في هذا الزمن العربي الكئيب، المليء بالمشاحنات والمتناقضات، امتزج الخطاب السياسي بالخطاب الديني امتزاجًا جدليًا غير مسبوق؛ فالسياسي يتحدث عن السياسة من منظور حزبي أو مذهبي أو طائفي، وكلٌّ يتحدث في الدين وباسم الدين، فإذا بالسياسة قد سُلب منها ثوب الكبرياء، وإذا بالدين قد سُلبت منه المهابة، والكل يغني على ليلاه. في مفهوم الدين ننطلق من دائرة المسلّمات لنصل إلى ترسيخ المعتقد، وفي مفهوم السياسة نلقي الأسئلة باحثين لها عن أجوبة وحلول، على أساس أن السياسة هي فن إدارة الممكن. من هنا ندرك أن هناك فرقًا بين السياسة المدنية والسياسة الشرعية، أما الذين يخلطون بين السياسة المدنية والسياسة الشرعية فهم واهمون، ولهم أهداف حزبية أو مذهبية أو جهوية؛ لذلك لا بد من ضوابط، والرجوع إلى مصادر التشريع كلما جدّت النوازل. ومن القضايا الفكرية التي راجت بين علماء الإسلام ومفكريه قضية العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ فالحاكم مسؤول مسؤولية مباشرة عن رعيته، وهو الذي يتولى مهام التنظيم السياسي والديني في الدولة، ويتابع شؤون رعيته. فالإسلام دين ودولة معًا؛ فنصّ مثلًا على مبدأ الشورى، أما التفاصيل فمتروكة لظروف كل عصر من العصور. ومن هنا ندرك أن الحكم مسؤولية وأمانة تطوّق عنق الحاكم، وأن الإمارة قربة يُتقرب بها إلى الله؛ إذ إن وظائف الحكم في الإسلام ذات مقاصد مادية وروحية معًا، عكس مقاصد الحكم في الدول الغربية. ومن ثمّ يجب على الحاكم أن يلتزم بأداء الواجبات والحقوق في رعاية مصالح المحكومين، وأن يُعطي كل ذي حق حقه، وأن ينأى عن اعتبارات المحسوبية والقرابة. ومن القيود التي قررها فقه السياسة الشرعية مراعاة أوضاع الرعية والرفق بهم، فلا يأخذهم بالشدة والعنف والقمع؛ لأن الظلم مؤذن بالخراب والدمار والزوال. ومن القيود التي تقيد الحاكم وأعوانه ألّا يدخلوا في الصفقات العامة بائعين أو مشترين؛ لأن تجارة الولاة مفسدة للرعية. كما لا يجوز للولاة قبول الهدايا، ولا الإقدام على أعمال متعلقة بالتجارة كالمؤاجرة والمساقاة والمزارعة. ولذا كان على الحاكم أن يكون قائمًا بأمر الله، حاكمًا عادلًا، راعيًا لأمانته وعهده، ومن هنا وجبت على الأمة الطاعة والنصرة. صفوة القول: يقول فقهاء السياسة الشرعية إن الخروج على الإمام العادل بأمر الله يُعد بغيًا مؤثمًا؛ فهو خروج بغير وجه حق. أما النصرة فهي واجبة على المسلمين، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم». وهي تعني إسداء النصح والنقد النزيه البنّاء. وقد أكد فقهاء السياسة الشرعية أن الطاعة مقيدة للحاكم ما دام يقيم حكم الله قائمًا بالقسط، فإذا انحرف سقط عنه حق الطاعة، ولم يُستجب لأمره. وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والأساس الذي بُعث به الأنبياء والمرسلون أجمعون، فإذا طُوي بساطه وأُهمل علمه وعمله، سادت الفوضى، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وظهر الفساد في البر والبحر، وعمّ الخراب، وهلك العباد. نافذة شعرية: ارفع يديك عن السلاح لا خير فيه... ولا نجاح ديني ودينك واحد كلنا نقول: حيّ على الفلاح فَلِمَ يقتل بعضُنا بعضًا ونُسرف في الجراح؟ فلنعتبر من العراق أو سوريا، يا كل صاح يكفي قتلنا بعضَنا بعضًا فأمدد يديك إلى يدي معًا لنطير بلا جناح واحذر خفافيش الظلام وكل أبواق النواح هذه بلادي... بلاد العز فتعال ننسج بالوئام والسلام كلَّ رائعةٍ وشاح تعال نحيا بالسلام تعال نحيا بالوئام