من على سفوح الجبال الشاهقة بمديرية ملحان بمحافظة المحويت، يبرز مشروع "الحد من مخاطر الانهيارات الصخرية والترابية" كملحمة تنموية غير مسبوقة؛ مشروع إغاثي وتعبير حي عن قوة الصمود التي يتسلح بها الشعب اليمني في وجه كافة التحديات.. تحكي المشروع سيناريو ملحمية لقصة تحولت فيها الصخور المهددة لحياة الآلاف إلى أدوات للبناء والتمكين.. تجسد المشروع كاستجابة استثنائية لموسم أمطار عام 1446ه الاستثنائي، الذي كشف عن قصور الوعي المجتمعي بمخاطر وجود بنية تحتية ومنازل في مجاري سيول ومهددات العوامل الجيولوجية والبيئية للاستقرار، ولتؤكد سيناريو التفاعل التشاركي بين الحكومة والمجتمع أن معركة الوعي لا تقل أهمية عن معارك تجاوز المحن ومعالجة آثار الكوارث وإعادة الإعمار. 26 سبتمبر: إدارة التحقيقات تقاطع مأساة الطبيعة مع مؤامرة الحصار يتحدث إلينا ضابط مشروع الحد من المخاطر والانهيارات الصخرية بمؤسسة بنيان التنموية، أ. محمد عبد الجليل العراسي، عن حجم الكارثة في ملحان، والتي تجاوزت كونها ظاهرة طبيعية؛ لتصبح أزمة مركبة، زادت من وطأتها الأوضاع الاقتصادية الخانقة الناتجة عن العدوان والحصار، مشيراً إلى أن المخاطر تمثلت في ثلاث زوايا رئيسية: أولاً، قصور الوعي المجتمعي بمخاطر الصخور المعلقة فوق رؤوس الأسر وضعف تحفيزهم لإزالتها. ثانياً، وجود كتل صخرية ومهددات عملاقة جاثمة فوق أماكن يقطنها السكان، مما يحول البيوت الآمنة إلى كمائن. ثالثاً، تحول بعض مجاري السيول عن مساراتها نتيجة الغزارة غير المسبوقة للأمطار، ما أدى إلى انجراف الأتربة التي كانت تعمل كطبقة حماية لهذه الصخور. هذه العوامل المتضافرة أفضت إلى إلحاق خسائر في الأرواح والممتلكات، وأدت إلى ضعف في استقرار الأسر وزيادة الأعباء عليها، دافعةً البعض نحو النزوح القسري. ولفت إلى أنه، ولمواجهة هذا المشهد الكارثي، جاءت دعوات القيادة الثورية لتؤكد أن التعاون والتكافل الاجتماعي ليسا خياراً، بل واجباً إنسانياً وأخلاقياً ودينيا. هذه الدعوة لم تكن بمثابة الموجه التعبوي الذي حرك الجهود الرسمية والمجتمعية فحسب، بل والمؤطر العام لرؤية المشروع حول هدف أسمى: "حماية الأرواح والممتلكات من خلال الحد من مخاطر الكوارث وأضرار السيول والانهيارات، والحد من البناء في مجاري السيول". ترتيبات "بنيان" وشركائها في مرتفعات ما فوق السحب بمديرية ملحان، حيث ترسم التضاريس الوعرة ملامح الصمود اليمني، تجلت ملحمة تنموية جديدة أسقطت رهانات الارتهان للمساعدات الخارجية المسمومة بقرار سياسي، لتضع مكانها "نموذجاً استراتيجياً يمنياً خالصاً"؛ وفي هذا السياق، أكد العراسي أن مؤسسة بنيان التنموية، وبالشراكة المثمرة مع السلطة المحلية وجمعية ملحان التعاونية، لم تقف في طابور انتظار الفتات الدولي الذي تمن به المنظمات المترددة، بل انطلقت من فلسفة استثمار الإرادة الشعبية الكامنة في وجدان المجتمع اليمني التكافلي. وأشار إلى أن التحرك جاء كإدراك جمعي عميق بأن "الحد من المخاطر" يبدأ من الذات المعتزة بهويتها، حيث رفض الأهالي البقاء في دائرة الترقب تحت وطأة تهديدات الانهيارات الصخرية والسيول الجارفة التي خلفتها كوارث العام الماضي، ليبدأ العراسي بسرد تفاصيل التحول الميداني الذي قادته جمعية ملحان، مدفوعة بمساندة السلطة المحلية و"بنيان"، لإعادة صياغة الوعي المجتمعي وتشكيل لجان لم تكن مهمتها انتظار الفاجعة بل رصد أنفاسها الأولى، عبر مسح جيولوجي دقيق شمل الجبال المطلة على القرى، كاشفاً عن 130 موقعاً صخرياً كانت تتربص بحياة المواطنين بنسب خطر متفاوتة ومعقدة. وعلى وقع الحاجة الملحة وتجاوز الكارثة لكل التوقعات، تضاعفت الجهود الهندسية لتنتقل من فريقين إلى 11 فريقاً متخصصاً، ضم نخبة من المهندسين الجيولوجيين والمدنيين وخبراء تكسير الصخور من أبناء المنطقة، في تلاحم جسد الشراكة النوعية بين الخبرة المؤسسية والمهارة الميدانية، مما أثمر عن تحقيق قفزة نوعية في الإنجاز بلغت 550%؛ وهي الروح التي دفعت بتقييم 70 موقعاً بدلاً من 66 المخطط لها، مع إنجاز 70 دراسة فنية واجتماعية نهائية وضعت الأساس العلمي لمواجهة السيول وتفتيت الكتل الصخرية الآيلة للسقوط. وبتحول مخرجات التقييم إلى "خطة تنفيذية مجتمعية ورسمية" صِيغت عبر ورش عمل مكثفة، تحققت نسبة إنجاز بلغت 400%، لتنبثق عنها "مصفوفة مبادرات" انتقلت فوراً إلى الميدان، حيث باشرت اللجان أعمالها في 91 موقعاً مدعومة ب 14 "كمبريشن" وفرتها الجمعية، بينما تولت مؤسسة بنيان تأمين الوقود والبارود والاسمنت والاستشارات الفنية، ليخط أبناء ملحان فصلاً بطولياً عنوانه "الإزالة لا الانتظار"، محولين القلق الجيولوجي إلى تدخل مباشر أثبت أن الوعي الاستباقي يمنع خسائر بمليارات الريالات. وتتجلى عظمة هذه التجربة في تفكيك "عقدة التمويل" التقليدية، حيث لم تتجاوز التكلفة الفعلية 160 مليون ريال يمني، ساهم المجتمع المحاصر ب 80% منها في رسالة تكافلية تعاونية بليغة ترفض الانكسار أمام سياسات التجويع والتركيع الصهيو-أمريكية؛ فهذا التفاوت الجوهري، الذي جعل مساهمة المجتمع تتفوق بأربعة أضعاف على مساهمة الشركاء، يكشف عن حصانة وعي عالية لدى الشعب الذي أدرك أن الاعتماد على الذات هو الضمانة الوحيدة للنجاة في ظل العدوان، مفضلاً تمويل حماية قراه بعرقه وماله بعيداً عن أجندات التمويل الخارجي التي تهدف إلى إخضاع الإرادة الوطنية، ليتحول المجتمع اليمني من مستهلك للمساعدات إلى صانع للتحولات في أصعب الظروف الجغرافية والسياسية. الملاحم الميدانية وقصص الإنجاز وفي سياق متصل، لفت العراسي إلى أن التحديات الخانقة والمتمثلة في نقص المعدات الثقيلة لم تقف حائلاً أمام الإرادة اليمنية، بل كانت دافعاً لابتكار حلول محلية الصنع أربكت حسابات الحصار؛ حيث تم تحشيد ترسانة شعبية قوامها 70 "كمبريشن" يدوياً من المجتمع مباشرة، تعززت ب 14 أخرى من جمعية ملحان، وصولاً إلى استقدام "كمبريشن هجّاج" عبر وحدة التدخلات الطارئة بوزارة الإدارة والتنمية المحلية والسلطة المحلية. ورغم أن إجمالي ما تم توفيره من معدات بلغ 84 كمبريشن بنسبة إنجاز ناهزت 88% من المستهدف، إلا أن العبقرية الميدانية في توزيع هذه الأدوات حولت قرى ملحان المعلقة في رؤوس الجبال إلى ورشة عمل كبرى لا تهدأ، تضع نصب عينيها هدفاً وجودياً واحداً وهو "اجتثاث اخطار انهيارات الصخور الجاثمة فوق رؤوس السكان"؛ ولم يتوقف دور مؤسسة بنيان التنموية عند حدود التنسيق، بل تجاوز ذلك إلى كسر حدة الحصار الذي يفرضه العدوان عبر إسناد لوجستي حيوي تمثل في توريد 3240 لتر بترول، لضمان استمرارية دوران عجلة العمل في المواقع الوعرة، محولةً أزمة المشتقات المفتعلة إلى وقود للصمود والتنمية. هذا التناغم الفريد بين "الكمبريشن" اليدوي البسيط والإسناد المؤسسي الممنهج، والعزيمة المجتمعية الجبارة مكن المجتمع من اقتحام 91 موقعاً وبدء التنفيذ الفعلي فيها من أصل 130 مبادرة مستهدفة، لتنبثق من صلب هذه الأرقام قصص انتصار يمني خالص على الكارثة؛ ففي مبادرة "شرقي الروضة"، تجسدت التنمية كملكية مشتركة حين حشد المجتمع مبلغ 200,000 ريال يمني مع سواعد أبنائه، لتقابلها الجمعية التعاونية ب 100,000 ريال وإسناد بالمعدات، بينما رفدت "بنيان" المبادرة ب 40 لتر بترول، مما أدى لتحقيق إنجاز كامل سحق مخاطر الانهيار في تلك المنطقة. وعلى ذات الوتيرة الساخنة للاستجابة الميدانية، برزت مبادرة "مواقع زافر" بوادي سيف كنموذج للتحدي، حيث بلغت المساهمة النقدية للمجتمع 350,000 ريال في لحظة استشعار قصوى للخطر المحدق، وهو ما لاقى إسناداً مؤسسياً ب 95 لترا من مادة البترول لضمان ديمومة العمل في تكسير الصخور العملاقة التي كانت تهدد حياة الأبرياء؛ وهي ذات الملحمة التي تكررت في مبادرات "بيت الجعوات" و"المكيل" وغيرها من المواقع الموثقة، حيث تحول الوعي المجتمعي وتشكيل اللجان إلى قوة دافعة سرعت وتيرة العمل، وأكدت للعالم أن اليمنيين لا يستجدون حماية حياتهم من الخارج، بل ينتزعونها بفضل تلاحمهم في وجه السياسات الصهيو-أمريكية التي تراهن عبثاً على كسر إرادتهم وتدمير بناهم التحتية. الدروس المستفادة واستطراداً في قراءة الأبعاد الاستراتيجية لهذا الحراك، جزم العراسي بأن تجربة ملحان باتت "وثيقة تاريخية" تعيد تعريف القوة الوطنية في تلاحمها؛ إذ لم يقتصر النجاح على كبح جماح الكوارث، بل تعداه إلى صياغة سيادة مالية تنموية وضعت المجتمع المحلي في صدارة الممولين، في ردٍ عملي وصفعةٍ سيادية بوجه الحصار الاقتصادي، لتثبت أن التنمية الحقيقية هي التي تنبع من الذات وترفض الارتهان لابتزاز المنظمات الدولية المتواطئة مع أجندات العدوان. وكشفت الأرقام عن معادلة استثنائية تجسد "العلاقة الطردية بين شحة المال وكثافة الإنجاز"، حيث أوضح العراسي أن الإنفاق الفعلي لم يتجاوز 18% من الميزانية المرصودة، ومع ذلك قفزت معدلات الإنجاز الفنية إلى أرقام قياسية، محققةً نسبة 137% في تحديد مناطق التدخل التي شملت 91 منطقة بدلاً من 66؛ هذا التفوق الكيفي الذي اجترح المعجزات ب "فرسان التنمية" وخبراتهم المجتمعية، نجح في استبدال الإنفاق النقدي بالجهد العيني والتطوعي، مقللاً الخسائر المادية ومعززاً استقرار الأسر في قراها. وعلى الرغم من هذا الزخم الشعبي، لا تزال الصخور العملاقة والمعقدة شاخصةً كعائق فني وتحدٍّ وجودي يستوجب استنفار الإسناد المالي وتكثيف الدعم لتوفير مادة "البارود" والمعدات الثقيلة؛ إذ تقف الفجوة التمويلية اليوم كجدارٍ صلب يحتاج إلى تكاتفٍ رسمي عاجل يسبق سباق الزمن مع مواسم الأمطار القادمة، لاسيما وأن مؤشرات الميدان تكشف بوضوح أن إسناد المبادرات لم يرتقِ بعد إلى مستوى ترجمة وعود شركاء التنمية، الذين باتوا مطالبين بالوفاء بتعهداتهم في توفير أدوات تكسير ثقيلة قادرة على اجتثاث ما تبقى من "كتل الموت" الرابضة فوق رؤوس الأهالي، صوناً للأرواح وتعزيزاً لهذا النموذج اليمني المتفرد في التحرر من الوصاية التنموية. وتختتم ملحان اليوم فصلاً من فصول صمودها، لتغدو شاهداً حياً على أن الشعب اليمني، متى ما تحرر من صخور الجهل واليأس واستبدلها بسواعد البناء، تحول إلى قوة لا تُقهر؛ إنها قصة نجاح نموذجية يجب أن تُعمم كمرجع للتكافل في كافة المديريات، مؤكدة أن معركة التحرر من التبعية للخارج تبدأ من امتلاك زمام المبادرة في الداخل، وأن إرادة الشعوب هي الممول الأقوى والأبقى في وجه غطرسة القوى الصهيو-أمريكية وأدواتها التخريبية. ملحان.. معركة تعافي بسلاح المبادرة المجتمعية لم يكن تحشيد السواعد لتفتيت الصخور في مديرية ملحان مجرد إجراء وقائي معزول، بل جاء كحلقة جوهرية ضمن برنامج تعافي شامل وخطة إعمار استراتيجية، انبثقت لتكتب فصلاً متكاملاً من قصص الصمود في وجه الكوارث الطبيعية والمفتعلة؛ إذ يكشف تقرير المتابعة التفصيلي الأخير عن حراك تنموي واسع، ترجمته لغة الأرقام إلى إنجازات سيادية فاقت التوقعات، في حين ظلت بعض المسارات ترقب تعزيز الإمكانيات لتجاوز بطء الخطوات الناتج عن شحة الموارد المفروضة قسراً. في قراءة تحليلية للمشهد المالي، بلغت التكلفة الإجمالية التقديرية للمشاريع المنفذة ضمن البرنامج الطارئ نحو 1.117 مليار ريال يمني؛ وهنا تتجلى الدلالة السياسية العميقة للروح التكافلية، حيث شكّلت مساهمات المجتمع وفاعلي الخير الثقل الأكبر والعمود الفقري لهذا التعافي، متجاوزة 719 مليون ريال. وبحسب البيانات الموثقة، فإن هذا العطاء الشعبي مثل الدافع المحفز لمساهمات الشركاء التي بلغت 151.62 مليون ريال، كما بادرت مؤسسة بنيان التنموية لإسناد البرنامج ب 246.50 مليون ريال، مما يثبت أن الرهان على "الداخل" هو الضمانة الوحيدة لكسر حلقات الارتهان للمنظمات الدولية التي تقتات على أوجاع الشعوب. لقد شكلت إعادة تأهيل البنية التحتية المتضررة الركيزة الأساسية للخطة، حيث شهد مضمار الطرق ملحمة إنجاز كاملة بتأهيل 33 طريقاً حيوياً بنسبة نجاح بلغت 100%، ولم يتوقف الأمر عند حدود الطرق، بل امتدت الإرادة اليمنية إلى الملف الأكثر كلفة وحساسية وهو "إعادة إعمار المنازل المتضررة كلياً"، فبرغم تخصيص مبلغ 375 مليون ريال لهذا الملف، إلا أن الإنجاز الميداني تمرد على الأرقام المخططة، ليتم إعمار 63 منزلاً بدلاً من 59، محققاً نسبة إنجاز بلغت 106.78%، في استجابة مرنة تعكس جدية المؤسسات المنفذة في حماية حق المواطن في الإيواء والكرامة. وعلى ذات النهج المتسارع، استعادت الخدمات الحيوية أنفاسها بنسبة إنجاز بلغت 70% في ترميم المدارس والمرافق الصحية، تزامناً مع معركة أخرى على جبهة "الأمن الغذائي"، حيث تم استصلاح وتأهيل 7,500 لبنة من الأراضي الزراعية من أصل 8,000 لبنة مخططة، بنسبة بلغت 93.75%؛ فيما تظل ال 500 لبنة المتبقية خارج الخدمة بمثابة نداء استنهاض لاستكمال إعادتها إلى دائرة الإنتاج، لقطع الطريق أمام سياسات التجويع التي تمارسها القوى الصهيو-أمريكية ضد المجتمع اليمني المقاوم. وفي مسار موازٍ، يبرز مشروع "القروض البيضاء" لتمكين الأسر المتضررة، الذي استهدف في مرحلته الأولى 17 أسرة من أصل 90، بانتظار استكمال الترتيبات التمويلية لتمكين بقية الأسر، في خطوة تهدف إلى نقل المجتمع من مربع الإغاثة إلى مربع الإنتاج؛ أما في ملف حصاد المياه، فقد كشفت وثيقة النفقات عن إنجاز 62 خزاناً مائياً منجزاً كلياً من أصل 77 معتمداً في المرحلة الأولى، بتكلفة بلغت 13.25 مليون ريال، بينما تخضع 9 خزانات أخرى لعمليات التشطيب النهائية، لتكتمل لوحة الصمود التي تثبت أن ملحان لم تكتفِ بمنع سقوط الصخور، بل بنت فوق تلك الجبال نموذجاً للتعافي والسيادة يُحتذى به.