نت : لم تعد قصة حاملة الطائرات الأميركية «هاري إس. ترومان» في البحر الأحمر مجرد حكاية عن قوة عظمى ترسل أسطولها لمعاقبة اليمن. التحقيقات الرسمية التي أصدرتها البحرية الأميركية في 4 ديسمبر 2025 ترسم صورة مختلفة تمامًا: أربعة حوادث خطيرة بين أواخر ديسمبر 2024 ومطلع مايو 2025، خسرت خلالها البحرية ثلاث مقاتلات من طراز F/A-18 سوبر هورنت، واصطدمت الحاملة بسفينة تجارية قرب بورسعيد، وكلها حوادث خلصت التحقيقات إلى أنها كانت «قابلة للمنع». لكن ما يهم المتابع اليمني هنا ليس الجانب الفني وحده، بل السياق: كل ذلك حدث بينما كانت «هاري ترومان» ومجموعتها القتالية تنفذ ضربات يومية على اليمن، وتواجه بشكل مستمر صواريخ بالستية ومضادة للسفن ومسيّرات هجومية يمنية، ضمن ما سمّته البحرية عملية «روخ رايدر» التي استمرت 52 يومًا متواصلة من العمليات الجوية. التحقيقات التي أنجزها عدد من كبار الضباط – بينهم الأدميرال كافون حكيم زاده، والأدميرال تود ويلن، ونائب الأدميرال جون غامبلتون، واللواء البحري شون بيلي – ركزت على أربع وقائع مفصلية: في 22 ديسمبر 2024 أطلق الطراد «يو إس إس غيتيزبيرغ» صاروخين من طراز SM-2 على طائرتين أميركيتين صديقتين في البحر الأحمر؛ في 12 فبراير 2025 اصطدمت الحاملة نفسها بناقلة تجارية قرب بورسعيد؛ في 18 أبريل 2025 سقطت مقاتلة سوبر هورنت من حظيرة الطائرات إلى البحر أثناء مناورة الهروب من صاروخ بالستي يمني؛ وفي 6 مايو 2025 فشل نظام إيقاف الطائرات على سطح الحاملة، فسقطت مقاتلة أخرى في البحر الأحمر. في كل مرة، كتب الضباط المحققون العبارة ذاتها تقريبًا: «كان يمكن منع هذا الحادث». اليمن في الخلفية: 52 يومًا من الضغط المتواصل منذ غادرت «هاري إس. ترومان» ميناء نورفولك في سبتمبر 2024 متجهة إلى الشرق الأوسط، كان عنوان المهمة المعلن هو المشاركة في عملية «حارس الازدهار» بحجة حماية الملاحة بعد هجوم 7 أكتوبر 2023 واستهداف اليمن للسفن المرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة. لكن مع دخول المجموعة القتالية البحر الأحمر في ديسمبر 2024، تبدل الإيقاع إلى ما وصفه مسؤولون في البحرية لاحقًا بأنه «وتيرة عمليات عالية» حيث كان البحارة «يتعرضون مرارًا لنيران الطائرات المسيّرة والصواريخ من الحوثيين المتمركزين في اليمن». في المرحلة الأخيرة من الانتشار، وتحت مسمى عملية «روخ رايدر»، نفذت الحاملة وجناحها الجوي (Carrier Air Wing 1) عمليات طيران متواصلة على مدى 52 يومًا، بينما كانت تواجه في الوقت نفسه صواريخ بالستية وصواريخ مضادة للسفن ومسيّرات هجومية أحادية الاتجاه. هذه البيئة لم تكن مجرد خلفية، بل عامل ضغط مباشر على الطواقم والمنظومات، اعترفت به البحرية ذاتها في مؤتمر صحفي، حتى وإن حاولت في الوقت نفسه الإشادة بما سمّته «الأداء العام الجيد» للمجموعة القتالية. 22 ديسمبر: حين أسقط الطراد «غيتزبيرغ» طائرة الحاملة الحادث الأول – والأكثر رمزية من زاوية كشف الخلل التنظيمي – وقع في الساعات الأولى من 22 ديسمبر 2024. في اليوم السابق، كانت «هاري ترومان» قد أطلقت موجات من طائرات سوبر هورنت لضرب أهداف داخل اليمن، فيما تكفلت الطرادات والمدمرات بحماية التشكيل في البحر الأحمر. الرد اليمني جاء، بحسب نص التحقيق نفسه، «مبكرًا أكثر من المتوقع»، مع موجات من الصواريخ المضادة للسفن والمسيّرات الانتحارية، ما أجبر القيادة على تكثيف مهام الدفاع الجوي (DCA) وإعادة توجيه طائرات كانت مخصصة للهجوم لتتولى حماية التشكيل. خلال أربع ساعات فقط، ارتفع عدد طلعات الدفاع الجوي من ست طلعات مقررة إلى أربعة عشر طلعة شاركت فيها إحدى عشرة طائرة. في هذا المشهد المشبع بالتهديدات، كان الطراد «يو إس إس غيتزبيرغ» يؤدي دور «قائد الدفاع الجوي» للتشكيل. إلا أن التحقيق يكشف أن هذا الطراد نفسه لم يكن مدمجًا فعليًا في المجموعة: من أصل 45 يومًا سبقت الحادث، عمل مع مجموعة الحاملة سبعة أيام فقط، كما أن تمرينًا تكامليًا مخططًا لمدة عشرة أيام اختُصر إلى يومين بسبب نقص سفن التزود بالوقود. يقول رئيس أركان مجموعة الحاملة الضاربة 8 بصراحة للمحققين: «لم نحصل قط على فرصة للتعلم من التكامل... كنا نحتاج أكثر من يومين». يضيف التقرير أن «خطة الضربة وخطة الدفاع الجوي المرتبطة بها لم تُفهم جيدًا على متن غيتزبيرغ»، وأن أفراد نوبة مركز المعلومات القتالية لم يكونوا يعرفون توقيت العملية ولا مسارات العودة ولا كيفية الرد على التهديدات المتوقعة. فوق ذلك، كانت عدة أنظمة تعريف الصديق/العدو (IFF) على متن الطراد مطفأة أو معطلة، ولم تُبلَّغ الحاملة بذلك. مع حلول الساعة 1:40 فجراً، أبلغ «غيتزبيرغ» أن المنطقة خالية من الأهداف المعادية، لكن طائرات الدفاع الجوي بقيت في السماء وسط «أوامر متضاربة». في تلك الأثناء، كان على متن الطراد تبديلٌ لنوبة مركز المعلومات القتالية، واستعدادٌ لهبوط مروحية قلّل من تغطية رادار SPY-1 الجوي، فيما كانت طائرة الإنذار المبكر E-2D التي تشرف على الوعي الجوي تعاني من عطل وتحوّلت السيطرة إلى مدمرة أخرى. بالنسبة للمراقبين الجدد في مركز المعلومات، ظهرت الطائرات الصديقة على الشاشات بوصفها أهدافًا «مجهولة». يروي التقرير الجملة الحاسمة: «اعتقد فريق CIC على متن غيتزبيرغ أنها صواريخ كروز مضادة للسفن معادية». دون أن يتحقق عبر قنوات أخرى، أصدر القائد الكابتن جاستن هودجز أمرًا بإطلاق صاروخين من طراز SM-2 على طائرتين من طائرات سوبر هورنت (107 و112) من سرب VFA-11 «ريد ريبرز» كانت تعود إلى الحاملة. أطقم الطائرات، التي كانت تظن في البداية أن «الطراد يطلق النار على درون»، سرعان ما أدركت أنها هي الهدف. قفز طاقم الطائرة 107 قبل ثوانٍ من إصابتها وتدميرها، فيما نجت الطائرة 112 بمناورة حادة، بعد أن تم تعطيل الصاروخ الثاني قبل أن يصيبها؛ يقول قائدها في شهادته إن الصاروخ «مرّ على بعد أقل من مئة قدم وهزّ الطائرة» قبل أن ينفجر في الماء. المحققون يلخصون: أعطال المعدات كانت موجودة، لكن «كان من الممكن التخفيف من المشكلات الملازمة لغيتزبيرغ... من خلال التخطيط الفعال والتنفيذ في الوقت المناسب قبل عمليات 21 ديسمبر. لم يحدث أي من هذا». بمعنى آخر: الضغط الذي خلقته الصواريخ والمسيّرات اليمنية كشف ضعفًا حادًا في التكامل والتدريب، إلى حد أن الطراد المسؤول عن الدفاع الجوي للتشكيل أسقط بنفسه طائرة من نفس التشكيل. لاحقًا، ستعلن البحرية أنها أنفقت أكثر من 55 مليون دولار لتعديل برمجيات منظومة Aegis حتى لا تكرر الخطأ ذاته في تمييز الأهداف الصديقة. 12 فبراير: اصطدام بورسعيد... خطوات عن سيناريو «فيتزجيرالد» بعد أقل من شهرين، في 12 فبراير 2025 عند الساعة 11:45 مساءً، كانت «هاري إس. ترومان» في طريقها من قاعدة سودا باي في اليونان إلى قناة السويس عندما اصطدمت بالسفينة التجارية MV Besiktas-M قرب بورسعيد. تحقيق الأدميرال تود ويلن يصف ما حدث بأنه نتيجة «سوء مهارة ملاحية» ونقص في التدريب، وضعف في إدارة موارد الجسر، إضافة إلى أن الحاملة كانت تبحر بسرعة 19 عقدة في مياه مزدحمة دون أن تبث إشارة نظام التعريف الآلي AIS. في تلك الليلة، غادر القائد الكابتن ديف سنودن الجسر قبل نحو ساعة من الاصطدام، تاركًا مهمة القيادة لضابط الدفة والملاح، خلافًا للوائح البحرية التي تلزمه بالتحكم المباشر أثناء الاقتراب من ممر حرج كقناة السويس. يسجل التحقيق أن سنودن «تخلّى عن مسؤوليته عن الملاحة الآمنة»، وأن الملاح بدوره «تخلّى عن مسؤوليته» بينما كانت السفينة تقترب من منطقة كثيفة الحركة. على الجسر، سادت حالة من التواصل الضعيف: سجلات سطح غير دقيقة، تردد في الإبلاغ عن المخاطر، وتقدير خاطئ لمسار الناقلة التجارية. قبل دقيقتين من الاصطدام استُدعي القائد إلى الجسر، وبعد دقيقة أُمرت «دفة يسار حادة»، ثم أصدر سنودن أمرًا معاكسًا ب«دفة يمين حادة» عندما أدرك أن الاصطدام أصبح حتميًا، ما قلّل زاوية الارتطام وأجّل لحظة الاصطدام، وحال – كما يقول التقرير – دون «أضرار أكثر خطورة وخسائر محتملة في الأرواح». ورغم أن الأضرار اقتصرت على ثقب فوق خط الماء وشطب في السِندي الخلفي للمصعد الأيمن، بتكلفة إصلاح بلغت 685 ألف دولار، فإن التحقيق يقارن بين ما حدث وما جرى للمدمرتين «فيتزجيرالد» و«جون مكّين» عام 2017، ويكتب جملة ينبغي التوقف عندها: «كان الفرق بين الحياة والموت بضع أقدام أو بضع ثوانٍ». لو وقع الاصطدام على بعد مئة قدم إلى الأمام، لكان الأثر اخترق حجرة نوم تضم 120 بحارًا نائمين. ولو كان مصعد الطائرات الثالث في وضع منخفض، «لكانت هاري إس. ترومان قد عانت من تدهور كبير في عمليات سطح الطيران». الأهم من الأضرار المادية أن التحقيق يعود ليشير إلى البيئة البشرية على متن الحاملة: رؤساء أقسام يتحدثون عن مناخ «فقط أنجز المهمة»، إرهاق ونقص نوم، وضغط لإنجاز المهام مهما كان الثمن. وعندما سُئل مسؤول رفيع في البحرية عن تشابه هذه النتائج مع ما جرى في 2017، لم ينكر: «لدينا 18 ألف فجوة في البحر»، قال، في إقرار بأن النقص الحاد في الأفراد بات معطىً ملازمًا للعمليات، حتى لو أصرت القيادة على القول إن السفن لا تُنشر إلا وهي «مكوَّنة ومدرَّبة ومجهّزة». 18 أبريل: صاروخ يمني... ومقاتلة تسقط من الحظيرة في 18 أبريل 2025، وبينما كانت الحاملة تبحر في البحر الأحمر بسرعة تقارب 15 عقدة، أعلن ضابط العمل التكتيكي على الجسر عن اقتراب صاروخ بالستي متوسط المدى – صاروخ يمني بحسب التحقيق – فأُعطيت الأوامر بتنفيذ مناورة مراوغة قياسية: زيادة السرعة إلى 30 عقدة مع التفاف تدريجي إلى الميمنة. في الوقت نفسه، كان فريق تحريك الطائرات في الحظيرة رقم 3 قد أزال العوّاقات وسلاسل التثبيت عن مقاتلة سوبر هورنت من سرب VFA-136 «نايتهاوكس» متوقفة في بئر مصعد، استعدادًا لسحبها إلى داخل الحظيرة وإغلاق الأبواب. المشكلة أن المناورة الحادة زادت ميلان السفينة إلى 15 درجة خلال ثوانٍ، ومع غياب التثبيت وتآكل طبقة non-skid على أرضية الحظيرة – التي لم تُستبدل منذ يناير 2018 – بدأت الطائرة والجرّافة المرتبطة بها في التدحرج إلى الخلف. حاول سائق الفرامل في قمرة القيادة إيقاف الحركة، لكن شهودًا وصفوا العجلات بأنها «تتحرك بحرية» رغم محاولاته. اضطر هو وسائق الجرّافة إلى القفز، فسقطت الطائرة والجرّافة معًا من حافة الحظيرة إلى البحر. التحقيق الذي قاده الكابتن دوغلاس إيفاناك خلص إلى أن السبب الرئيس كان «فشلًا في الالتزام بالإجراءات والعمليات المعمول بها»، مع عطل محتمل في نظام الفرامل وضعف في الاتصال بين الجسر وفرق الحظيرة، إلى درجة أن قسمي السيطرة على سطح الطيران والحظيرة لم يسمعا أو يصدّقا إعلان الجسر عن المناورة. نائب الأدميرال جون غامبلتون، في مصادقته النهائية، يكتب بوضوح لافت أن خسارة الطائرة «كانت ستحدث حتى لو كانت الأرضية غير منزلقة والإطارات جديدة»، لأن المسألتين الجوهريتين هما: إزالة التثبيت في لحظة غير آمنة، وغياب التواصل الكافي قبل تنفيذ المناورة. في المحصلة: صاروخ يمني يفرض على الحاملة أن تهرب، لكن الهروب نفسه يتحول إلى سبب مباشر لخسارة طائرة تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات، لأن الإجراءات الأساسية للسلامة لم تُحترم، ولأن الضغط العملياتي جعل التنسيق بين الجسر والحظيرة هشًا. 6 مايو: قطعة مفقودة تسقط مقاتلة بقيمة 60 مليون دولار في مساء 6 مايو 2025، عند نحو الساعة التاسعة ليلًا، كانت مقاتلة ثنائية المقاعد من طراز F/A-18F من سرب VFA-11 «ريد ريبرز» تحاول الهبوط على سطح الحاملة في البحر الأحمر، في اليوم الثاني والخمسين على التوالي من عمليات الطيران. الاقتراب كان طبيعيًا، وخطاف الطائرة أمسك بالسلك الرابع (رقم 4 على جانب الميمنة) كما يجب، لكن ما حدث بعدها كان سلسلة من الكوارث الميكانيكية والتنظيمية المكثفة في مشهد واحد. الشهود على سطح الطيران سمعوا «دويًا شديدًا» ورأوا شررًا ولهبًا بينما استمرت الطائرة في الاندفاع خارج الحافة وسقطت في البحر، قبل أن يقفز طاقمها إلى الماء وينجو. في الأسفل، داخل غرفة مخمّد البكرة رقم 4، سمع العاملون انفجارًا قويًا، ورأوا رأس المخمّد الهيدروليكي (crosshead) يندفع للخارج ويُقذف من مؤخرة الأسطوانة وهو يدور «مثل الشيطان التسماني» كما وصفه التقرير، قبل أن يرتطم بلوحة شحن مجمّع الضغط رقم 5. المشغّل الذي فتح قبل لحظات «قفص الأمان» خلافًا للإجراءات أصيب بجرح طفيف في العنق واقتُلعت سماعة رأسه. التحقيق الفني وجد أن السبب المباشر هو غياب غسّالة (washer) صغيرة كان يجب أن توضع بين الصامولة المسننة ودبوس الربط في نقطة حرجة من منظومة مخمّد البكرة. غياب هذه القطعة سمح للدبوس بأن يتحرك تدريجيًا خارج موضعه، ثم ينقصم مع الوقت قبل الحادث بأيام أو أسابيع، ما أدى في النهاية إلى فشل كامل في المنظومة، وانهيار القدرة على امتصاص طاقة الكابل عند التقاط الطائرة. الأسوأ أن هذا الخلل لم يُكتشف رغم وجود أعمال صيانة في 5 مايو وفحص قبل التشغيل في يوم الحادث، مع أن ضوء الإنذار الخاص بالمخمّد كان يومض باللونين الأصفر والأخضر، في إشارة «جاهز/غير جاهز»، لكن المشغّل المسؤول عن إعلان "Foul Deck" حاول أن «يجرّب» بدل أن يوقف الهبوط كما تفرض الإجراءات. من زاوية بشرية وتنظيمية، يذكر التقرير أن قسم معدات الإيقاف (V2) كان يضم 34 بحارًا فقط – بينهم عشرة في مهمة مؤقتة – بدل خمسين بحارًا في بداية الانتشار، وأن واحدًا فقط من ثلاثة مناصب ضمان جودة كان مشغولاً، وأن مشرف ضمان الجودة لم يكن يراقب أو يراجع تدريب الفنيين كما ينبغي. في مصادقته على التحقيق، كتب اللواء البحري شون بيلي جملة ثقيلة الدلالة: «كان من الممكن منع هذا الحادث بالكامل لو أن القائد وقسم الطيران على متن يو إس إس هاري إس. ترومان امتثلوا ببساطة لمتطلبات برنامج صيانة معدات إطلاق واستعادة الطائرات (ALREMP)... الحقيقة القاسية هي أن عدة أشخاص على مختلف مستويات القيادة كانوا مشاركين في السماح لبرنامج صيانة ALRE بالتدهور إلى مستوى الفشل التام». النتيجة النهائية: طائرة بقيمة 60 مليون دولار في قاع البحر، وأكثر من 207 آلاف دولار كلفة إصلاحات لنظام الإيقاف والمحرك، إضافة إلى إصابات طفيفة في صفوف الطاقم. ما الذي يقوله كل هذا عن مواجهة اليمن – أميركا؟ عند جمع هذه التفاصيل، تصبح الصورة أوضح : ما تكشفه التحقيقات الأميركية ليس سلسلة «حوادث معزولة»، بل نمط متكرر من الإرهاق، ونقص الأفراد، وثقافة صيانة متدهورة، وتدريب منقوص، كل ذلك تحت ضغط عملياتي فرضته حرب فعلية مع اليمن في البحر الأحمر. في حادث النيران الصديقة، فرضت الصواريخ والمسيّرات اليمنية على التشكيل تكثيف طلعات الدفاع الجوي إلى أكثر من ضعف ما كان مخططًا، فظهر خلل التكامل والتخطيط والتواصل، وانتهى الأمر بإسقاط طائرة صديقة. في اصطدام بورسعيد، كان الإرهاق و«عقلية أنجز المهمة بأي ثمن» جزءًا من تفسير كيف يمكن لحاملة طائرات أن تسير بسرعة 19 عقدة في ممر مزدحم بلا بث AIS وبإشراف ناقص من قائدها. في حادث 18 أبريل، كان الصاروخ اليمني هو الذي استدعى المناورة الحادة التي كشفت غياب التنسيق والتثبيت وتآكل طبقة الأمان في الحظيرة. وفي حادث 6 مايو، كانت 52 يومًا متواصلة من العمليات الجوية ضد اليمن جزءًا من سياق انهيار برنامج الصيانة إلى «مستوى الفشل التام». من الناحية العسكرية، يمكن تلخيص دلالات هذه التحقيقات في ثلاث نقاط رئيسية. أولًا، أن القوات المسلحة اليمنية نجحت في فرض معادلة جديدة في البحر الأحمر: لم تعد القطع الأميركية – بما فيها حاملة طائرات كاملة التشكيل – تتحرك كقوة «لا تُمس»، بل باتت مضطرة لحساب رد الفعل اليمني في كل ضربة وكل تحرك، إلى درجة أن المناورات التي تنفذها هربًا من صواريخ يمنية كفيلة وحدها بإسقاط طائرة أو إرباك التشكيل. ثانيًا، أن التفوق التكنولوجي الأميركي – من منظومات Aegis إلى معدات الإيقلاع والهبوط المتطورة – لا يكفي في غياب العنصر البشري المدرب والمرتاح والمنضبط؛ فمع نقص 18 ألف بحار في البحر، وتقليص تدريبات تكاملية من عشرة أيام إلى يومين، وتحويل برامج الصيانة إلى أوراق موقّعة أكثر مما هي إجراءات فعلية، يصبح الخطأ القاتل مسألة وقت. ثالثًا، أن كلفة الإصرار الأميركي على الوجود العسكري في البحر الأحمر لا تُقاس فقط بعدد الصواريخ التي أُطلقت على اليمن أو الأهداف التي قصفت على ساحله، بل أيضًا بملايين الدولارات التي تبتلعها خسارة طائرات وتلف معدات، وبالأثر المعنوي داخل مؤسسة بحرية ترى في تقاريرها الداخلية كيف اقتربت حاملة طائراتها من تكرار سيناريو «فيتزجيرالد» و«جون مكّين». في النهاية، لا يحتاج المتابع إلى كثير جهد ليرى أن هذه التحقيقات، التي أرادت البحرية الأميركية تقديمها بوصفها مراجعة داخلية «لتصحيح الأخطاء»، تتحول في سياق الحرب على اليمن إلى وثيقة إقرار بأن هذه الحرب نفسها كانت عاملًا كاشفًا لعيوب بنيوية عميقة في واحدة من أقوى البحريات في العالم. اليمن، الذي يواجه هذه القوة بوسائل صاروخية وجوية غير تقليدية، لم ينجح فقط في تهديد السفن وإرباك حركة الملاحة، بل أجبر حاملة طائرات أميركية كاملة على الاعتراف – في أوراقها الرسمية – بأنها تعثرت تحت الضغط، وأسقطت طائراتها بنفسها، واصطدمت بسفينة تجارية، وخسرت مقاتلات بسبب قطعة معدنية صغيرة لم تُركّب كما ينبغي. هذه هي الرسالة الأوسع التي تقرأ بين سطور التحقيقات الأميركية، وهي رسالة تتجاوز البحر الأحمر إلى صميم حسابات القوة الأميركية في المنطقة.