بريطانيا على العلاقات الخارجية لسلطتين, أما اتفاقيات الاستشارة فقد عززت انتقال بريطانيا من السيطرة البريطانية غير المباشرة للسيطرة المباشرة وفي واقع الحال فان اتفاقية الاستشارة أعطت اتفاقية الحماية بعدا جديدا فهي لا تلغيها بل تكملها وتؤكدها, وهؤلاء المستشارون يعتبرون في الواقع ضباط استخبارات بريطانيين كجواسيس وقد مارسوا اعمال تعسف ضد المواطنين الأبرياء الذي زج بهم في السجون بأمر من المفوض البريطاني لمجرد الشك في اشتراكهم في النشاط المعادي للإنجليز. جيش البادية الحقيقة أن أول المستشارين البريطانيين لحضرموت وهو هارولد انجرامز 1937- 1944م لم يلق أي عناء في املاء ما تراه بريطانيا مناسبا على هؤلاء الحكام وتدخل انجرامز في ادارة شؤون البلاد الداخلية والتحكم في أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يتفق مع المصالح البريطانية . ويوصف انجرامز السلطانين القعيطي والكثيري عند وصوله إلى مركز عمله في مدينة المكلابحضرموت انهم كانوا رجالا ضعفاء ولهذا السبب كانوا يقومون بالتوقيع والموافقة على أي شيء قد يطلبه منهم ويتظاهر في نفس الوقت لجعل المبادرة تبدو كأنها صادرة عنهم . ويتضح مدى سيطرة انجرامز على مقاليد الأمور حتى أن حضرموت أصبحت تسمى لدى العامة دولة انجرامز وبلهجتهم (دولة يرامس) كما أصبح يلقب بالدولة لدى عامة الناس, وقد ذكر انجرامز انه عرض عليه من قبل شخصيات بارزة في حضرموت ان يكون سلطانا على حضرموت أو تحويل حضرموت إلى مستعمرة بريطانية . وكان انجرامز ينتمي إلى المدرسة الاستعمارية التي ترى ان من مصلحة بريطانيا أن تكون ممسكة بالخيوط من وراء الستار وتترك للعرب ان يديروا انفسهم لوحدهم ظاهريا وبمساعدة خبراء شرقيين من مناطق نفوذهم الأخرى. وانطلاقا من هذه السياسة اعتمد انجرامز في اصلاحاته الادارية في حضرموت على عناصر عربية او هندية وقلدهم مناصب ادارية وعسكرية وكان يوجد ما يقارب ثمانية ضباط من الانجليز. وكان انجرامز صاحب مشروع تأسيس جيش البادية الحضرمي فقد تم انشاؤه في اواخر عام 1939م, ومنذ تأسيسه كان تابعا للمستشار البريطاني ويعتبر جزءا من قوات سلطات بريطانيا, وتدريبه بهذا على نمط جيش البادية التابع لامارة شرق الأردن فقد جلب انجرامز ضباطا من العرب الاردنيين ومن الهنود . وكان جنود هذا الجيش يتكونون من معظم القبائل الحضرمية وكلف بالعديد من المهام بحضرموت منها قمع أي معارضة للتواجد البريطاني في حضرموت بذريعة حفظ الأمن في المحمية الشرقية, وكانت رواتب جنود جيش البادية الحضرمي مرتفعة مقارنة برواتب جنود القوات العسكرية الأخرى وذلك لضمان ولاء هذا الجيش للسلطات البريطانية وقد انتشرت مراكز وحصون هذا الجيش لتغطي مناطق متفرقة من حضرموت وأصبح هذا الجيش هو القوة الرئيسة في منطقة حضرموت والمهرة. أهداف استعمارية كانت المحميات ذاتها مفككة إلى عدة سلطنات تحكمها العلاقات القبلية العشائرية القوية واعتمدت الأوساط الانجليزية الحاكمة على المبدأ الأساسي للسياسة الاستعمارية فرق تسد فاستغلت الخلافات بين زعماء بعض القبائل ووضعت مستعمرة عدن في مواجهة أي تمرد بتلك المحميات الذي كان الغرض من قيامها هو توطيد التقسيم المصطنع لليمن. اقتصاديا, كانت المحميات في حال أسوأ إذ حاولت إنجلترا تعميق تخلفها لتتمكن وبحد أدني من الخسائر من الاحتفاظ بتلك المناطق في نطاق نفوذها وعاش سكان المحميات حياة بؤس وشقاء وشكلت الزراعة المجال الأساسي للنشاط الاقتصادي للسكان في الوقت الذى شكلت فيه الأرض المزروعة أقل من 1% من إجمالي المساحة القابلة للزراعة. وفيما يخص المحمية الشرقية لم تشهد حضرموت الحكم الاستعماري المباشر بصفته سلطة رسمية محتلة ولكنها تحكم بواسطة سلاطين يملي عليهم الاستعمار ما يريد فكانت المعاهدات التي عقدتها بريطانيا مع حكام حضرموت وخاصة معاهدة الاستشارة جعلت من هؤلاء الحكام وكأنهم موظفون تابعون لها ومحققون لإرادتها الاستعمارية وكان لهذه السياسة الجديدة أهدافا محددة فكانت ترمي إلى تدعيم سلطة الأمراء ونظام الحماية في آن واحد, و من جانب آخر تلبى رغبات بريطانيا في القضاء على تطلعات كل من الإمامة في شمال اليمن والسعودية في الوصول إلى شاطئ المحيط الهندي.