عندما نتحدث عن الإخفاقات التي رافقت مسيرة ثورة 26 سبتمبر بعد مرور 63 عامًا على قيامها، والتي هي في الأصل انقلاب قام به الضباط الشباب، لا يعني ذلك أننا ضد الثورة، فكل شعب يتوق إلى التغيير ويتطلع إلى ما هو أفضل، شرط أن يحقق له هذا التغيير ما يطمح إليه، ولا يعيد إنتاج الوضع الذي ثار عليه وتخلص منه. المفارقة في ثورة 26 سبتمبر أنها حملت معها كل المتناقضات من حيث الإعداد لها والتخطيط والتنفيذ وحتى الدفاع عنها، ولذلك فقد حالف مسيرتها الفشل في تنفيذ أهدافها التي قامت من أجلها. وكان أمل الشعب اليمني كبيرًا في أن تحقق له نقلة نوعية يعتمد من خلالها على ذاته وتحد من هجرته إلى خارج الوطن بحثًا عن لقمة العيش، لكن مع الأسف، فقد كانت أولى الإخفاقات أن الضباط الذين قاموا بالانقلاب – أو الثورة كما استقرت تسميتها – لم يكونوا مستعدين للدفاع عنها، ولم يأخذوا في الحسبان أن المعارضة لها ستكون قوية، وأن قيامها سيحدث انقسامًا بين أبناء الشعب اليمني الواحد، ويتحول إلى معسكرين: جمهوري وملكي، خاصة بعد أن استعان الثوار بجيش خارجي للدفاع عنها وحمايتهم في نفس الوقت، ولجأوا إلى الإعدامات العشوائية لرجالات اليمن الذين كان يمكن الاستفادة من خبراتهم الإدارية منذ الساعات الأولى لقيامها، فجعلوا من هذه التصرفات غير المسؤولة وقودًا للثورة المضادة. كما أكد ذلك القاضي عبد الرحمن الإرياني – رحمه الله – في مذكراته (الجزء الثاني)، وقال في برقية بعثها للرئيس عبد الله السلال إنه يبرأ إلى الله منها. كذلك وفروا مبررًا للارتداد عن تأييد الثورة والجمهورية من قبل الكثيرين، وانضمامهم إلى الصف الملكي، بدليل أن قادة ومشايخ كبارًا كان لهم دور في محاصرة صنعاء خلال حرب السبعين يومًا، وهم كانوا في الأصل مناصرين للثورة، ونذكر منهم الفريق قاسم منصر والشيخ ناجي بن علي الغادر وغيرهما. وحتى الجنرال علي محسن صالح، الذي أتيحت له الفرصة فيما بعد ليكون الرجل الثاني أو الأول في النظام الجمهوري – كما يؤكد هو نفسه – طيلة أكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا، كان هو الآخر يحارب ضد الثورة والجمهورية ويعمل مرافقًا في حراسة الأمير محمد بن الحسين حميد الدين. من أهم المتناقضات التي وقعت فيها ثورة 26 سبتمبر أن رجالها استدعوا جيشًا خارجيًا للدفاع عنها خوفًا من سقوطها على أيدي معارضيها، بحجة أن السعودية ودولًا أخرى أعلنت وقوفها إلى جانب الملك محمد البدر المطالب باستعادة عرشه، بعد أن فشل الثوار في القضاء عليه ليلة قيام الثورة، مع أنهم أعلنوا أنه يوجد تحت الأنقاض، فزادت نجاته تعقيدًا للوضع الجمهوري الجديد. وهو ما جعل تصفية الحسابات الإقليمية على الساحة اليمنية تمتد لفترة سبعة أعوام، ولم يستفد الشعب اليمني من قيام الثورة كما كان يأمل، ولا استفادت حتى مصر منها، التي ضحت بخيرة جيشها دفاعًا عنها، وإنما كان المستفيد الوحيد من الثورة والجمهورية في اليمن هي السعودية، عدوها الأساسي. فعند قيامها، كان الوضع في السعودية فالتًا ومرخى، فجعلت الثورة في صنعاء الأسرة السعودية تستيقظ من سباتها وتشعر بخطورة الجيش المصري في اليمن عليها، وأنها هدفه الأساسي، فسارعت إلى حماية حدودها وقدمت الدعم بسخاء للملكيين لمقاومة الصف الجمهوري والجيش المصري لإشغالهما عنها، وهي تفرغت لبناء دولتها وتقويتها. وبعد تثبيت الأوضاع في السعودية، قام الأمير فيصل بانقلاب على أخيه الملك سعود ونصب نفسه ملكًا، وتصرف بدهاء عند تعامله مع الوضع في اليمن، لدرجة أنه استقطب قيادات جمهورية وجعلها تعقد مؤتمرًا مع قادة ملكيين في مدينة الطائف السعودية، وهو الأمر الذي جعل الرئيس جمال عبد الناصر يذهب إلى السعودية بنفسه لمقابلة الملك فيصل بحثًا عن حل حول ورطته في اليمن، واتفقا على عقد مؤتمر حرض للتفاوض فيه بين الجمهوريين والملكيين، وقد فشل المؤتمر نظرًا لتعصب كل طرف لوجهة نظره، ونتيجة لمزايدة التقدميين العرب وتهديدهم برمي إسرائيل في البحر، فاجأ الجيش الصهيوني بعدوانه على ثلاث دول عربية في 5 يونيو عام 1967م، فدمر قدراتها العسكرية واستولى على أجزاء من أراضيها خلال ستة أيام، بعد احتلاله لما تبقى من أرض فلسطين المحررة التي كانت أمانة تحت الإدارتين المصرية والأردنية، ومنع العرب الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة عليها كما يطالبون بها اليوم. من هنا، وجد الرئيس جمال عبد الناصر نفسه في مأزق، فاجتمع مع الملك فيصل في الخرطوم وسلّمه ملف اليمن الجمهوري، واتفقا على سحب الجيش المصري من اليمن مقابل تقديم السعودية مساعدات لمصر وتخفيض مساعدتها للملكيين الذين كانوا قد وصلوا إلى مشارف العاصمة صنعاء. وهو ما اضطر الصف الجمهوري بعد فك الحصار إلى تصفية الضباط الحركيين والمتطرفين الذين رفعوا شعاراتهم الثورية مجاملة للسعودية في 24 أغسطس عام 1968م، وشكل وفدًا كبيرًا برئاسة الفريق حسن العمري عضو المجلس الجمهوري القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس الحكومة الأستاذ محسن العيني للذهاب إلى السعودية في شهر يوليو عام 1970م للتحاور معها، ففرضت عليهم شروطها مقابل الاعتراف بالنظام الجمهوري، والتي من ضمنها القبول بمشاركة قيادات ملكية في الحكم، وإفراغ الثورة من مضمونها الثوري، وتجميد أهدافها الستة التي بقيت مصلوبة على الورق للتغني بها إعلاميًا دون تطبيقها على أرض الواقع. وكانت فرصة للسعودية لاستبعاد بيت حميد الدين الذين كانوا يشكلون لها شوكة في حلقها، بعد رفضهم لكل شروطها، بما في ذلك بيع الأراضي اليمنية لها: جيزان وعسير ونجران، كما فعل الجمهوريون فيما بعد. ومنذ ذلك الوقت، بقي القرار السياسي اليمني بيد السعودية، ولم يكن يتم اتخاذ أي أمر في صنعاء إلا بعد الرجوع إليها، ولا زالت تسيرهم إلى اليوم، بدليل تواجدهم في فنادق الرياض. ولو أن الثوار ومن جاء بعدهم من الحكام المتتابعين تفرغوا للاهتمام بقضايا الوطن وبناء الدولة الحديثة، كما تفرغوا لشتم وسب بيت حميد الدين وجعلهم شماعة لتعليق فشلهم في بناء الدولة، رغم مرور 63 عامًا على قيام الثورة – وهي فترة أكثر من كافية لإخراج اليمن من أزماته والاعتماد على ذاته – لكان الوضع في اليمن مختلفًا، وأصبح اليمن الأول في المنطقة وليس الأخير، بعكس ما كان عليه وضعه قبل الثورة، بغض النظر عن ظروف تلك الفترة التي كانت متشابهة لدى كل دول المنطقة. ولكنهم اهتموا فقط بخدمة مصالحهم الخاصة على حساب مصلحة الوطن العامة، بدليل أنه لا يوجد مسؤول جمهوري – وخاصة الوزراء – منذ تشكلت أول حكومة للثورة في 26 سبتمبر عام 1962م وحتى اليوم، إلا ولدى أولادهم وأقاربهم شركات واستثمارات في الداخل والخارج، وأصبح هذا التوجه ثقافة يحرص كل من يتسنم منصبًا ما على الحفاظ عليها وتنمية وعيه المعرفي منها، وهو ما يؤكد أن ثورة 26 سبتمبر قامت ضد بيت حميد الدين الذين كان لديهم أصلًا دولة، للتخلص منهم، وليس لتغيير الوضع وخدمة مصلحة اليمن وشعبه. هذه هي الحقيقة المُرّة، شئنا أم أبينا.