منذ السابع من أكتوبر، شهد قطاع غزة حربًا طاحنة استمرت أكثر من سنتين، حربٌ لم تكن مجرد صراع عسكري تقليدي، بل كانت اختبارًا للإرادة والصبر والاستراتيجيات المتباينة. يُطرح السؤال المنطقي في نهاية المطاف: من الذي حقق أهدافه بقوة السلاح؟ إن الإجابة على هذا التساؤل لا تكون بالإشارة إلى القوة النارية فحسب، بل بتقييم مدى تحقق الأهداف الاستراتيجية التي أعلنتها الأطراف. ف "المنتصر بلا شك" هو من يخرج من الحرب وقد رسم الواقع الجديد وفقًا لطموحاته المعلنة. أولاً: الأهداف الإسرائيلية وتقييم الإخفاق دخلت إسرائيل الحرب بأهداف واضحة ومحددة، أعلنتها القيادة السياسية والعسكرية، وهي الأهداف التي يجب أن تُقيَّم على أساسها نهاية الحرب: * تحرير الرهائن/الأسرى بالقوة: * الهدف المعلن: إعادة جميع الأسرى والمحتجزين بالقوة العسكرية. * الواقع بعد سنتين: وأيام، لم يتم تحرير الأسرى "بالقوة" بشكل فعال وكبير يؤدي لإنهاء الملف، بل بقيت الإنجازات العسكرية في هذا الصدد محدودة جدًا ومكلفة. الأغلبية الساحقة من الأسرى، إن لم يكن جميعهم، تم استعادتهم عبر المفاوضات والصفقات التي فرضتها المقاومة. هذا الإخفاق يمثل ضربة قوية للهدف الأساسي المعلن، ويؤكد أن السلاح لم يكن الطريق الوحيد ولا الأنجح لتحقيق هذا الهدف. * القضاء على حركة حماس (قدراتها العسكرية والحكم): * الهدف المعلن: تدمير البنية التحتية العسكرية والقيادية لحركة حماس وإنهاء حكمها في القطاع. * الواقع بعد سنتين: بالرغم من الدمار الهائل الذي لحق بالقطاع، وإعلان إسرائيل عن تدمير أجزاء واسعة من شبكة الأنفاق، إلا أن القيادة الأساسية لحماس (سياسيًا وعسكريًا) لا تزال قائمة وفاعلة. استمرار إطلاق الصواريخ أو تنفيذ عمليات بعد هذا الوقت الطويل يثبت أن القدرة على "القضاء التام" على حماس لم تتحقق. حماس لا تزال رقمًا صعبًا في المعادلة، ومنعت إسرائيل من فرض واقع أمني جديد عليها بالكامل. * احتلال قطاع غزة والسيطرة الكاملة عليه: * الهدف المعلن: بسط السيطرة العسكرية والأمنية الكاملة على القطاع بشكل دائم أو شبه دائم (منطقة عازلة/احتلال جزئي). * الواقع بعد سنتين: لم تتمكن إسرائيل من فرض سيطرة شاملة ودائمة على القطاع بالكامل، بل بقيت العمليات العسكرية محصورة في مناطق معينة، وبمجرد انسحاب القوات تعود المقاومة لتفعيل وجودها. السيطرة الكاملة والاحتلال الثابت لم يتحقق، بل اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب في مراحل معينة، تاركة خلفها دمارًا هائلًا دون استقرار أمني لها. ثانيًا: الأهداف الاستراتيجية لحماس وتقييم الإنجاز على النقيض من الأهداف العسكرية المباشرة لإسرائيل، كانت أهداف حماس في هجوم 7 أكتوبر (والحرب التي تلته) استراتيجية بعيدة المدى، وتتركز حول تغيير معادلة الصراع: * إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي: * الهدف الاستراتيجي: كسر حالة الجمود والتطبيع، وإجبار العالم على الالتفات للقضية الفلسطينية كقضية احتلال ومعاناة إنسانية. * الإنجاز: هذا الهدف تحقق بامتياز. لقد أدت الحرب إلى تعبئة عالمية غير مسبوقة للقضية الفلسطينية. المظاهرات الحاشدة، التغطية الإعلامية المكثفة التي كشفت أبعاد الصراع، وتصاعد المواقف الدولية المطالبة بحل عادل، كل ذلك وضع القضية على رأس الأجندة الدولية مجددًا، بعد أن كانت مهددة بالإلغاء من خلال مسارات التطبيع. * عزل إسرائيل سياسيًا ودوليًا: * الهدف الاستراتيجي: جعل إسرائيل في مواجهة مع الرأي العام العالمي والحكومات التي ترفض سياسة العقاب الجماعي والحصار. * الإنجاز: لقد أدت الحرب إلى عزلة إسرائيلية غير مسبوقة. قرار محكمة العدل الدولية، التوتر مع الحلفاء التقليديين، وتصاعد دعوات المقاطعة والعقوبات، جميعها مؤشرات على نجاح هذا الهدف. إسرائيل اليوم تواجه تحديات دبلوماسية وقانونية غير مسبوقة، مما يدل على أن الهدف قد تحقق بالفعل على الساحة الدولية. * فرض التبادل والتفاوض: * الهدف التكتيكي والنهائي: إثبات أن القوة العسكرية الإسرائيلية غير قادرة على تحقيق الأمن دون ثمن، وإجبارها على التفاوض وفق شروط المقاومة. * الإنجاز: كما أعلن قادة حماس، "لن تحصلوا عليهم إلا بالمفاوضات". تحقق هذا الهدف عندما اضطرت الحكومة الإسرائيلية، بعد فشل خياراتها العسكرية، إلى العودة إلى طاولة المفاوضات وعقد الصفقات، والانسحاب الجزئي لتسهيل عملية التبادل. هذا انتصار استراتيجي للمقاومة التي أثبتت أن قرارها لا يزال هو الفاصل في ملف الأسرى. الخلاصة والتحليل المنطقي: من هو المنتصر بقوة السلاح والإرادة؟ عند تقييم النتائج النهائية للحرب وفقًا لميزان الأهداف المعلنة، يتضح ما يلي: * المقياس العسكري المباشر (إسرائيل): حققت إسرائيل دمارًا هائلًا، لكنها فشلت في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثلاثة المعلنة للحرب (تحرير الأسرى بالقوة، القضاء على حماس، الاحتلال الكامل). عسكريًا، الحرب بالنسبة لإسرائيل كانت مكلفة داخليًا ودوليًا، ولم تنتج "صورة نصر" واضحة يمكن للقيادة أن تبيعها للجمهور. * المقياس الاستراتيجي والدولي (حماس): بالرغم من التضحيات الجسيمة، نجحت حماس في تحقيق أهدافها الاستراتيجية الثلاثة (تدويل القضية، عزل إسرائيل، فرض المفاوضات). لقد غيرت حماس المعادلة الجيوسياسية للصراع، وأثبتت قدرتها على الصمود أمام قوة عسكرية فائقة. التحليل المنطقي يؤكد: الانتصار في الحرب الحديثة لا يُقاس بالدمار الذي تسببه، بل بمدى تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية التي انطلقت منها. وبما أن إسرائيل لم تحقق أي هدف من أهدافها المعلنة بالقوة العسكرية، واضطرت للعودة إلى نقطة المفاوضات لإنهاء ملف الأسرى، بينما نجحت حماس في تغيير واقع الصراع دوليًا وعزلت خصمها، فإن الانتصار الاستراتيجي يميل بوضوح إلى كفة المقاومة. نهاية المطاف: إن الذي حقق أهدافه هو الذي خرج من الحرب بإرادة أقوى وقدرة على فرض شروطه، وهذا ما تجلى في إجبار إسرائيل على التفاوض والانسحاب، وفي عودة القضية الفلسطينية لتكون "قضية العالم الأولى". لقد انتصرت حماس.