طول عقود من الزمن مضت ظلت الثقافة الغربية تتباهى بانها نتاج حياة عصرية ووفق منظومة انسانية غاية في الأهمية وقائمة على التحضر وعلى إعلاء القيمة الانسانية .. وكانت الثقافة الغربية قد عملت على تسويق نفسها كقيم ينبغي ان تحظى بعناية خاصة ويجب ان تقتدي بها بقية الامم والشعوب .. بل ان العديد من المثقفين العرب والمسلمين عاشوا انبهاراً واسعاً بتلك القيم والادبيات في مختلف المجالات . وامتد اثر الغلبة الثقافية الغربية إلى الجانب السياسي والعسكري والامني فكان الحديث حول انسانية الانسان وانبرى الساسة الغربيون لإعطاء المواعظ وابداء المواقف في المجتمعات الدولية , فكانوا يوجهون نقداً لهذا النظام وتارة يبدون امتعاضاً تجاه ثقافة اخرى يرونها متزمته ولا تحترم انسانية الانسان وحقوقه الى آخر هذه الطروحات ووصل الأمر إلى فرض عقوبات وإلى إعلان موقف رافض اما القوانين ومنظومة اعراف متبعة في مجتمعات غير غروبية كونها لا تحترم حقوق الانسان ولسنوات عديدة ظلت مثل هذه المعطيات هي التي تحكم العلاقة بين الشعوب الاخرى في المنطقة العربية أو في افريقيا أو في أمريكا اللاتينية أو في دول اسيوية مع دول الغرب سواء امريكا أو دول اوروبا القارة العجوز كما تسمى .. وهكذا ظل هذا الفكر الإستعلائي والثقافة الغربية تمارس أبويتها على العالم وعلى منطقتنا العربية وكانت تشعر المضللين من ابناء جلدتنا بالدونية وتضعهم دوماً في نقطة الابهار .. ولكن كل هذا الارث صار هباءً وكل هذه القيم لم تستطع ان تصمد امام المأساة المتضخمة في غزة المحاصرة والمغبونة والمظلومة .. فقد انكشفت الاقنعة وسقطت الادعاءات وتوالت السقوط لكل المفاهيم الغربية حول حقوق الانسان وحول انسانية الانسان وحريته وحول السلام والتعايش بسلام .. فقد أفصحت احداث غزة المأسوية بان الغرب هذا المضنون بقيم التعايش بسلام وبحقوق الانسان سيتحول إلى مجتمع مخادع ومنافق وكاذب , بل مخاتل ودجال بامتياز !! فالدماء التي سالت وتسيل لا تعني شئياً لذلك الفكر الشارد وتلك الثقافة الملونة .. وتلك الاشلاء المبعثرة للأطفال والنساء والمدنيين لا تعني اصحاب الكرا فتات والبدلات الأسموكنج ولم يعد في جراب أولئك الخوات غير المغالطات والهروب إلى التطنيش فلقد أصيبت تلك الثقافة الغربية في مقتل ولم تعد تجد لها رواجاً وسيظل المجتمع الغربي المخاتل اسير هذه اللحظة وبضاعة قابلة للكساد والضياع .. وما يصيب القلب بالألم والحسرة ان بعضهم وهم ساسة يتصرف بغباء عجيب وببلاهة لامحدودة عندما يقول أو يدعي ان الكيان الصهيوني لم يرتكب أي جريمة وان الابادة الجماعية هي مجرد أوهام في رؤوس بعض العرب , وان تل أبيب تدافع عن نفسها في الوقت الذي دمرت فيه كامل قطاع غزة ومازالت تستهدف الحياة والاطفال والنساء وتمعن في اجرامها والساسة الغربيون يرون ذلك دفاعاً عن النفس فأي مغالطة هذه وأي مخاتلة وأي عبث هذا الذي نشاهده ونعايشه .. وفي الحقيقة ان الغرب ومثقفيه وساسته سوف يحتاجون الى عقود قادمة لتأكيد هذه الأمور وتبريرها : أولاً : محاولة ترميم الصورة العبثية التي ظهروا فيها ما بين ارساء مفاهيم انسانية وما بين الشعور بالذنب والاحساس بمشاعر الندم ولن تجدي أي تكفير أو مغالطة.. ثانياً : سوف ينتشر الفراغ العاطفي والانساني إذ لم يعد بإمكانهم حتى اقناع شعوبهم التي بدأت تفيق من المغالطات الصهيونية وتشعر ان ارادة ساستها ومنظوماتها مكبلة بالسطوة الصهيونية المستحكمة فيهم . ثالثاً : سوف ينشأ جيل غربي جديد ظهرت بوادره في وقفات طلاب الجامعات وهم قادة المستقبل وهذا الجيل لم يكن مهجناً حسب ما قامت به الوسائل الاعلامية الغربية المتواطئة مع الصهيونية وهذا ينذر بانقسامات غير محسوبة في اطار تلك المجتمعات والثقافة الغربية . رابعاً : لن يتوقف الجدل ولا النقاش حول ماهية تلك المجتمعات الغربية ومدى تغلغل النفوذ الصهيوني في كل مفاصلها وفي كل تفاصيلها مما ينذر بتمرد على السائد لديهم والعصيان الصامت للأكاذيب المؤسسة في تلك المجتمعات . خامساً : انكشاف التبعية الواضحة للسطوة الامريكية الصهيونية وتغليب الحسابات الصهيونية على الحسابات الوطنية لتلك المنظومة السياسية والثقافية والقانونية الغربية . سادساً : تصدع واضح في المنظومة القانونية التي لن تجد الاجابات المقنعة على التساؤلات التي فرضتها الحرب العدوانية على الغزاويين في فلسطين ومعاناة الملايين في القطاع من الظلم والعسف والقهر والاذلال والاجرام . ولهذا فان الصهيونية قد تجد نفسها مضطرة كماهي عادتها الى اثارة "حروب ما " أو "فتن ما" أو فوضى معينة في اطار المنظومة الغربية حتى تعيد فرض سيطرة جديدة وثقافة أكثر سطوة وأشد تأثيراً في الفكر الغربي وتحديداً في اوساط الشباب الغربي الذي أعلن تمرده على قيم الصهيونية وعلى رضوخ انظمته للهيمنة الصهيونية الماسونية التي انكشفت .. والمتوقع ان الصراعات الاوروبية لن تقف عند حدود الحرب في اوكرانيا إذ ان هناك بوادر لاحتقانات قادمة في القارة العجوز وفي بلدان اوربية حتى تنسى فظائع الصهيونية في غزة وحتى تضمن الصهيونية انشغال العالم عنها وعن حساباتها في المنطقة العربية . وفي المنطقة العربية فان الامور مرشحة لاهتزازات قادمة جراء غضبت الشعوب المكلومة التي رأت قيادتها عاجزة كل العجز عن جرائم الصهاينة , بل ان البعض ذهب بعيداً في الانحياز إلى جانب الجلاد ضد الضحية.. ومثل هذا التفاعل لن يكون مبشراً بالاستقرار وانما سوف يدفع الى احتقانات وإلى سيادة ومواقف مضطربة عديدة لن تكون كل الانظمة بمنأى عنها أو بعيدة عن لهيبها .